المشعل والمصباح
بقلم: محمد بودهان//
عندما أستعملُ عبارتي “الشذوذ الجنسي” و”التحوّل الجنسي”، بالمدلول الأصلي للفظ “جنسي” الذي يعني “القومي” و”الهوياتي و”الوطني”، لوصف تلك الحالة السائدة في المغرب من التنكّر للهوية الأمازيغية وانتحال الانتماء العربي، فليس ذلك تجنّيا ولا مبالغة. فكل الوقائع تؤكّد هذا الشذوذ وهذا التحوّل، وهذا التنكّر وهذا الانتحال، مثل ما قام به، مؤخرا، مسؤولو حزب “المصباح” (“المصباح” رمز حزب العدالة والتنمية، “البيجيدي”)، من برلمانيين وأعضاء في الحكومة، من استقبال أسطوري للقيادي البارز في حركة حماس السيد خالد مشعل. لقد تعاملوا معه كـ”مِشعل” حقيقي (بكسر الميم) يستمدّون منه النور لـ”مصباحهم” الذي خفت نوره، ولم يعد يضيء بشكل جيد. وحتى يعمّ نور “المِشعل” كل مكوّنات “المصباح”، لم يتردد هؤلاء المسؤولون في حشد “القنديلات” (تسمية تُطلق على مناضلات “البيجيدي”) لاستقبال “المِشعل”، حيث تحلقن حوله يلتمسن منه النور لقناديلهن الفاترة، كالفراشات التي تجتذبها الأضواء القوية، مع التدافع في ما بينهن للظفر بمكان بجانبه في الصورة التذكارية الجماعية.
وما كنا لنثير مسألة هذا الاستقبال لو لم يغادر نواب “البيجيدي” مهامهم البرلمانية، وينسحبوا من لجنة الداخلية ولجنة التعليم والثقافة والاتصال يوم 25 دجنبر 2017 (انظر الخبر على موقع “شبكة أندلس الإخبارية” ليوم 26 ديسمبر 2017) ليكونوا في الموعد لاستقبال ولقاء “مِشعلهم”. إن تفضيلهم استقبال السيد خالد مشعل على أداء مهامهم البرلمانية، التي من أجلها انتُخبوا ومن أجلها يتقاضون الملايين، ليست نكثا فقط لالتزامهم الانتخابي تجاه الذين صوّتوا عليهم، ولا إخلالا بالاحترام الوجب للنيابة البرلمانية، وإنما يعبّر، على مستوى تمثّلهم، كمتحولين هوياتيا، للمشرق العربي ولشخصياته السياسية والفكرية والثقافية، عن علاقة المولى بسيده، والمريد بشيخه، حيث يمثّل السيد خالد مشعل، بما يرمز إليه من عروبة وبطولة وصمود ومقاومة في نظر هؤلاء المتحوّلين، السيدَ والآمر والمقتدر، والشيخَ والإمام والقدوة، مقابل تمثيل المرحّبين به لدور المولى التابع المطيع، والمريد الخدوم السادن، الذي لا يحلم بأكثر من أن يقبل السيدُ طاعتَه ويرضى الشيخُ عن خدمته وسدانته. ولهذا رأينا علامات فرح طفولي ترتسم على وجوه هؤلاء “الموالي” و”المريدين” عندما ذكّرهم “سيدهم” و”شيخهم”، في كلمة له بمناسبة عرس استقباله، بالانتماء العربي للمغرب، حيث حكّ لهم في المكان الذي يريدون من جِلدهم، كما يقول المثل الشعبي، وذلك لأن أقصى ما يتمنّونه هو أن يعترف عربي حقيقي (هل السيد خالد مشعل عربي حقيقي؟) بعروبتهم التي يشكّون فيها، هم أنفسهم، ما لم يصادق لهم على قبول انتمائهم إليها عربي يعتبرونه أصيلا لأنه قادم من الشرق الأوسط.
قد لا يظننن أحد أن كل هذا الاهتمام الزائد لدى “البيجيدي” بفلسطين، وبكل قادم من فلسطين، مردّه هو توجهه الديني الذي يعلنه كحزب “إسلامي”، وذلك بسبب قضية القدس التي تكتسي طابعا دينيا إسلاميا. هذا غير صحيح أبدا. والدليل على ذلك أن محسوبين على اليسار والعَلمانية، وفي خصومة معلَنة مع “الإسلاميين”، استقبلوا، هم أيضا، “المِشعل” بكل الترحاب والحفاوة، أملا في أن يشملهم نور إشعاعه الوهّاج. أما بالنسبة لحزب “البيجيدي”، فهو، بموقفه المعادي للأمازيغية، أبعد عن الإسلام الذي يدّعيه. لماذا؟ لأن الإسلام لا يعادي هويات الشعوب غير العربية، ولا يدعو إلى تعريبها وتحويلها الجنسي، من الجنس الطبيعي الأصلي إلى الجنسي العربي المنتحَل، كشرط لصحة إسلام غير العربي. فلو كان “البيجيدي” حزبا إسلاميا يلتزم بتعاليم لإسلام، لدافع عن الهوية الأمازيغية للشعب المغربي وللدولة المغربية. وفي إطار هذه الهوية الأمازيغية، يمكن “للبيجيديين” أن يدافعوا عن القدس وفلسطين باسم انتمائهم الأمازيغي، كما يفعل الأتراك الذين يقدمون خدمات جليلة للقضية الفلسطينية، ولكن باسم انتمائهم التركي، وليس كمتحولين جنسيا إلى الجنس العربي، كما يفعل المغاربة المتضامنون مع فلسطين لأسباب عرقية وليست إسلامية ولا حتى إنسانية.
