يَصعُبُ الحَديثُ والكتابة عن مسارات وحياة شخصيات فِكرية، عَالمة ومناضلة، انخرطت مبكرا في النضال من أجل الاعتراف بالثقافة والهوية واللغة الأمازيغية، عن طريق البحث العلمي، والكتابة والتأليف والنشر والتوعية ثم العمل المدني والميداني والثقافي، إضافة إلى الانشغالات المهنية كالتدريس وغيرها.
“الحُسيَنْ آيْتْ بَاحْسِينْ” ينتمي إلى طينة هذه الشخصيات المتعددة الأبعاد والانشغالات والاهتمامات، والغزيرة الإنتاج والعطاء وكثيفة الحضور في كل مراحل النهضة الأمازيغية، لما يزيد عن نصف قرن. فهذه ليست “بيوغرافيا” شاملة للعَالِم الأنثروبولوجي سي “آيت باحسين”، أو سيرة حياته، وإنما هي إطلالة سريعة وموجزة، وهي محاولة متواضعة للتعريف بهذه الشخصية الأمازيغية الفريدة، التي طبعت تاريخ المغرب بعد الاستقلال، وتاريخ الأمازيغ بشكل عام، هدفها، الوفاء والاعتراف والعِرفَان بما قدمه الأستاذ الجليل “الحسين آيت باحسين” من خدمات وتضحيات ونظريات ومجهود علمي وتأليفي وبحثي جبار وتراكم معرفي وثقافي هائل، وأيضا؛ منن أجل ترسيخ ثقافة الاعتراف والعرفان داخل الأجيال الحالية والقادمة في مستقبل الحركة الأمازيغية.
أُنْزُوطْ: مَنْبعُ الشموخ الأمازيغي
في حديثنا واهتمامنا بسير ومسارات رواد الفكر والنضال الأمازيغي، دائما ما نولي اهتماما خاصا بمسقط الرأس، والفضاء الجغرافي والاجتماعي للولادة والنشأة، فالحسين آيت باحسين، هو ابن تجمع أمازيغي قديم، يسمى “أُنْزوط”(نتحاشى استعمال كلمة القبيلة)، تم تعريبه في الاستعمال المخزني والإداري إلى “مزوضة”، فهذا التجمع الأمازيغي الذي ينتمي إلى الاتحادية الأمازيغية الكبيرة في أطلس درن وسفوحه الشمالية، يسمى “إگدميون” وهو تحالف أمازيغي مصمودي كان له شأن عظيم في تاريخ الأطلس الكبير، تم تعريبه هو الآخر إلى “گدميوة”.
فحسب “البيذق” كاتب أخبار المهدي مؤسس الموحدين وصاحب كتاب الأنساب، فإنه يذكر اسم “إنزوط” ضمن المجموعات المشكلة لاتحادية “گدميوة” قائلا: “گديموة هداهم الله، لهم من الأفخاذ ستة وأربعون، ولكل فخذ من هاذه الأفخاذ مزوار..گدميوة الفحص ومنهم صودة الجبل وهم فخذان، ونفاسة أو ونفاسن، وبنو تطيت، آيت تطيت معا..” وسواء اقتنعنا بصحة كلام البيذق بكون “صودة” هي مزوضة أو إنزوط، أو لم نقتنع، فإنه من المؤكد أن “أنزوط” هي مكون أساسي من الحلف السياسي والاجتماعي “إگدميون”، ويوجد واد يحمل هذا الاسم، هو “أسيف ن وگدمت” وهو رافد من الروافد اليسرى لنهر نفيس الذي يلتقي به جنوب غرب تينمل، وبلاد أوگدمت تمتد بصفة عامة غرب تينمل إلى حدود إگدميون الشرقية والجنوبية، وتليها منطقة أغبار من الناحية الجنوبية. (أنظر تحقيق أزايكو لرحلة الوافد). كما تجب الإشارة إلى أن ابن خلدون أيضا؛ ذكر “أصادة” في حديثه عن مصامدة الجبل، قائلا: “ومن بطون أصادة مسفاوة، مسفيوة، وماغوس”.
أما أنزوط فهي تقع حاليا شمال شرق “إمي ن تانوت” في اتجاه مراكش، ويصعب تحديد معنى الكلمة، لأن شكلها ونطقها يتغير حسب حيوية المجال والتاريخ والمجتمع، فهل يمكن اعتبار أصل التسمية هو أنزوظ أو أزوض، أو ازاضن، ثم تحولت إلى أنزوط، لأن ضبط التسمية يحتاج إلى كثير من البحث والتحقيق والتدقيق وتتبع اصل الكلمة وضبط المتغيرات الصوتية فيها.
وقد ساهمت كونفدرالية اگدميون بمجموعاتها المصمودية المختلفة في بناء تاريخ المغرب وامبراطورياته الأمازيغية، في المرحلة السابقة لظهور المرابطين وتأسيس عاصمتهم مراكش، وبعد ذلك في التمهيد لصعود الموحدين الذين تأسسوا على عصبية مصامدة جبل درن وسفوحه الجنوبية والشمالية، كما كان لهم شأن كبير في عهد “بني مرين” وما بعدهم. غير أن وطن إگدميون لاسيما السهل منه، تعرض للعديد من التحولات السوسيو-ثقافية ساهمت بحدوث تغيرات كثيرة في بنيات المجتمع، وتغيير الخريطة الاجتماعية بالمنطقة، منذ العهد المريني، الذي عاش فيه “أدرار ن درن” أياما عصيبة من الحروب والصراعات، بين بقايا الموحدين الآخذة في الأفول ودولة بني مرين القادمة في الصعود. وكان من نتائج هذه الحروب؛ اندثار الكثير من التسميات الأصلية للمجموعات البشرية أو “القبائل”، وظهور تسميات جديدة، إما طارئة عن المجال أو ناتجة عن تغيرات وتحولات سياسية واجتماعية. لا سيما بعد قيام دولة السعديين واستقرار سلطانها الأكبر أحمد المنصور الذهبي في مراكش. وقد ساهم المجال الجغرافي الذي تقع فيه “أنزوط” بين الجبل والسهل، وبين مراكش كعاصمة سلطانية وسوس كمجال بحري وتجاري واقتصادي حيوي يربط المغرب بالعمق الصحراوي، وموگادور، كمحور تجاري وبحري وسلطاني، في تألق تجمع “أنزوط” تاريخيا وتجاريا وسياسيا وثقافيا على مر العصور.
ولابد من الإشارة إلى الاسهام الثقافي الكبير لقبيلة أنزوط/ مزوضة في الثقافة والفنون الأمازيغية، لأنها تعتبر مشتلا ومنبعا لفنون أحواش والشعراء الأمازيغ، إنضامن، فيكفي أن نذكر بأن “أنزوط” أنجبت كبار “الرْوايْسْ” وأشهرهم، مثل الرايس “محمد أُومُورَاكْ”، والرايس “عُمر إجوي”، والرايْس “عمر واهروش”، والرايس “عبدالله بن دريس المزوضي”، و”أوطالب المزوضي” وآخرون كثر…
فوسط هذا الفضاء التاريخي والمجال الجغرافي الذي يتموقع بين الجبل والسهل، في الدير الشمالي بين “إمي ن تانوت” ومراكش، نشأ وترعرع “الحسين آيت باحسين”، فلابد أن يكون هذا المجال الغني بالأحداث التاريخية الكبرى، بفعل تموقعه على المحور التجاري والطريق السلطاني كنقطة عبور وتثاقف وتبادل، مجال أعطى مجموعة من الأعلام والزعماء والفنانين الكبار، أن يكون؛ له تأثير في شخصية ومسار “الحسين آيت باحسين”.
