تعرف بلادنا صراعا، علنيا تارة وخفيا تارة أخرى، حول مستقبل المجتمع والدولة، إذ هناك من يدعو إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية على أساس قِيَّم ومؤسسات وآليات تنهض على ما أنتجته البشرية من فكر حداثي ديمقراطي… ويعني ذلك الفصل بين الدين والدولة، ثقافة وسياسةً واجتماعاً، دون إنكار ما في الدين من قِيَّم إنسانية عُليا… وإذا لم يتمّ هذا الفصل، فلن يكون العمل من أجل التحرر والتقدم سوى انتقال من وضع يتسم بغياب الديمقراطية إلى استبداد أخطر منه…
وهناك من يدعو إلى إقامة “دولة الخلافة” أو دولة شبيهة بـ “دولة ولاية الفقيه” التي ترفض مواثيق حقوق الإنسان العالمية التي صادق عليها بلدنا باعتبارها مرجعية كونية للحقوق والحريات. ويعود ذلك إلى أن أصحاب هذه الدعوة يعتقدون أن هذه المواثيق تتعارض جذريا مع الشريعة الإسلامية. لكن ما ينساه هؤلاء – أو يتناسونه – هو أن الله لا يريد من المسلمين أن يقيموا له دولة دينية. نعم، لقد فصَّل القرآن في طريقة الأكل والشرب والنوم، وما إلى ذلك، لكن لم يَرِد فيه أي تفصيل عن مفهوم “دولة إسلامية”. كما أن الرسول قبل وفاته لم يتحدث عن “الخلافة”، حيث أمر أبا بكر بإمامة الصلاة بعده ولم يأمره بخلافته له. لذلك، فالله لم يُكَلِّف المسلمين بإقامة “دولة إسلامية”، ولم يشرح لهم كيفية إقامتها، ما يعني أن “دولة الخلافة” هي مجرد اجتهاد لصحابة الرسول أدى إلى صراع المسلمين على السلطة والثروة، نجم عنه انشقاق المسلمين إلى سنة وشيعة لازال قائما إلى أيامنا هذه… وهذا ما أدى إلى فشل”الدولة الدينية” التي لم ينتج عنها سوى الانقسامات، ومواصلة التطاحنات السابقة، بما يلازمها من سفك للدماء وحرق للحرث والنسل.
وبتـأمُّل هذا الصراع، نستخلصُ أنه يدور أساسا حول الهوية، إذ هناك من يعتقد بضرورة تحويل المجتمع المغربي إلى جماعة أصولية إسلاموية تحدَّدت معالمها وأبعادها من قِبَلَ “السلف الصالح” ولا شأن فيها لغيره. فالمثل الأعلى لدعاة “الدَولة الإسلامية” هو العودة إلى ماضٍ مع أنه في عمقه يناقض جذريا الحاضر والمستقبل، كما أنه يعادي العقل والعقلنة، ويرفض التنوّع وحقّ الإنسان في اختياراته ومعتقداته، ما يترتب عنه تعطيل العقل والفكر، وإغلاق أبواب الحريّة والتّقدّم.
استخدام هؤلاء للدِّين سياسيا هو نوعٌ آخَر من العنف ضدّ الإنسان، على جميع المستويات، الاجتماعية والسّياسية والثقافيّة… ما يعني أن الأمر يتعلق باستبداد أكثر شمولا يرمي إلى القضاء على الإنسان والطبيعة.
لذلك، فاستخدام هؤلاء للدِّين سياسيا هو نوعٌ آخَر من العنف ضدّ الإنسان، على جميع المستويات، الاجتماعية والسّياسية والثقافيّة… ما يعني أن الأمر يتعلق باستبداد أكثر شمولا يرمي إلى القضاء على الإنسان والطبيعة.
وعلى النقيض من ذلك، يرى الحداثيون ضرورة تحويل المجتمع إلى مجتمع حداثي ديمقراطي ينهض على حريات الأفراد وسيادتهم على قراراتهم واختياراتهم، وينبذ العنف بجميع أشكاله ومستوياته، ويضمن التعددية والاختلاف والتنوُّع، ويسعى إلى الأخذ بأسباب التقدم لمصلحة الوطن والفرد والمجتمع وأجيال المستقبل، وذلك عبر فصل الدين عن الدولة، وتحرير المرأة من الأحكام الفقهية التي تحول دون مساواتها مع الرجل في الحقوق والحريات.
تبعا لذلك، ينبغي العَمَل على تغيير ثقافة المجتمع ومؤسساته، وأن يتم ذلك التحوُّل بأسلوب سلمي، وديمقراطيّ، وأن يتجنّب العنف بمختلف أشكاله وأنواعه.
إذا كانت جماعات الإسلام السياسي تتمسك بهوية مغلقة، فإنها تغفل – أو تتغافلُ عن – أن الهوية لا تأتي من داخل الفرد وحدَه، ولا من خارجه وحدَه؛ فهي في تفاعل دائم بينهما، وبينهما معا والبيئات المجاورة لهما، بما يلازم ذلك من أخذ وعطاء، ما يمكن القول معه إن الهويّة صيرورة لأنها ليست في ما يثبت، بل في ما يتغيّر. إنها تتجلى في “الاتجاه نحو”، وليس في”العودة إلى”. كما أنها تكمن في التفتُّح وليس في التقوقع، في التفاعل وليس في العزلة، في الإبداع، وليس في التكرار والاجترار. لذلك، فهوية الفرد هي جدلٌ بين ما هو كائن وما سيكون، ما يجعلها حركيّة دائمة في اتجاه أفق آخر، وضوءٍ آخر (أدونيس). من هذا المنظور، تكون هوية الإنسان أمامه أكثر مما هي وراءه، لأن الإنسان مشروع منفتح على الدوام، وإرادة تغيير وخلق لا تتوقف، ما يجعل الهوية إبداعا، لأننا نبدع هويتنا عبر إبداعنا لفكرنا وذواتنا وحياتنا وتاريخنا
التعليقات مغلقة.