الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1912_ 1945

أزول بريس // وليد علا

تقديم:

عرف المغرب  في منتصف القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين أوضاعا داخلية وخارجية صعبة، جعلته بين مطرقة النهضة وسندان استعمار كولونيالي لا يرحم، مهد اجتياحه  بجملة من الأدوات الاستخبارية قصد معرفة مكونات المجتمع المغربي التقليدي ومقدساته وموارده الطبيعية والبشرية، وعلى غرار الأسباب المباشرة التي تضافرت في استعمار المغرب والمتمثلة في إغراق خزينته بالديون ومقتل الطبيب “موشان” والثورات الداخلية التي أضعفت جهازه الإداري، وظفت فرنسا عدة أدوات لاصطياده وذلك بإظهار تفوقها الطبي وتطبيقها لأساليب “الباسفيكاسيون” تحت يافطة أخرجناكم من الظلمات إلى النور، حيث عرف المغرب إبان الحماية وضعية صحية عصيبة، نظرا لانعدام التجهيزات الصحية العصرية واكتفاء السكان بالطب التقليدي مما صعب من مأمورية الكشف السريع لتحديد نوع العلل، والنتيجة أن المغرب عرف في هذه المرحلة موجة من الأمراض الخطيرة لم تنفع معها لا الأعشاب ولا التمائم الوقائية.  لذا لابد من طرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية،من قبيل: كيف كانت الحالة الصحية للمغاربة في زمن الحماية؟ وما الصور التي وجدها الفرنسيون في المغرب؟ وهل استطاع التفوق الطبي الفرنسي إنقاذ المغاربة من ويلات الأوبئة التي كانت تحصد رؤوسهم كلما حل الداء العضال؟ هذا ما سنحاول رصده واستجلاءه انطلاقا من كتاب يحمل عنوان: “الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1945-1912 “وهو كتاب يغطي مرحلة الاستعمار على المغرب من سنة فرض الحماية 1912 إلى انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945، فمن هو صاحب الكتاب؟

عندما نسمع رسائل من قبيل الخديم الأرضى أو عناوين بعض الكتب مثل “كتاب الرحمة في الطب والحكمة” أو “تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب” أو “الطب الكولونيالي” يهب نسيم من دكتور له الفضل الكبير في إخراج الحقائق التاريخية، فهو مؤرخ وطبيب متواضع كريم عشنا معه في كتابه ظروفا اجتماعية عصيبة شهدها المغرب، من طاعون وجراد وحمى في المرجات، حيث إنه شخَص الصورة الاجتماعية التي وجدها المستعمر في الإيالة المغربية، إنه الدكتور”بوجمعة رويان” وهو أستاذ محاضر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن طفيل القنيطرة.

_ حاصل على دكتوراه الدولة في التاريخ المعاصر من جامعة محمد الخامس – أكدال- الرباط.

_ له عدة مساهمات في مجلات وندوات دولية ووطنية.

_ يهتم بالتاريخ الاجتماعي لفترة الحماية.

انطلاقا من الملاحظة البصرية للغلاف الأمامي للكتاب، نجد أن الدكتور “بوجمعة رويان” جعل العنوان يتوسط الكتاب باللون الأحمر، كما يضمن الغلاق صور أشخاص عاشوا الفترة المدروسة بعضهم في الأسواق والبعض الآخر مصاب بأمراض جلدية. أما الغلاف الخلفي نجد خطوطا عريضة حول المؤلف، ثم الإشكالية التي يطرحها.

يستهل المؤلف كتابه بعرض الرموز المستعملة بالعربية والفرنسية، كما يشير في الصفحة العاشرة إلى أن أصل الكتاب رسالة جامعة بعنوان: »الطب الاستعماري الفرنسي بالمغرب  « 1912_1945  قدمت للمناقشة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط يوم 22 يوليوز أمام لجنة من الأساتذة، د. محمد الأمين البزاز رئيسا، د. إبراهيم بوطالب، مشرفا ومقررا، د البرفسور أحمد العراقي عضوا، د. محمد كنبيب عضوا، د. جامع بيضا. فبعد كلمتي الأستاذ العميد إبراهيم بوطالب والأستاذ محمد الأمين البزاز، يستهل الدكتور “بوجمعة رويان” كتابه بمقدمة يضمن فيها أهم الدوافع التي جعلته ينكب على دراسة الموضوع مشيرا إلى بعض المصادر التي مكنته من بناء تصوره حول الطب الكولونيالي في مرحلة زمنية تبتدئ من 1912 وتنتهي سنة 1945، ويعتبر الطب الفرنسي الأداة التي جندتها فرنسا لمعرفة أحوال البلاد حيث جعلتها تنسج خطة إستراتيجية دقيقة تروم  السيطرة على سكان الإيالة المغربية حسب تفكيرهم ومعتقدهم، وهذا أمر لم يتحقق إلا من خلال تقارير الأطباء وضباط الشؤون الأهلية قبل سنة 1912م.

