ونحن جميعا في قاعة انتظار كبيرة ، نسعى إلى استغلال زمن الانتظار الذي يسكننا من الداخل بنوع من الروية والتأمل ، وقد تعددت الأصوات التي تتوزعنا في صمت يتراوح بين الحنين والضجر وبين الرغبة في احتواء اللحظة بما تستدعيه فينا من تداعيات. وأهم ما حقق تكتلنا الروحي هو الأمل في غد أفضل، في حياة مختلفة قائمة على معطيات جديدة توصلنا إليها أثناء الحجر الصحي . تتعدد الأسئلة حولنا ، علما بأنه من الخطأ الاعتقاد بأن العالم يتكلم لغة واحدة . لقد تعددت الإشارات التي تتطلب القدرة على فرزها وقراءتها وتاويلها لفهم ما تحمله من أسرار الوجود . أثناء الحظر الصحي ، انكشفت عدة حقائق حول الوجود الإنساني نفسه ، فكيف يعقل ألا نسأل ونتساءل حول هذا الواقع الذي وفر لكل يقين إمكانية البحث عما أُقيمَ عليه من شك ، ووفر لكل شك بواعث البحث عما من شأنه الدفع بالسؤال إلى أقصى المناحي التي يمكن أن يمتد إليها. في ظرف وجيز ، أصبح العالم يتكلم لغة واحدة ، أ معادلة هذه أم لغز جديد أم حقيقة مخاتلة ؟ هذا واقع ملموس نعيشه جميعا وفي نفس الوقت ، لحظة توقف فيها التاريخ والجغرافية والفلسفة وحتى الشعر .. كل واحد منا يبحث عن حدود مداه ، في الوقت الذي تتسارع فيه الدول العظمى حول إيجاد حل او بلسم أو دواء أو تلقيح ، هذا ما نعتقده نحن . ففي عمق الأزمة ، لايكون البحث عن الأسباب والمسببات مفيدا في شيء ؛ لذلك نرى جميع الدول تدبر أمرها بشبه هدوء وهي تسعى إلى احتواء الوضع بما يلزم من تدخل طبي مناسب . أصبح العالم في ماثم يومي في حرب جديدة لا تتاثر بعدد الوفيات أو عدد المصابين أو الذين تجاوزوا الوباء وشفوا منه بشكل نهائي ، وإنما نشعر بأن الركب يزحف إلى الأمام وهو يقيم رهاناته على أسئلة كثيرة مبطنة بنوع من الغموض لا يخلو أمره . فبين جسامة الوضع واستفحال الوباء ، أصبحنا نشعر بالرغبة في التغيير ، تغيير كل شيء بدءا مما في أنفسنا ومما يحيط بنا من اشياء هذا العالم . هكذا ونحن في حمأة الأحداث ، وفي الوقت الذي اشتد فيه الصراع بين الدول العظمى حول من سيكسب الرهان ويكتشف الدواء أو التلقيح ، هناك من يستغل الوضع بتحويله إلى صفقة رابحة بشكل أو بآخر . وقد تجلى ذلك في ارتفاع أسعار بعض المواد أو ندرتها اونفاذها مما قد يؤدي إلى كثرة الطلبات ؛ كما أن هناك من يريد استغلال الوضع لاقتناص المصادقة على قوانين غير ديموقراطية .. لاشيء مهم الآن ، ظهرت حاجيات جديدة أعادت الحياة إلى طابعها البسيط والذي يضمن لها نوعا من الاستقرار والثباث .