نريد، بهذه الملاحظات، تبيان أن تبعية المغرب الهوياتية، وما يستتبع ذلك من تبعية فكرية وثقافية ولغوية وفنية ودينية (المذاهب السلفية)، للمشرق العربي، لا تقتصر على “الإسلاميين”، بل هي حاضرة عند اليسار واليمين، عند العلمانيين والسلفيين، عند المخزنيين والمعارضين… إنها ثقافة عامة لعهر هوياتي زرعته ورعته ونمّته سياسة التحويل الجنسي للمغاربة إلى الجنس العربي، التي تسمى بسياسة التعريب. لكن اللافت أن المغاربة، الذين يعتقدون أنهم عرب نتيجة لهذه العملية من التحويل الجنسي الهوياتي، يتصرفون دائما بالشكل الذي يُظهرهم أنهم عرب أكثر من العرب، وفلسطينيون أكثر من الفلسطينيين، كما يدلّ على ذلك غلوّهم في الدفاع عن القضايا العربية والتضامن مع فلسطين، حيث ينظمون، للتعبير عن ذلك الدفاع والتضامن، مسيراتٍ مليونية لا مثيل لها لدى الشعوب العربية الحقيقية بالشرق الأوسط. والاستقبال الأسطوري الذي خصوا به “مِشعلهم” مثال على هذا الغلو، إذ لم يسبق للسيد خالد مشعل أن استُقبل في أي بلد عربي حقيقي بالشرق الأوسط بمثل هذه الحفاوة التمجيدية التي حظي بها في المغرب، ولا سبق أن اعتُبر في أي من تلك البلدان “مِشعلا” يتهافت عليه الهائمون بحبه، كما يفعل التعريبيون المغاربة، ليغنموا بريقا من نوره وإشعاعه. لماذا إذن هذا الغلو، لدى المتحولين المغاربة، في مظاهر التعبير عن انتمائهم إلى العروبة؟ لأنهم، هم أنفسهم، لا يصدّقون أنهم عرب، لقناعتهم اللاشعورية أنهم أمازيغ أفارقة، وليسوا عربا. ولهذا عليهم، حتى يصدّقوا أنهم عرب كما يدّعون، أن يتصرّفوا، عبر هذا الغلو، كعرب يبزّون بعروبتهم العرب الحقيقيين. وهو ما يؤكد، في النهاية، أنهم مجرد متحولين وعرب مزوّرين، وليسوا عربا حقيقيين (انظر موضوع: “عندما يكون الغلو في الانتماء إلى العروبة دليلا على الانتماء إلى الأمازيغية” ضمن كتاب “في الهوية الأمازيغية للمغرب” = http://tawiza.byethost10.com/identite.pdf).
الأسوأ في هذا العهر الهوياتي الذي نشرته سياسة التحول الجنسي بالمغرب، هو أن كل شخصية عربية، سياسية أو فكرية أو فنية، فاشلة بموطنها في الشرق الأوسط، تأتي إلى المغرب فيحتفي بها المتحولون كنموذج للنجاح والانتصار، يجب الاقتداء به واتباعه، مكررين ما فعله أجدادهم الأمازيغ مع إدريس الأول الفاشل والهارب إلى المغرب، والذي استقبلوه كبطل مغوار، وبايعوه سلطانا وهو الذي لم يكن يحلم سوى بالنجاة بجلده. إن هذه المظاهر من تبعية المغاربة للمشرق العربي، كنتيجة لسياسة التحول الجنسي، أصبحت تُمارس كسلوك مازوشي ودياثة هوياتية، يشعر أصحابها بالغبطة والسعادة عندما يتنازلون عن كرامتهم الهوياتية، ويتبنّون هوية عربية أجنبية ليست لهم، ولا يعترف لهم بها أصحابها الحقيقيون، الذين يعتبرونهم دائما مجرد “بربر”. وحقيقية، هؤلاء المتحولون، بتنازلهم عن أمازيغيتهم، اختاروا أن يكونوا “بربرا” ولم يبقوا أمازيغيين.
من جهة أخرى، وارتباطا بهذه التبعية الهوياتية للمشرق العربي، بكل نتائجها ومستتبعاتها، فإن إعطاء نواب “البيجيدي” الأولوية للقاء “مِشعلهم” على واجبهم النيابي، يترجم أن القضايا العربية، التي هي قضايا أجنبية، أولى بالاهتمام والأسبقية من القضايا الوطنية، كتلك التي كانت موضوع مناقشة اللجان التي غادروها مهرولين لاستقبال سيدهم وشيخهم. وهذا شيء منطقي بالنسبة لهؤلاء الذين أصبح وطنهم الأول، الذي يرتبطون به روحا ووجدانا وإيمانا، نتيجة لما تعرضوا له من تحوّل هوياتي وقومي، هو فلسطين ونجد وسوريا والعراق… وليس صدفة أن الوفد المرافق لـ”مِشعلهم” أهدى لهم حفنة من تراب القدس، كإشارة إلى أن وطنهم هو تلك الأرض التي تضم ذلك التراب. أما المغرب فهو وطن يرتبطون به جسديا وماديا فقط، كمصدر لاغتنائهم السريع من خلال الأجور الكبيرة والتقاعد المريح غير المستحقّ، والامتيازات الكثيرة الأخرى. ومن هنا نفهم لماذا لا يكنّ هؤلاء المتيّمون بوطن “مِشعلهم” أي ودّ للأمازيغية، لأنها تذكّرهم أن الوطن الحقيقي هو المغرب، وأن من يتنكّر لهذه الأمازيغية ويخونها فهو يتنكّر للمغرب ويخونه. فهل يمكن الاطمئنان إلى الاستئمان على الوطن من يتعاملون معه كمجرد وسيلة لأن لهم أوطانا أخرى يعتبرونها غاية؟
التعليقات مغلقة.