لقد قسم الدكتور “بوجمعة رويان” كتابه إلى أربعة أبواب وخاتمة، حيث عنون الأول بحفظ الصحة لدى المغاربة، وفيه تحدث عن أهمية الصحة عند الإنسان باعتبارها “رأس ماله” في الحياة. حيث إن الصحة حضرت في القاموس الشعبي المغربي من قبيل ” الصحة هي الفضل”،” الصحة كنز” “الصحة تاج على رؤوس الأصحاء”… بيد أن المغاربة في الفترة المدروسة لم يُعروا الصحة اهتماما كبيرا حسب المؤلف. يقول في هذا الصدد” ولئن تعلق الأمر بواقع المغاربة يومئذ وبما كان يميز أحوالهم، في نحلتهم من المعاش، من الضعف وقلة ذات اليد، فإن التعامل مع الصحة ” كزجاجة كسرها لا يشعب” ظل يلفه الكثير من اللامبالاة بسبب غياب ثقافة متعلقة بالصحة وجهاز يتولى أمرها، بالإضافة إلى تغذية ضعيفة وماء شرب تعتريه الكثير من عوامل القذارة والتلوث، وسكن غير صحي.”[1]

وانتقل المؤلف  إلى عرض أهم الأطباق الغذائية التي حضرت في                            مائدة المغاربة قبل الحماية ثم في الفترة المدروسة 1912-1945، يقول: ” كان النظام الغذائي للمغاربة خلال فترة الحماية يعتمد بالأساس على الحبوب، بالإضافة إلى اللحم والخضر والفواكه والمواد الدهنية والسكر والشاي”[2] حيث حصر الكميات التي استهلكتها                                                                                                                                                                                                                                                                                                                    واستوردتها كل منطقة في جداول تبين ذلك، أنظر الصفحة،37_39_40. علاوة على هذا سلط المؤلف الضوء على السكن والحمامات والبيمارستانات وأسباب انتقال الأمراض فيها، وهو ما سهر أطباء الحماية على معرفته والحد من مسبباته، دون أن يغفل دور الماء في بقاء الإنسان وأسباب تلوثه بالميكروبات ،” الكوليباسيل” إذ يقول:” وذهب ممن يهتمون بمشكل الماء خلال فترة الحماية، إلى أن السكان المغاربة، أو ما كان يسمى في لغة القوم بالأندجين، كانوا يتسببون في تلوث مياه الآبار والعيون والسواقي، بغسل ملابسهم وأجسامهم فيها، أو بالقرب منها غير أن هذا الأمر لم يكن يميزه المغاربة وحدهم، إذ كثيرا ما يتردد في أحاديث من عاشوا فترة الحماية ذكر معمر كان يقوم بتروية حصانه أو ماشيته من العين التي يشرب منها الناس، دون اكتراث بما قد يسببه ذلك من تكدير للمياه”[3] هذا وقد أردف المؤلف مجموعة من الصور اقتبسها من مجلات فرنسية تصور المغاربة يسبحون في الحمات بدون استئزار، حيث كانت مرتعا للأمراض بسبب توافد المصابين عليها بعضهم يحمل عناقيد من الدمامل والقيوح وأوساخ الجسم فكانت العدوى تنتشر بين الناس.

وفي هذا السياق يستحضر المؤلف الصور التي وجدتها فرنسا في حمة مولاي يعقوب في إشارة صريحة إلى الوضعية البئيسة التي شخصت بها حالة المغرب لتظهر لهم تفوقها الطبي ولتجذب النفوس إليها بتوزيعها للفافات التضميد والأقراص المهدئة. يقول د. بوجمعة رويان واصفا هذا المشهد:” وعلى الرغم من بناء الصهريجين، اللذين ذكرت إحدى الدراسات أنهما بنيا في سنة 1912م بإيعاز من الجنرال كورو Gouraud ، فإن وصف الطبيب لورو Lheureux للحمة سنة 1914، يبين أنها بقيت على شبه حالها في السابق، إذ ينزل الماء من صهريج الرجال ليسقط في صهريج النساء اللواتي يغطسن في حثالة ما قذفه الصهريج الأول، بالإضافة إلى عدم وجود قاعة لإزالة اللباس.”[4] وقد ختم المؤلف الباب الأول بفصل يستعرض فيه طرق مواجهة المغاربة للأمراض مثل الحمى، الزهري، الزحار، الجذري، التيفوس، والرمد… وما جنده المغاربة للعلاج منها كـ الكتابة ورسم الجداول لدرء غائلة خطرها. ومن الكتب التي كان المغاربة يوظفونها لإبعاد الأمراض عنهم نجد كتاب “الرحمة في الطب والحكمة لجلال الدين عبد الرحمان السيوطي” الذي يقدم لقارئه وصفات علاجية قد تؤذي الآخر، لأنها مليئة بالطلاسم والتمائم والاعتقادات التي تربط المرض بمس من الجن.

أما الباب الثاني يطلعنا المؤلف فيه على الدور الفعال الذي لعبه الطب الفرنسي في احتواء الأمراض لحماية المعمرين  والقوات الفرنسية المتغلغلة في الشمال الإفريقي، هكذا جندت فرنسا أطباءها لتتبع الأمراض وإنشاء المستوصفات والمستشفيات وتوعية الناس بضرورة التلقيح وهو أمر كان في مصلحة المغاربة الذين عاشوا ويلات الأوبئة. وقد أورد المؤلف  إحصائيات لأطباء فرنسيين قاموا بمسح طوبوغرافي لنوع الأمراض الموجودة في المغرب ورصد أسباب انتشارها. والملاحظ في هذا الباب أن المؤلف يطلع القارئ على أطروحته المتمثلة في كون الطب آلية من آليات التفوق” التي اعتمدتها الدول الصناعية، وهي تتوجه إلى بسط سيطرتها على العالم غير الصناعي، كما يحدد في فصول هذا الباب تشخيصات الحماية للأمراض في المدن من 1912 إلى 1938 ثم خلال الحرب العالمية الثانية، من خلال تتبع المرض في المدن والدواوير والأحياء، كما نجده يعرف الأمراض وأسباب تفشيها، نذكر بعضها تمثيلا لا تفصيلا:

التيفوس- الطاعون- الجذري- حمى المستنقعات- الزهري- الجذام- الرمد- السل، ثم المضاعفات المترتبة عن المجاعة والوباء وفي هذا السياق يبرز الإجراءات التي انتهجتها سلطات الحماية للسيطرة عليها وإنقاذ السكان وحماية الجنود من العدوى. أنظر الصفحة 257.

وقد عرَج المؤلف في الباب الأخير إلى العمليات الوقائية الكبرى في مكافحة الأوبئة لتسهيل السيطرة وخدمة التغلغل الاستعماري ” ولا شك أن ممارسات السلطات الفرنسية لإدماج المغاربة بالقوة في الطب العصري، قد فعلت فعلها في تعميق الهوة بين المغاربة والفرنسيين وجعلت الناس ينفرون من ذلك الطب، ويصرفون أبصارهم تلقاء أطبائهم الذين يتكلمون لغتهم ويفهمون إشاراتهم، مما زود الطب التقليدي ببعض مقومات البقاء والاستمرار جعلته يتعايش مع الطب الفرنسي العصري”[5]

بناء على ما سبق يمكن القول إن الكتاب يشخص حالة المغاربة في فترة مصيرية من تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، بعرضه لمجموعة من المصادر والمراجع والصور التي تطلع الباحث والقارئ على الظروف السياسية والاجتماعية والصحية التي شهدتها الإيالة المغربية وقتئذ .

الهوامش:

[1] – بوجمعة رويان، الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب1912-1945، مطبعة الرباط نت، 2013، ص.25

2– المرجع نفسه، ص.35

3 – المرجع نفسه، ص.49

4 – المرجع نفسه، ص.49

5– المرجع نفسه، ص.438

 

[1] – بوجمعة رويان، الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب1912-1945، مطبعة الرباط نت، 2013، ص.25

[2] – المرجع نفسه، ص.35

[3] – المرجع نفسه، ص.49

[4] – بوجمعة رويان، الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب1912-1945، مرجع سابق، ص.49

[5] – بوجمعة رويان، الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب1912-1945، مرجع سابق، ص.438

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد