الصادق المهدي: الديمقراطي والمثقف المستنير

أزول بريس – عمر الطيب – بي بي سي – لندن //

لا يختلف إثنان على تميز الصادق المهدي وتفرده طوال سني حياته التي كانت ستكمل عامها الخامس والثمانين في الخامس والعشرين من ديسمبر كانون الأول لو مد الله في أيامه منذ ظهوره على المسرح السياسي وتوليه رئاسة حزب الأمة عام أربعة وستين وهو في التاسعة والعشرين ومن ثم رئاسة الوزارة وهو في الثلاثين منازعاً عليها السياسي البارع محمد أحمد محجوب، الخطيب والشاعر والسياسي والمهندس والمحامي المعروف.

ورغم أن كثيرين ناشدوه بأن يتريث إذ كان لايزال في مقتبل العمر، كان رده بأنه يريد أن يكون رئيس الوزراء الأصغر سناً في السودان إقتداءً بالبريطاني وليام بيت الذي تولى المنصب وهو في الرابعة والعشرين عام 1873.

إصرار على الرأي

اتسمت حياة الصادق المهدي بالاصرار على الرأي و التمسك به مهما وصف بالتناقض وإثارة الجدل ومهما وجه إليه من انتقاد وإساءات طالته حتى وهو على فراش المرض ولم يتوقف سيل الانتقادات له إلا بعد أن اشتدت عليه العلة.

وعندما وافته المنية حزن عليه منتقدوه مثلما حزن عليه أنصاره ومحبوه مدركين الفراغ الكبير الذي سيتركه رحيله، فقد كان يتوقع أن يلعب دورا محوريا في التحول الديمقراطي والمساهمة في إنجاح هذا التحول لاسيما وأن المشهد السياسي قد أصبح أكثر تعقيدا.

ولا شك أن حزب الأمة القومي الذي تولى زعامته منذ الستينات وطائفة الأنصار التي انتخبته إماماً لها عام ألفين واثنين سيكونان الأكثر تضرراً جراء رحيله، فقد كان الرجل يقوم بأدوار كثيرة بقدرات ومؤهلات قل أن تتوفر في شخص بعينه.

ورغم أنه أرسى نظاماً مؤسسياً واختار عدداً من النواب له في قيادة الحزب وفي هيئة شؤون الأنصار إلا أن إيجاد خلف له سيكون من أبرز التحديات التي سيواجهها الحزب والهيئة بعد رحيله. وقد يتطلب الأمر الانتظار حتى تتهيأ إمكانية عقد مؤتمر عام لكل من الحزب والهيئة لاختيار من سيخلفه.

استمد الصادق المهدي تفرده من تمكنه من الجمع بين العلم الديني الذي تلقى أسسه في الخلوة كما يطلق على المدارس الدينية في السودان، والعلم الحديث الذي تزود به من المدارس التي التحق بها التي من بينها مدرسة كمبوني الكاثوليكية ومدارس الأحفاد وكلية فيكتوريا الشهيرة في الإسكندرية التي لم يكمل الدراسة بها وعاد إلى السودان للتركيز على اللغة العربية.

ثم التحق مستمعا بكلية العلوم بجامعة الخرطوم لمدة عام ، قبل الجلوس لامتحانات شهادة أكسفورد للمرحلة قبل الجامعية، ثم توج بعدها تأهيله الأكاديمي بالدراسة في جامعة أكسفورد التي حصل منها على بكالوريوس في الاقتصاد والسياسة.

نهم الثقافة

ساهم هذا التحصيل العلمي، إضافة إلى شهيته المفتوحة للقراءة والإطلاع حتى أثناء فترات اعتقاله التي بلغت في مجملها تسع سنوات، في أن يصبح خطيباً ومحاضراً باللغتين العربية والإنجليزية، وعضواً في الكثير المنتديات الإقليمية من قبيل المنتدى العالمي للوسطية الذي أسسه وترأسه منذ عام ألفين وسبعة كما ترأس أيضاً مجلس الحكماء العربي لفض المنازعات وكان عضواً في المجلس العربي للمياه وعضواً في مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي ومقرها في عمان في الأردن، وعضواً في المؤتمر القومي الإسلامي في بيروت. أما دولياً فقد كان عضوا في اللجنة التنفيذية لنادي مدريد وفي المجموعة الاستشارية العليا الخاصة بمجموعة العمل الدولية للدبلوماسية الوقائية كما كان عضواً في فترة من الفترات في المجلس الاسلامي الأوروبي في لندن.