فكيف يعيش المثقف اليوم وهو الذي تعود على البحث عن الحقيقة بجميع الطرق والمناهج سعيا إلى بلوغ نوع من التلاؤم مع الواقع ، ترى عن أي حقيقة سوف يبحث والعالم اليوم ينتظر تدخل العلم ولُطف الله في نفس الوقت وبصوت واحد : ” لَيْسَ الكُلّ إلا واحدا أوحد ” … صحيح أن الأزمة اليوم ، أزمة كورونا أصبحت تكتسي طابعا وجوديا ، فما يطرح من التساؤلات حول الراهن وما بعد مرور الأزمة يقدم نموذجا جديدا لواقع مختلف يتعين علينا للتكيف معه تغييرُ المنطق والرؤية التي كان العالم يقيم عليها توازناته . فما بعد كورونا ، سوف يظهر إبدال جديد لواقع فَقَدَ نموذجَه، وهنا نصل القشة التي فصمت ظهر البعير ولربما حتى هذا المثل لم يعد صالحا للسياق الجديد الذي سوف يصاحب ما ستأتي به الأوضاع من مستجدات ؛ فالاساس أن المنطق الذي كنا نحتكم إليه سابقا لم يعد صالحا لمقاربة واقع مختلف . ليس هذا تعبيرا عن التنبؤ والاستباق الذي جعل المثقف يعيش الوهم المركب ومنذ عدة عقود ، وإنما هي تأملات وجودية انقدحت طبيعية مما نعيشه من حالات يومية قد تكون عابرة . وهذه التأملات الجديدة هي التي سوف تساعدنا على التشكل من جديد ، خاصة وأن الشعور الجماعي بضرورة التغيير قد انعكس إيجابا على الأسرة التي هي أول خلية تستطيع إعداد الناشئة لمرحلة جديدة . البيت هو أساس الاستقرار ولا محالة ، إلا أن هذا البيت في حاجة إلى ضرورة تغيير رؤيته للعالم . فالتنشئة الاجتماعية في حاجة إلى اكتساب أساليب وطرق جديدة للتوجيه والإقناع بعيدة عن الأوامر والنواهي والمساومات العاطفية التي لا تولد إلا التمرد والفشل في العلاقات بين الآباء والأبناء . لابد من جعل أساليب التربية مسايرة لمستجدات العصر ، وهذا ليس بالأمر الهين، خاصة وأنها تفتقر إلى النماذج . فكيف يمكن التوفيق بين آليات التوجيه السليم وبين مستجدات العصر دون الوقوع في مزالق السقوط في تداعيات ما تحمله هذه المستجدات من خلفيات وقيم جديدة ؟ يظل همنا هو الخوف من فقدان النماذج والابتعاد عن الأصول التي تضمن لنا نوعا من الشعور بالأمان ، عن أي نموذج نتحدث اليوم ، وقد أقامت الحداثة والعولمة قوتها على تكسير كل نموذج؟
أسئلة كثيرة تنغل فينا من الداخل ، وقد لا نجد لها جوابا اليوم ونحن ما زلنا نعيش نوعين من التخذير : أوله قديم نسبيا ، وهو خيبة أمل الشعوب العربية بعد تدخل الدبابة الأمريكية وهي تقدم عصارة تجربتها الفاشلة حول نموذج الديموقراطية . وتتجلى المرحلة الثانية في تفشي الوباء وما أحدثه من رعب بين جميع الدول وما ارتبط به من مستجدات سلوكية جماعية ما كان الإجماع حولها متوقعا على الإطلاق .فهل هو تخذير أم تحذير أم يقظة ؟ لا أدري … حتى الهلوسة مشروعة اليوم في ظل ما يعتمل في أعماقنا ونحن في قاعة انتظار كبيرة . فكلما قررت قراءة كتاب أو تغيير سلوك أو تفكير أو حتى قَصّ شَعري ، أكتشف بعد التنفيذ أنه الوضع الحقيقي الذي كان يجب أن يكون ، فيتم إلغاء أي شعور بالتغيير ؛ إلا أن هذا الوضع الجديد الذي نعيشه جميعا يفترض انتظار واقع آخر أكثر اكتمالا وجمالا ، ومن خلال هذا المعيش الجماعي المرئي ، وبما يقوم عليه من مخاوف يمكن فهم التعاليم الروحية ورائع الحكمة الإلهية .
إننا نعيش شبه حلم جماعي ، _والحياة في أصلها حلم جماعي _ ونحن نتألم بحثا عن الحقيقة وانتظارا للفرج بين مشيئة الله وقدرة العلم ، ندرك أن كل لحظة سعي نعيشها هي لحظة لقاء مع الله ومع الأبدية..
الدكتورة ثريا بن الشيخ .
التعليقات مغلقة.