العلمانية
محمد شنيب//
هذه الكلمة التي كثيرآ ما نسمعها منذ مدة ويشعر الكثير من سكان شمال أفريقيا والشرق الأوسط بالإستفزاز والتضايق منها لأنها تعني للكثير منهم وعن طريق الخطاء أنها تعني الإلحاد أو عدم الإعترافبالدِّين…
وهناك بعض الناس يعتقدون بالخطأ أن أصلها يأتي من إمتداد الفكر الماركسي أو الشيوعي بالرغم من أن النظرية الماركسية هي نظرية إقتصادية عالجت البنية الطبقية للمجتمعات والمسيطر عليها من طرف الرأسمالية وطرحت المخرج منها بسيطرة الطبقة العاملة وتحقيق النظام الشيوعي الذي ينهي وجود الطبقات ولم تتولى المركسية البحث في علوم اللاهوت والأديان ولم تحارب الدين بل قد يكون لها نظرة في تفسيرات الواقع الإجتماعي والطبقي وقبوله كأمر قدري ولاهوتي وبالذات من الطبقات المسحوقة…!!!
في واقع الأمر إن العلمانية هي نتاج الواقع الحداثي الذي عاشته وتعيشه الدول الحداثية المتقدمة وليس لها علاقة بالإلحاد ورفض الدين أيا كان هذا الدين.فالعلمانية وبأبسط التعريفات التي ممكن أن تعطى لها هي:
فصل الدين عن الدولة وبحيث يكون الوطن للجميع على مختلف إيمانهم ومعتقداتهم الدينية التي يرونها ويؤمنون بها والوطن لكل الناس الذين ينتمون له بالرغم من إختلافاتهم العقائدية.وهذا يعني أن القوانين الوضعية والمستقاة من دستور الدولة هي الملزمة للمواطنين في الحياة اليومية وأن مزاولة الدين تنحصر في تطبيق الطقوس الدينية على المستوى الشخصي في العلاقة بين الشخصي والخالق…
أي بمعنى الإعتقاد والإيمان يصبح شخصي يربط الإنسان بدينه ومعتقده ومن تم الإيمان بالخالق وبدون أي مساس بإرتباطه وإنتمائه الوطني ومماراساته اليومية في الحياة طالما تحترم القوانين المعمول بها في البلاد والتي تحترم الآخر؛بينما يتولى متابعة تطبيق القوانين الوضعية وإحترامها القوة الأمنية (الپوليس والنيابة والمحاكم).
وبهذا فالعلمانية تعترف بكل الأديان وتحترم وجودها وتعطيها المساحة الشخصية لكل إنسان أراد أن يمارسها على صعيده الشخصي وبدون أي فرض على آي شخص إتباع الدين أيآ كان بشكل جماعي وبدون الرجوع إلى الجماعة فيما يخص الدين ؛أي بمعنى أن العلمانية تختزل الدين في اطار الشخص وليس الجماعة.وفي هذا الخصوص يلتقي الناس في شيئ أساسي ألا وهو الوطن الذي يلتقي فيه المسلم والمسيحي واليهودي وكل من يؤمن بآي دين أو مذهب آخر وكل من هو لا مؤمن.
هذا يعني الإنتماء للوطن الذي يحدد الهوية ولكل فرد في الوطن مطلق الحرية في إختيار دينه وإيمانه. وبذا تصبح الهوية والإنتماء للوطن وليس للدين أو حتى القومية التي قد تؤدي إلى الشوفينية والفاشية.
هذا يعني أن حرية الفرد هي أساس العلمانية لإنها لاتفرض على الشخص إتباع دين معين ولا تطلب من الشخص ألا يكون مؤمنآ بأي دين يراه ويختاره ويراه صحيحآ،كما أن العلمانية لا تفرض دين معين على الوطن بل توفر حرية المعتقد، أي أنها لا تؤمن بالأحادية العقائدية و الفكرية؛بمعنى أنه من الممكن أن يكون الإنسان مؤمن بدين من الديانات التوحيدية الثلاث أو غيرها من الأديان أو أن يكون لا مؤمنآ (كما جاء في سورة الكافرون الآية السادسة “لكم دينكم ولي دين”) ويكون علماني في ممارساته الحيانية في الإيطار الوطني.
ما حدث في منطقة الشمال الأفريقي والشرق أوسطي بشكل عام هو الخلط والغلط العجيب في تعريف هذه الكلمة،هذا الذي كان سببه وجود تيارات إسلامية متطرفة من وهابيين وسلفيين وما نسميه الإسلام السياسي وبالذات جماعات وتنظيمات وأحزاب الإخوان المسلمين من جانب ومقابلها من التنظيمات السياسية العروبية والقومية وتلك التي إرتبطت بالعساكر الذين إستولوا على مقاليد الحكم بالإنقلابات العسكرية،وكان هؤلاء العسكر وبالذات الذين كانوا يدعون أنهم علمانيون وإشتراكيين بمختلف تسميتهم التي أطلقوها على “إشتراكياتهم” من الشرق الأوسط سواء كانوا قوميون عرب أوبعثيين .وحاول الكثير من هؤلاء وبالذات العسكر إيجاد تبرير “ديني” لتمرير وتطبيق ما كانوا يسمونه إشتراكية إسلامية؛ وهم بهذا تناسوا أن الدين ليس نظام إقتصادي وأنما الدين هو ذو جوانب لاهوتية روحية بالدرجة الأولى تربط إيمان الإنسان (العبد) بالإله(الخالق) وبأن هذه العلاقة الروحية هي علاقة شخصية تلزم المؤمن بتطبيق طقوس دينية وعبادة معينة (قد تختلف من دين لآخر) ولا تدخل في النظام الإقتصادي الوضعي والمتغير حسب المراحل التاريخية والإجتماعية التي يعيش فيها هذا العالم.