في هذا الصدد يقول “الحسين آيت باحسين” شارحا مراحل اكتشافه المبكر للأنثروبولوجيا: “ترتبط المرحلة الأولى بطفولتي والتنشئة الاجتماعية في بيئة كل الممارسات اليومية لها تقريبا تفسير أنثروبولوجي، البيئة القروية في الخمسينيات من القرن الماضي في الدير الشمالي للأطلس الكبير الأوسط، حيث الممارسات الطقوسية المتعلقة بالوثنية واليهودية والمعتقدات المسيحية والإسلامية، في المنطقة التي تسمى مزوضة/ أنزوط، تزخر بمزارات الأولياء إيگرامن الذين يناهز عددهم 60، إضافة إلى انتشار الزوايا، كما لا تزال المظاهر الطقوسية والتعبدية ذات خلفيات علمانية قديمة، تتعلق بعبادة الشمس والكبش والقمم” (حوار مع جريدة Le Matin يوم 14 يناير 2005).
آيت باحسين: على خطوات “جاك بيرك”
حينما أتأمل وأقرأ كتابات ودراسات أستاذنا “الحسين آيت باحسين” في الانثروبولوجيا والطوبونيميا بالخصوص، أتذكر دائما، كتابات ودراسات ونظريات العالم السوسيولوجي الفرنسي النابغة “جاك بيرك”، الذي يعتبر من أهم رواد السوسيولوجيا بالمغرب والعَالم، حيث أنتج ما يناهز عن 164 كتابا، في حقول معرفية مختلفة ومتداخلة، التاريخ، وعلم الاجتماع، والانثروبولوجيا، والقانون… وأهم مؤلفاته هي أطروحته الجامعية حول موضوع: “البنيات الاجتماعية للأطلس الكبير: سكساوة” التي ناقشها في جامعة باريس سنة 1955.
فلماذا جاك بيرك؟
لأنه تم تعيينه من قبل المقيم العام الفرنسي “جوان” مراقبا مدنيا بمدينة “إمي ن تانوت” سنة 1947 واستقر بها إلى سنة 1954، والتحق بجامعة “كوليج دو فرانس” بعد نيله للدكتوراه حول ايسكساوان. فخلال هذه الفترة، زاوج “جاك بيرك” بين مهامه الإدارية الكولونيالية، وبين مهامه كباحث ودارس للمجتمع الأمازيغي في منطقة “إمي ن تانوت” والأطلس الكبير، حيث كان ينتقل بين الدواوير والأسر والعائلات الدينية والقياد والزوايا وبين الفلاحين والمزارعين يستجمع المخطوطات والكتب والمصادر التاريخية والروايات الشفوية من أفواه الشيوخ وكبار السن وزعماء القبائل، وكان يعتمد على مجموعة من الاخباريين الذين لهم دراية بالمجال والمجتمع بمنطقة الأطلس الكبير وامي ن تانوت.
“فقد كان جاك بيرك يستدعي الكثير من الشيوخ ومن الناس المعروفين بخبرتهم ومعرفتهم بشؤون القبائل وبذاكرتهم القوية… ويقوم بعقد جلسات مسامرة ومحاورة ومناقشة معهم… وبحضور كاتبه الخاص العارف بلغة تاشلحيت والذي يجلس جانبا وهو يسجل بالآلة الكاتبة كل ما يصدر عن هؤلاء الشيوخ من كبيرة وصغيرة من معلومات حول مختلف جوانب حياة القبائل بالمنطقة” (محمد أقديم التحولات السوسيو-تاريخية في منطقة الأطلس الكبير).
ففي الوقت الذي كان ينتقل فيه “جاك بيرك” بين القرى والقبائل كان “الحسين آيت باحسين”، طفلا صغيرا في احدى دواوير الدير بأنزوط، فقد حكى لي “سي الحسين” في لقاء سابق، أن “جاك بيرك” كان يدخل إلى الزوايا والمدارس العتيقة، ويجد المخطوطات والكتب التاريخية متراكمة بشكل فوضوي، ويقوم هو بتنظيمها واعداد خزانات خشبية تحتوي على الرفوف لكي توضع عليها الكتب والمخطوطات بشكل لائق. وقد اطلع “جاك بيرك” على كم هائل من المخطوطات في سفوح “أطلس درن”، وبقممه العالية، وتمكن من الوصول إلى الأرشيف الخاص/ تاكافوت، لكثير من العائلات الدينية والسياسية والصوفية بالمنطقة، إضافة إلى ما وجده في دائرة “إمي ن تانوت” من الوثائق والأرشيف الذي تركه الضباط الذين سبقوه.
كل هذا الزخم الوثائقي والميداني استثمره “جاك بيرك” في عمله السوسيولوجي الضخم “البنيات الاجتماعية بالأطلس الكبير: سكساوة” والكثير من الدراسات القيمة جدا حول القبيلة وحول المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبنيات الزراعية ونمط العيش، حيث اشترط ضرورة ربط طبيعة العلاقات الاجتماعية بالوضع الايكولوجي والطوبوغرافي للأرض وتضاريسها التي تلعب دورا محوريا في وفرة الموارد وطرق استغلالها.
كما درس “بيرك” دور الزوايا والصلحاء والأولياء في تأسيس الدولة بالمغرب، ودرس مشكلة الثقافة من خلال دراسته “لليوسي”، وقضايا كثيرة ذات الارتباط الوثيق بالسوسيولوجية السياسية، فكما يقول بيرك دائما: “إنه يبحث عن الأشياء في الجذور…تلك التي تكشفها العلاقات الأولية لمجموعة مع بيئتها”.
إن ما فعله جاك بيرك في السوسيولوجيا، فعله “الحسين آيت باحسين” في الانثروبولوجيا.. ففهم مسار وعطاء “آيت باحسين” في أبحاثه الأنثروبولوجية ومنهاج اشتغاله في التحليل والتفكيك والتأويل، في اعتقادي، مرتبط بالوسط الذي نشأ فيه وللذين اشتغلوا عليه في حقول معرفية مختلفة، وعلى رأسهم “جاك بيرك” الذي سمع عنه “آيت باحسين” الكثير أثناء تنقلاته في بلدته أنزوط. فقد تكون أبحاث “جاك بيرك” ودراساته الكثيرة حول المجتمع الأمازيغي بأطلس درن وسفوحه، عاملا حاسما في بزوغ عالم أنثروبولوجي أمازيغي في “أنزوط”.
آيت باحسين من مراكش إلى الرباط: شعلة التبادل الثقافي
إزداد “الحسين آيت باحسين” في يناير سنة 1950 بأنزوط، السفوح الشمالية لأطلس درن، التي تسمى بالدير، ودَرس بها المرحلة الابتدائية، وفي سنة 1963انتقل إلى اعدادية “الغزالي” بإمي نتانوت، في سنة 1966 انتقل إلى مراكش لمتابعة دراسته في ثانوية “ابن عباد”، حيث حصل فيها على شهادة البكالوريا سنة 1970، ثم انتقل إلى مدينة الرباط والتحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس سنة 1970 واختار شعبة الفلسفة. مثل جميع التلاميذ أبناء الأطلس وسوس والجنوب، الذين مروا بمدينة مراكش، في مرحلة الثانوية، عادة ما تترك فيهم العاصمة الأمازيغية مراكش، وساحتها “جامع الفنا” وأوليائها ومزاراتها المقدسة، بصمات ساحرة، لا سيما أنهم في مرحلة الشباب واكتشاف العوالم الجديدة.
وكانت شعبة الفلسفة فرصة جديدة أمام “آيت باحسين” لإعادة قراءة واكتشاف الدراسات السوسيولوجية والاثنولوجية والأنثروبولوجية المختلفة التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من العشرين من قبل باحثين أوروبيين خاصة الفرنسيين الذين احتلوا المغرب. وبعد حصوله على الاجازة في الفلسفة، اشتغل أستاذا في التعليم الثانوي، ثم أصبح مفتشا للفلسفة، وحصل على ديبلوم الدراسات العليا في علم النفس بكلية علوم التربية بمدينة الرباط سنة 1989.
من التدريس والتفتيش، التحق “الحسين آيت باحسين” بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2002، واشتغل في مركز الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، إلى أن حصل على تقاعده نهاية سنة 2010.
في سنته الأولى من التحاقه بالكلية بمدينة الرباط سنة 1970، التقى “آيت باحسين” مع طلبة آخرين أبناء الجنوب، كانت لهم علاقة بالجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، التي تأسست بنفس المدينة سنة 1967 من طرف بعض الطلبة القادمين من الجنوب.
والتحق الحسين آيت باحسين ب”الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي”، (لامريك) في وقت رحل عنها الطلبة المؤسسين إلى الخارج لاستكمال دراستهم العليا، وفي مقدمتهم المؤرخ صدقي علي أزايكو، وأحمد بوكوس، وبوجمعة الهباز وأحمد أكواو.
يقول إبراهيم أخياط مؤسس “لامريك” عن التحاق “آيت باحسين” بالجمعية في كتاب النهضة ما يلي: “بعد مغادرة معظم الإخوة المؤسسين للجمعية نحو فرنسا بقيت لوحدي في الرباط، غير أن انخراط العديد من الطلبة الجامعيين في الجمعية كان بمثابة ضخ دم جديد في عروقها، وشكلوا قوة دافعة لعملنا آنذاك، كما أن عددا منهم سيتمكن من القيام بأدوار مهمة في العمل الثقافي الأمازيغي من خلال الجمعية، وأخص بالذكر “الحسين آيت باحسين” الذي اعتبر انخراطه ربحا كبيرا للقضية الأمازيغية بصفة عامة، وللجمعية بصفة خاصة. لإيمانه العميق بالقضية ولتفانيه في خدمتها جمعويا وفكريا، إذ لا يتغيب عن أي لقاء فكري حول الأمازيغية سواء بالمشاركة بمداخلة أو بنقاشها وهو ما يجعلني أعتبره بمثابة أمين سر جمعية البحث والتبادل الثقافي وذاكرتها الحية.” (أخياط إبراهيم، النهضة الأمازيغية).
شهادة المرحوم أخياط مؤسس الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي “لامريك”، في حق الأستاذ “الحسين آيت باحسين”، شهادة قوية، دالة، ووافية عن الدور التاريخي الكبير لأستاذنا “آيت باحسين” في بناء تاريخ الحركة الأمازيغية، وعن الحضور الكثيف داخل كل مراحل وفترات النهضة الأمازيغية المعاصرة، ومشاركته الفعالة في أنشطة الجمعية منذ سنة 1970 إلى الآن، وداخل الحركة الأمازيغية بشكل عام، فهو ملتزم دائما بالحضور في الندوات التي يشارك فيها والتي يتم استدعائه إليها لإعطاء محاضرة في شتى المواضيع الفكرية والثقافية والبحثية التي يشتغل عليها.
ومنذ ذلك العَهد أي 1970 ظل “الحسين آيت باحسين” المحرك الفعلي والدينامو الحقيقي للجمعية المغربية للبحث والتبادل، إلى جانب أصدقائه وعلى رأسهم المؤسس والرئيس اخياط ابراهيم وآخرون.
ومن بين الأنشطة الأولى التي شارك فيها آيت باحسين بعد انضمامه إلى جمعية “لامريك” سفره مع أعضاء الجمعية في سنة 1971 إلى منطقة إيموزار في ضيافة المرحوم الدكتور “عبدالملك أوسادن”، حيث تم تنظيم أيام تكوينية ودراسية حول الأمازيغية بمشاركة كل من “أحمد بوزيد” و”عمر أمرير” و”محمد فرح” الذين كانوا طلبة في كلية الآداب بمدينة فاس، واستغرقت هذه الأيام الدراسية والتكوينية التي نظمتها جمعية “لامريك” خمسة أيام في بيت الدكتور “أوسادن”.
وفي سنة 1974 انتخب الحسين آيت باحسين لأول مرة في أجهزة الجمعية بالمكتب المركزي، وشغل منصب نائب الرئيس المكلف بالأدب، وكان الرئيس آنذاك هو السيد “أحمد الغزالي” الرئيس السابق للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري. وشغل نائب أمين المال في مكتب 1978.
كما كان الحسين آيت باحسين ضمن المؤسسين لجمعية الجامعة الصيفية، وعضوا بارزا في التحضير لدورتها الأولى بمدينة أگادير سنة 1980 ولجميع دوراتها، وكان عضوا في لجنة البحث والدراسات.
ظل “الحسين آيت باحسين”، مستمرا في الحضور والمشاركة في الأنشطة الثقافية الأمازيغية التي تنظمها الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، والتي تنظمها الجامعة الصيفية والجمعيات الأخرى، وكان يساهم في الندوات بمحاضرات فكرية قيمة، كما ينشر مقالات في الدوريات التي تصدرها لامريك، مثل مجلة “أراثن”، و”التبادل الثقافي”، “أمود” وجريدة “تامونت”.
كما شارك بمداخلات ومقالات في كل المنشورات والكتب التي تصدرها الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، مثل كتاب حول “ربع قرن من العمل الثقافي الأمازيغي”، الذي صدر سنة 1993، نشر فيه دراسة قيمة تحت عنوان: “من أجل شمولية العمل الثقافي”، كما ساهم بمقالة في كتاب نشرته الجمعية حول موضوع “قراءة في مسار الحركة الثقافية الأمازيغية”، نشر سنة 2004.
وبسبب اسهاماته الكثيرة والمتعددة الجوانب، فإنه يصعب علينا جرد كل المقالات والدراسات التي نشرها آيت باحسين في كثير من المجلات والكتب الجماعية والندوات المنشورة، والحوارات الصحفية.
ونذكر هنا على سبيل المثال، لا الحصر، مساهمته في اعداد وتنسيق للندوة الوطنية التي نظمت يومي 26 و27 يوليوز 2005، حول موضوع “المرأة والحفاظ على التراث الأمازيغي”، ونشرت أعمالها في كتاب سنة 2008، وساهم فيها الأستاذ “آيت باحسين” بمداخلة حول موضوع: “دور المرأة الأمازيغية في الحفاظ على البعد الأمازيغي للهوية المغربية من خلال ابداعها”. منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.
كما نسق الأستاذ ” الحسين آيت باحسين” والأستاذ “الحسين وعزي” لندوة وطنية حول القانون والمجتمع بالمغرب، والتي تم نشرها في كتاب قيم، سنة 2005، وساهم فيها بمقالة حول عنوان: “مساهمة في دراسة بعض أنماط التحالف في المجتمع المغربي وآليات تشكله”. منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.
ونشرت له مقالة مهمة حول عنوان: “الطوبونومية والبيئة، بيئة بليونش- من خلال مصادر تاريخية وأدبية- نموذجا”، ضمن كتاب البيئة بالمغرب: معطيات تاريخية وآفاق تنموية، منطقة درعة نموذجا، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية 2005.
آيت باحسين: مُؤسس أنثروبولوجية المَاء
بحكم تخصصه في الفلسفة وعلم النفس الاجتماعي، اهتم “الحسين آيت باحسين” مبكرا بقضايا الأسطورة والحكاية والعادات والممارسات الثقافية والطقوس والمقدس والمتخيل الجماعي، كما اهتم بدراسة اللغة ودورها في فهم بنيات التاريخ والمجتمع والثقافة. لذلك؛ نجد الحسين آيت باحسين من بين الباحثين الأوائل الذين اهتموا بالبحث الانثروبولوجي، لفهم الكثير من الطقوس والعوائد الثقافية، كطقوس الاستمطار والاحتفال الجماعي والشعبي برأس السنة الامازيغية، التي كتب فيها آيت باحسين دراسات ومقالات كثيرة، وأجرى عشرات من الحوارات الصحفية طيلة عقود قبل الاعتراف الرسمي برأس السنة الأمازيغية كعيد وطني ويوم عطلة مؤخرا بالمغرب بقرار ملكي. وكان آيت باحسين واكب هذا المطلب الأمازيغي بأبحاث علمية وأنثروبولوجية مجدة ومفيدة، لتفسير وفهم الأبعاد الأنثروبولوجية لاحتفالات إيناير التي تختلف من مجال إلى آخر بعموم بلدان شمال إفريقيا، ويغوص آيت باحسين في تأويل وتفسير البنيات الثقافية لهذه الطقوس التي لها ارتباط وثيق بتاريخ الأمازيغ العريق، وعلاقتهم بالزمن وبالزراعة والميثولوجيا القديمة.
من بين القضايا التي اشتغل عليها الباحث آيت باحسين ومنح لها اهتماما بالغا في الدرس والتحليل والتفكيك، هي الطوبونوميا، ويُقصد بها العلم الذي يدرس دلالات أسماء الأماكن، وأفرد لها دراسات وأبحاث كثيرة في غاية من الدقة، وقد اتبع منهج المؤرخ والمفكر الأمازيغي المرحوم صدقي علي أزايكو(أنظر نماذج من أسماء الأعلام الجغرافية والبشري الأمازيغية)، وأضاف له آيت باحسين لمسته الأنثروبولوجية والفلسفية العميقة. ونشر في هذا الموضوع مقالات ودراسات كثيرة.
يعتبر الحسين آيت باحسين من الأوائل الذين اهتموا بالنشر الإلكتروني والرقمي، فقد واظب على نشر مقالاته ودراساته القيمة على الموقع الالكتروني “الحوار المتمدن”، لما يناهز عن 15 سنة، منذ أن نشر أول مقالة له في يوم 20 مارس 2010 حول المرأة الأمازيغية وأدوارها التاريخية والثقافية في حفظ اللغة الأمازيغية واستمراريتها. ومنذ ذلك الوقت أي 2010 إلى اليوم نشر الباحث والأستاذ آيت باحسين ما مجموعه 165 مقالة ودراسة حول مختلف القضايا التي يهتم بها، حول الطوبونيميا والرموز والأسطورة في الشعر والأدب الأمازيغي، وحول الطقوس ومظاهر الاحتفال الأمازيغية، ايناير، ايمعشار، بيلماون، وقضايا مختلفة كثيرة ومتداخلة حول الثقافة واللغة الأمازيغيتين، وأيضا على مسارات مأسسة الأمازيغية والاكراهات التي تعاني منها منذ 2001 إلى الآن.
في سنة 2018 وخلال شهر رمضان، نشر الأستاذ والانثروبولوجي القدير آيت باحسين، سلسة من الدراسات والمقالات العلمية وصل عددها 28 مقالة ودراسة، حول موضوع في غاية من الأهمية، سبق أن كتب فيه بعض الباحثين والدارسين ولكن لم يسبق أحدا في مقاربة الموضوع بالطريقة والمنهج والتحليل والتحليل الذي اعتمده آيت باحسين، وهو موضوع أنثروبولوجي جديد في المغرب، وهو “الأساطير المؤسسة لاكتشاف الموارد المائية واستغلالها (العيون نماذجا) من وجهة نظر أنثروبولوجية”.
وقد نشر الأستاذ “آيت باحسين” هذه المقالات خلال شهر رمضان 2018 على الموقع الالكتروني الاخباري “هسبريس”. ويقول في اطار بسطه للغايات والأهداف التي جعلته يختار الغوص والبحث في هذا الموضوع الفريد: ” البحث عن كيفية تأطير المتخيل والرمزي للواقع المعيش في مجتمعات تعيش مرحلة الانتقال من نمط الترحال Nomadisme والرعي Pastoralisme كنشاط أساسي؛ إلى نمط الاستقرار الذي يزاوج بين أشغال الزراعة Agriculture والانتجاع Transhumance ؛ والوقوف على كيفية نشأة تجمعات سكنية وسكانية حول هذه العيون كنواة لأنشطة اقتصادية واجتماعية، بل أحيانا، وسياسية في شكل أحلاف تتقاسم الدفاع عن مصالحها والحفاظ على أمنها واستقرارها”. (موقع هسبريس مقالة حول عنوان: عيون الماء على سبيل خلاصات أولية لسلسة هذه الحلقات الرمضانية، منشور بتاريخ 15 يونيو 2018).
وقد توفق “الحسين آيت باحسين” كثيرا في اختيار هذا الموضوع، الذي استغرق فيه وقتا طويلا من خلال البحث والتحري الميداني من خلال زياراته البحثية والاستقصائية لعدد مهم من العيون المائية وتتبع أثرها في الروايات الشفوية وبين ثنايا الأبحاث والدراسات والمصادر التاريخية الدفينة والوثائق الخاصة. فقد تعمق الباحث “الحسين آيت باحسين” في التغول وسبر أغوار العيون المائية بين المتخيل والرمزي وفي الواقع، شارحا بالعين الباحث الانثروبولوجي المتخصص والمدقق الذي يبحث عن التفسير والتحليل والتأويل وليس فقط عن الوصف الاثنوغرافي، لتفسير الوظائف والأدوار الكثيرة لهذه العيون من خلال التعبد والتقديس والاستشفاء والعلاج وطلب البركة والاستجمام والترفيه ثم الوظائف الجديدة في الاستثمار والاقتصاد من خلال تجارة الماء، وتعبئة المياه المعدنية وانشار شركات تستثمر في هذا المجال خلال السنوات الأخيرة.
لقد شملت هذه الدراسات الكثير من عُيون الماء على خريطة المغرب، من الريف والأطلس والصحراء، والسهول والواحات والمدن، فقد درس كل أشكال الاستغلال والتوظيف والطقوس والأساطير المؤسسة لهذه العيون، كعين السلطان ومولاي يعقوب، وفزوان وأباينو في شيشاوة وأباينو في آيت باعمران، وحامات مثل مولاي يعقوب وسيدي حرازم وعيون دادس وورزازت، وعيون أرفود، وتيمولاي في نواحي بويزكارن وعيون بوكماز في إقليم أزيلال وعيون أكلو في تزنيت وغيرها من العيون المائية في مختلف مناطق المغرب…
سلسلة الدراسات والمقالات التي نشرها الحسين آيت باحسين في 28 حلقة خلال 2018 هي عمل أنثروبولوجي مبهر ومهم، فتح بها الباحث أوراشا جديدة في البحث الانثروبولوجي، أمام الباحثين والمهتمين، ويمكن تسميتها ب”مدخل في أنثروبولوجية الماء”، ما أحوجنا إليه في هذا السياق الذي نعيش فيه تناقضات صارخة بين شبح العطش والجفاف وخطر السيول والفيضانات، فموضوع الماء ليس حكرا فقط على علماء المناخ ومهندسي الفلاحة والماء، وإنما يجب أن ينفتح علماء وباحثين في الانثروبولوجيا والتاريخ وعلم النفس التاريخي وعلم الاجتماع على قضية الماء، ودراستها من زوايا علمية متعددة وفقا لمقاربات ومناهج علمية مختلفة.
“الحسين آيت باحسين” أسس لتخصص جديد في الانثروبولوجيا وهو “انثروبولوجية الماء” من خلال دراسته للعيون المائية والاساطير المؤسسة لها وأشكال استغلالها وتوظيفها. ونتمنى من المعهد الملكي للثقافة الامازيغية ومركز الدراسات والأنثروبولوجية والسوسيولوجية الذي يعد “آيت باحسين” أحدد مؤسسيه، أن يقوم بجمع وتصنيف وطبع هذه الدراسات على شكل كتاب للأستاذ “الحسين آيت باحسين” وفاء وتكريما له لما أسداه من خدمات جليلة ومساهمات فكرية وعلمية في سبيل الأمازيغية، وهذا الطلب موجه أيضا للجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي التي وهب لها “الحسين آيت باحسين” شبابه وحياته. فكل ما تحقق من مكتسبات وحقوق لصالح الأمازيغية اليوم، يعود إلى العمل الجبار والتضحيات الجسام التي قدمها مثل الحسين آيت باحسين وجيله من المفكرين والباحثين والعلماء الذين يجب أن نفتخر بهم ونقدر عطائاتهم وفكرهم ونسير على منوالهم في الدفاع عن الأمازيغية بالفكر والكتابة والعقل والتأليف…
نرجو مديد العمر ووافر الصحة لأستاذنا العالم الانثروبولوجي “الحسين آيت باحسين”.
عبدالله بوشطارت
الرباط 9 أكتوبر 2024.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.