كان سيغموند فرويدSigmund Freud يعتقد أن المؤشر الدال على ميلاد الحضارة البشرية هو استعمال الانسان للكلمات بدل اللكمات، أي بصيغة أوضح حين تخلى الإنسان عن استخدام العنف الجسدي والضرب بالحجر و العصا دفاعا عن النفس، واستبدله بالكلام والحوار.
بدأت الحضارة حين اعتمد الإنسان اللغة بدل العنف، أي العقل بدل الغريزة. لكن الأنتروبولوجية الأمريكية مارغاريت ميدMargaret Mead لها موقف مغاير تماما إذ تعتبر أن العلامة الدالة على بدء الحضارة البشرية هو شفاء الانسان من كسر فخذه واستمراره في العيش. لماذا؟
لأن ذلك يعني أن هناك من ضمد جراحه واعتنى به و وفر له الملجأ و الأكل و اهتم برعايته إلى أن تماثل للشفاء. فلو ترك ذلك الانسان لوحده لكان مصيره المحتوم هو الموت لأنه سيكون فريسة سهلة للحيوانات التي تتربص باللحم النيء ويسيل لعابها للجرح. إذ لو ظل لوحده في الغابة أو في الحقل أو في الوادي بدون حركة لصار لقمة سائغة للحيوانات المفترسة.
أما الاستنتاج الذي وصلت إليه مارغاريت ميد، من خلال هذه الواقعة الدالة، فهو أن التعاون أساس الحضارة، إذ حين فكر الانسان البدائي في مد يد المساعدة لفرد مكسور الفخذ، فإنه كان يضع اللبنات الأولى للحضارة البشرية.
إن التعاون بين الأفراد يعني أن هناك اهتمام بالآخرين وتضحية من أجلهم وانشغال بوضعياتهم. الأمر الذي يدل على وجود مبدأ التضامن بين الناس، و هو شرط ضروري لبناء العيش المشترك. ولكي تسود القيم السالفة الذكر كان لا بد من تراجع قيم أخرى مثل الأنانية والتجاهل والكراهية.
فالإنسان البدائي حين تنازل عن مثل هذه الصفات المترسخة في الطبيعة البشرية، فتح الباب واسعا أمام تجربة حياتية جديدة لا حدود لها، ستفضي إلى إنشاء مجتمع وأعراف و قوانين و دولة، وهي مقومات ضرورية لتدبير الشأن العام. وعليه فالسلوك الحضاري الأول الذي صدر عن الإنسان هو الاهتمام بالغير والتضحية من أجله ومد يد المساعدة له.
وهذا السلوك البسيط هو الفيصل بين التوحش والتمدن وهو الذي سيرسخ لاحقا قيم التضامن و الإيثار و التعايش. قيم ما زالت سائدة إلى اليوم في المجتمعات البشرية و هي التي تؤطر التشريعات و المؤسسات و السياسات العمومية، رغم كل التهديدات والإكراهات التي تترصدها والتي تريد أن تعود بنا إلى الوراء في كل مرة تخطو فيها الحضارة البشرية خطوات إلى الأمام.
وهي تهديدات منشأها المصالح المتناقضة والأطماع الاقتصادية والسياسية والغلو الديني والعمى الإيديولوجي وكذا الطبيعة البشرية الميالة إلى الأنانية و العنف. ألم يقل “طوماس هوبز” يوما ما أن ” الإنسان شرير بطبعه” وهو” ذئب لأخيه الإنسان”.
المكي بوسراو
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.