هذا من جانب أما في الجانب الآخر فكان هناك التيارات الدينية المختلفة آلتي حاولت إدخال وتصر على إقحام الدين في السياسة وفي منطقة الشرق الأوسط والشمال أفريقي ما يعرف اليوم بالإسلام السياسي. ويلتقي الفكر القومي العروبي مع الإسلام السياسي في إلغاء الوطن والمواطنة؛فبالنسبة للقوميين يؤمنون بالوطن “العربي” الكبير الذي يتجاهل الخصوصيات الوطنية التاريخية والثقافية والمكونات الإجتماعية المختلفة والمكونة لهذه المجتمعات، وكذلك الواقع الجغرافي لكل وطن وهم بهذا ليسوا إلا شموليون بينما العلمانية هي بعيدة كل البعد عن الشمولية فهي وليدة الحداثة وتؤمن بالتعددية وليس الأحادية الشمولية وبذا فإن القوميون لا يمكن أن يكونوا علمانيون لإنهم يسقطون في مستنقع الأحادية الإثنية. ولأن القوميون روجوا وربطوا فكرهم القومي الضيق كما ربطوا عدم الإيمان بالأديان بالفكر القومي “العربي” بجميع أنواعه وإعتقدوا بهذا أنهم علمانيون وما أبعدهم عن هذا.
كما يتجاهل الإسلام السياسي هذه الخصوصيات التي تخص كل وطن على حدة. وهذا أدى إلى تشتت المواطن بين هويته وإنتمائه الوطني وما سمي بهتانآ إنتمائه “القومي” بالنسبة للقوميين العروبيون وإنتمائه الديني بالنسبة للإسلام السياسي وكلا التيارين يلتقيان في الأحادية سواء كانت أحادية دينية أو أحادية إثنية ؛وأدى أيضآ إلى ظهور منظيمات ضعيفة وليس لها أي أثر في واقع السياسة الذي نعيش فيه، وخير دليل على ذلك وجود منظمتين كتلك التي تسمى “الجامعة العربية” (التي كانت أصلا من إيحآت وتوجيهات بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية) والأخرى التي تسمى المؤتمر الإسلامي (التي كانت حقنة مخدر لإيهام الشعوب الإسلامية بإمكانية رجوع نظام الخلافة) وكلا المنظمتين كما نعرف لم يقوما بآي شيئ يذكر في تاريخ منطقة الشرق الأوسط والشمال الأفريقي خلال الأزمات التي تعرضت لها ومرت بها منطقة الشرق الأوسط والشمال الأفريقي…
أما العلمانية،فإن مسارها هو مختلفآ عن هاذين المسارين حيث أنه تحي وتكون وتدفع بالإيمان بالوطن والمواطنة الحقة التي تعترف بكل المواطنين وبدون أي تمييز إثني أو ديني وتنمي عندهم الإنتماء وحب الوطن وتعترف بحق كل مواطن في إختيار إتجاهه الثقافي والسياسي وبكل حرية يكفلها الدستور والقانون،الحرية التي تنتهي عند بداية حرية الآخر وتحترمها ولا تتداخل معها. ولنا خير مثال على ذلك فيما حدث في الدول الأوروپية التي إستطاعت أن تنشئ تحالفات أوصلت أوروپا إلى أن تصل إلى إتحاد إقتصادي وتصبح قوة إقتصادية تناهز الولايات المتحدة وروسيا والصين وبدون إعطاء أي إعتبار للإرتباط الديني أو الإثني لمواطنيها بل تبنت التعددية في كل شيئ وإعترفت بالإنسان كإنسان سواء كان أنثى أو ذكر.ولم تؤمن بوجود علمانية ترتبط بوطن معين فليس هناك علمانية وطنية وكما يردد الكثير ممن إختلط عندهم مفهوم العلمانية بل هناك علمانية تعتمد حرية الفرد أيآ كان إمرأة أو رجل ولا طفل ولا كبير.
هذا ما وصلت به شعوب أوروپا بتبنيها العلمانية والحداثة…فيا ترى متى سنستيقظ من سباتنا العميق وندرك مفهوم العلمانية ولنطبقه بالمفهوم العقلاني كما قال قاضي قرطبة الامازيغي الأندلسي “إبن رشد” عندما نادى بإستعمال العقل في قرائة وفهم القرآن منذ أكثر من ثمانية قرون مضت وقام أحادي ومتزمتة الدين بحرق كتبه وفر هاربآ من الأندلس قبل أن يقتل، بينما بدأت فيه أوروپا المستيقظة من سباتها في العصور الوسطى متبنية فيه عقلانية “إبن رشد” للإنطلاق نحو الحداثة والعلمانية والسير نحو التقدم.
محمد شنيب/طرابلس 13.01.2020.
التعليقات مغلقة.