بلغت مؤلفات الصادق المهدي مئة تنوعت بين السياسة والدين والتاريخ ولديه كتاب عن الطرف والنكات. من أبرز هذه المؤلفات مسألة جنوب السودان ، وجهاد من أجل الاستقلال، ويسألونك عن المهدية، والعقوبات الشرعية وموقعها من النظام الإسلامي، والديمقراطية عائدة و راجحة، وتحديات التسعينات الذي كان لي شرف ترجمة أجزاء منه إلى اللغة الإنجليزية.

هذا غير المقالات التي كان آخرها مقاله البليغ عن مرضه ومعاناته. وكان رغم تدينه وإرثه الديني محباً للغناء والفن، ولا ينسى الناس أبداً -على سبيل المثال- رثاءه البليغ للمغني السوداني محمد وردي.

ولن ينسى السودانيون له دفاعه عن الديمقراطية رغم اقترابه من نظامي جعفر النميري وعمر البشير . وعندما أصبح نجله عبد الرحمن مساعداً للبشير ، كان يقول إن ابنه حر ولا تزر وازرة وزر أخري. وأذكر أنه قال لي ذات مرة إنه ديمقراطي داخل بيته. وقد نجح نظام البشير في استقطاب عدد من قيادات الحزب وأحدث انشقاقات فيه حتى أصبحت هناك خمسة أحزاب أمة.

حياة المنافي والسجون.

ورغم أنه تولى رئاسة الوزارة مرتين بلغ مجمل سنواته في المنصب أربعة فقط ، إلا أنه عاش معظم سنوات حياته معارضاً في المعتقلات أو في المنافي. واتسمت معارضته بالنهج السلمي في الغالب الأعم وهو الذي نحت مصطلح الهبوط الناعم في معارضته لحكم عمر البشير والإستثناء الوحيد كان في يوليو تموز عام 1976 عندما كان رئيساً للجبهة الوطنية التي شاركه قيادتها الشريف حسين الهندي وصهره حسن الترابي حين دبروا هجوماً شنه مسلحون تدربوا في ليبيا واثيوبيا على نظام جعفر نميري، وباءت المحاولة بالفشل في الإطاحة بالنميري ، انتهت بعقده صلحاً مع النميري عام 1977.ومن الأشياء التي لن تنساها له نساء حزبه تمكينه للمرأة والدفع بها إلى مواقع قيادية رائدة في حزب أسس على العقيدة، فقد اختيرت في السنوات الأخيرة ابنته مريم لتكون من بين نوابه، كما اختيرت سارة نقد الله أميناً عاماً للحزب. ولن تنسى له الناشطات السودانيات قوله إن حقوق المرأة المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية لا تتعارض مع الفهم المستنير للدين.على الصعيد العربي لن ينسى له الفلسطينيون والقوميون العرب موقفه الرافض للتطبيع بين السودان وإسرائيل الذي سارت في ركابه وأيدته أحزاب سياسية سودانية عديدة فيما عدا الأحزاب القومية العربية واليسارية.ومن الأشياء التى لاتنسى له قدرته على التسامح وتجاهل منتقديه الذين كان يتهمونه بالتناقض لأنه كما قال بعضهم كان يحاول دائماً الجمع بين ما تلقاه في أكسفورد وبين ما تلقاه من طائفة الأنصار والإرث الديني، وإنه كثيراً ما يجد نفسه في صراع وتناقض بين هذين النهجين.بينما كان يجادل هو بأنه توصل إلى توليفة بين المنهجين ليس فيها تناقض ويستشهد غير آبه بكلامهم وانتقاداتهم بقول إيليا أبي ماضي:

إن نفساً لم يشرق الحب فيها

هي نفس لا تدري مامعناها

أنا بالحب قد وصلت إلى نفسي

وبالحب قد عرفت الله.


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading