الصندوق مرة أخرى.. أو قراءة في المسار الانتخابي المغربي

من‭ ‬عام‭ ‬1963‭ ‬إلى‭ ‬2011،‭ ‬عرف‭ ‬المغرب‭ ‬ثماني‭ ‬استحقاقات‭ ‬انتخابية‭. ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬هذه‭ ‬المسيرة‭ ‬الانتخابية‭ ‬الطويلة،‭ ‬تطفو‭ ‬على‭ ‬السطح،‭ ‬دائما،‭ ‬كلمتان‭ ‬هما‭ ‬”الشفافية”‭ ‬و”الانتظام”،‭ ‬في‭ ‬تكرار‭ ‬ممل‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬الكلل‭. ‬والواقع‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬نعرف‭ ‬لا‭ ‬”الشفافية”‭ ‬ولا‭ ‬”الانتظام”،‭ ‬اللتين‭ ‬لا‭ ‬ترفعان،‭ ‬كشعار،‭ ‬إلا‭ ‬لإجراء‭ ‬تمرينات‭ ‬انتخابية‭. ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬ترتفع،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬موعد،‭ ‬أصوات،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬تشتكي‭ ‬مما‭ ‬تسميه‭ ‬”طبخ‭ ‬النتائج”،‭ ‬مما‭ ‬يولد‭ ‬لدى‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬والناخبين‭ ‬المحتملين‭ ‬إحباطا‭ ‬يتجدد‭ ‬باستمرار،‭ ‬ويثير‭ ‬الاستياء‭ ‬من‭ ‬العملية‭ ‬السياسية‭ ‬برمتها‭. ‬لتكون‭ ‬النتيجة‭ ‬هي‭ ‬نسبة‭ ‬المشاركة‭ ‬التي‭ ‬تبعث‭ ‬على‭ ‬السخرية‭.‬
لقد‭ ‬تعددت‭ ‬المواعيد‭ ‬التي‭ ‬أضعناها‭ ‬مع‭ ‬التاريخ،‭ ‬وكان‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬نوعها‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1963‭. ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشكل‭ ‬تلك‭ ‬الانتخابات‭ ‬الأولى‭ ‬بالون‭ ‬اختبار‭ ‬لمعرفة‭ ‬الجواب‭ ‬عن‭ ‬سؤال:‭ ‬”أي‭ ‬مغرب‭ ‬مستقل‭ ‬نريد؟”‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬سارع‭ ‬إلى‭ ‬مضايقة‭ ‬الحزبين‭ ‬الرئيسيين‭ ‬حينها،‭ ‬”الاستقلال”‭ ‬و”الاتحاد‭ ‬الوطني‭ ‬للقوات‭ ‬الشعبية‭ ‬الذين‭ ‬كانا‭ ‬يتمتعان‭ ‬بشعبية‭ ‬كبيرة،‭ ‬عبر‭ ‬خلق‭ ‬هيئة‭ ‬منافسة‭ ‬وفق‭ ‬المقاس‭. ‬هكذا‭ ‬رأى‭ ‬حزب‭ ‬”جبهة‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدستورية”‭ ‬(الفديك)‭ ‬النور‭ ‬برئاسة‭ ‬أحمد‭ ‬رضا‭ ‬اكديرة،‭ ‬بين‭ ‬عشية‭ ‬وضحاها،‭ ‬وبقدرة‭ ‬قادر‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬الفائز‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭.‬
ستتكرر‭ ‬نفس‭ ‬التقنية‭ ‬في‭ ‬انتخابات‭ ‬عام‭ ‬1977‭ ‬بخلق‭ ‬حزب‭ ‬”التجمع‭ ‬الوطني‭ ‬للأحرار”‭ ‬الذي‭ ‬ترأسه‭ ‬أحمد‭ ‬عصمان،‭ ‬الوزير‭ ‬الأول‭ ‬آنئذ‭. ‬وأيضا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1984‭ ‬مع‭ ‬حزب‭ ‬”الاتحاد‭ ‬الدستوري”‭ ‬الذي‭ ‬ترأسه‭ ‬المعطي‭ ‬بوعبيد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬نفسه‭ ‬يشغل‭ ‬منصب‭ ‬الوزير‭ ‬الأول،‭ ‬وكأن‭ ‬التاريخ‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه‭.‬
كان‭ ‬ذلك‭ ‬زمن‭ ‬مهندسي‭ ‬الانتخابات،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يشتغلون‭ ‬تحت‭ ‬قيادة‭ ‬شخص‭ ‬يدعى‭ ‬إدريس‭ ‬البصري،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬تصنع‭ ‬الخريطة‭ ‬السياسية‭ ‬المغربية‭ ‬بأحزاب‭ ‬ولدت‭ ‬في‭ ‬المختبر،‭ ‬داخل‭ ‬دهاليز‭ ‬وزارة‭ ‬الداخلية‭ ‬أو‭ ‬أم‭ ‬الوزارات‭ ‬كما‭ ‬كانوا‭ ‬يسمونها‭.‬
كان‭ ‬ذلك،‭ ‬أيضا،‭ ‬زمن‭ ‬خطف‭ ‬صناديق‭ ‬الاقتراع‭ ‬وإرادة‭ ‬الناخبين‭ ‬لحاجة‭ ‬ملحة‭ ‬في‭ ‬تسفيه‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭. ‬كان‭ ‬زمن‭ ‬تهديد‭ ‬ممثلي‭ ‬المرشحين‭ ‬في‭ ‬مكاتب‭ ‬التصويت‭. ‬زمن‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬السخرية،‭ ‬لا‭ ‬يقتل‭ ‬ويستمر‭ ‬كذلك‭ ‬تحت‭ ‬خديعة‭ ‬كبرى‭ ‬باسم‭ ‬إجراء‭ ‬انتخابات‭ ‬شعبية‭ ‬”شفافة”‭ ‬و”منتظمة”‭.‬
‭ ‬اليوم،‭ ‬هل‭ ‬تطورت‭ ‬تلك‭ ‬الأزمان،‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬خضعت‭ ‬فقط‭ ‬لتصميم‭ ‬جديد،‭ ‬وتم‭ ‬تصحيحها‭ ‬ومراجعتها‭ ‬قصد‭ ‬مطابقتها،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المظهر،‭ ‬مع‭ ‬متطلبات‭ ‬وإكراهات‭ ‬تطور‭ ‬قادم‭ ‬لا‭ ‬محالة؟
يدعو‭ ‬هذا‭ ‬السؤال،‭ ‬نفسه،‭ ‬إلى‭ ‬استعادة‭ ‬مختصرة‭ ‬للماضي‭. ‬منذ‭ ‬بدأ‭ ‬الاستعدادات‭ ‬للتناوب‭ ‬على‭ ‬الحكومة‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬التسعينات،‭ ‬شرع‭ ‬السياسيون‭ ‬يتداولون‭ ‬خطابات‭ ‬وتصريحات‭ ‬تفيد‭ ‬أن‭ ‬المغرب‭ ‬سيقطع‭ ‬مع‭ ‬الماضي‭ ‬ولن‭ ‬تعود‭ ‬انتخاباته‭ ‬كما‭ ‬كانت،‭ ‬وأنها‭ ‬ستكون‭ ‬”حرة”،‭ ‬”شفافة”‭ ‬و”منتظمة”‭.  ‬وبالفعل،‭ ‬بدأ‭ ‬الناس‭ ‬يستعيدون‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬الصناديق،‭ ‬حين‭ ‬لاحظوا‭ ‬صعود‭ ‬أحزاب‭ ‬المعارضة‭ ‬السابقة،‭ ‬”الاتحاد‭ ‬الاشتراكي‭ ‬للقوات‭ ‬الشعبية”‭ ‬و”الاستقلال”،‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة‭ ‬في‭ ‬استحقاقات‭ ‬أعوام‭ ‬1997‭ ‬و2002‭ ‬و2007،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يسحب‭ ‬إسلاميو‭ ‬”العدالة‭ ‬والتنمية”‭ ‬البساط‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2011‭.‬
لكن‭ ‬رغم‭ ‬ذلك،‭ ‬ظلت‭ ‬نسب‭ ‬المشاركة‭ ‬منخفضة،‭ ‬وعاد‭ ‬الشك‭ ‬يخيم‭ ‬على‭ ‬النفوس‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬مع‭ ‬تأسيس‭ ‬حزب‭ ‬”الأصالة‭ ‬والمعاصرة”‭. ‬لقد‭ ‬قيل‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬حول‭ ‬كون‭ ‬”البام”‭ ‬يحيل،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬النشأة‭ ‬والتأسيس،‭ ‬إلى‭ ‬ظروف‭ ‬وأهداف‭ ‬تأسيس‭ ‬”الفديك”‭ ‬و”التجمع‭ ‬الوطني‭ ‬للأحرار”‭ ‬و”الاتحاد‭ ‬الدستوري”‭.‬
لنتجاوز‭ ‬ذلك‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يقال‭ ‬إننا‭ ‬نعيد‭ ‬نفس‭ ‬الأسطوانة،‭ ‬وحتى‭ ‬لا‭ ‬يقول‭ ‬أحد‭ ‬إننا‭ ‬سلبيون‭ ‬وسوداوديون‭. ‬وسط‭ ‬هاته‭ ‬العتمة،‭ ‬نأمل،‭ ‬ورغم‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬أن‭ ‬تكذبنا،‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬المقبلة،‭ ‬مشاركة‭ ‬قوية‭ ‬للمواطنين‭ ‬بالتصويت‭ ‬على‭ ‬الحقيقة‭. ‬ذلك‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نتمناه‭ ‬لديمقراطيتنا‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تتلعثم،‭ ‬وما‭ ‬تزال‭ ‬مجرد‭ ‬ورش‭ ‬ومجرد‭ ‬مشروع‭. ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشكل‭ ‬الاستحقاقات‭ ‬المقبلة‭ ‬محطة‭ ‬للعبور‭ ‬نحو‭ ‬بر‭ ‬الأمان‭ ‬الحقيقي،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬العربي‭ ‬الحالي‭ ‬الغارق‭ ‬في‭ ‬الدماء‭.‬
في‭ ‬خطابه‭ ‬الأخير،‭ ‬يوم‭ ‬9‭ ‬أكتوبر‭ ‬2015‭ ‬بمناسبة‭ ‬افتتاح‭ ‬البرلمان،‭ ‬قال‭ ‬الملك‭ ‬محمد‭ ‬السادس:‭ ‬”إن‭ ‬الانتخابات‭ ‬ليست‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬ذاتها،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬البداية‭ ‬الحقيقية‭ ‬لمسار‭ ‬طويل‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬إقامة‭ ‬المؤسسات‭ ‬وإضفاء‭ ‬الشرعية‭ ‬عليها”‭. ‬لتكن‭ ‬الانتخابات‭ ‬المقبلة‭ ‬كذلك،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بداية‭ ‬فعلية‭ ‬لربيع‭ ‬مغربي‭ ‬ديمقراطي‭ ‬حقيقي‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬صناديق‭ ‬شفافة‭ ‬ونزيهة،‭ ‬ويضع‭ ‬حدا‭ ‬لذلك‭ ‬التكرار‭ ‬الممل‭.‬
نأمل‭ ‬أن‭ ‬تتفتح‭ ‬أول‭ ‬وردة‭.‬

يوسف‭ ‬شميرو
مدير‭ ‬نشر مجلة زمان

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد