قرأت في الصفحة 85 من الرواية ” اأسرع طريقة للوصول إلى قلب كاتب هي إدهاشه لغويا ”
هذا ما قام به الكاتب بالفعل و هو يمنحنا السفر بلا جوازات في روايته في طبق شهي ، لكنه موارب…مستعص على القبض .
رواية زنزانستان الصادرة عن دار القلم العربي في طبعتها الأولى لسنة 2024 و الممتدة على 368 صفحة في أربع و عشرين فصلا ، حيث يمكن إدراجها ضمن الرواية الاجتماعية الواقعية ، ربما أقول ذلك لأنها استطاعت تشريح واقع معطوب بكل المقاييس ، حيث جعلنا الكاتب صلاح الدين نرزح بين التأمل و الأمل، و ما بين هذه الثنائية الماتعة ، راح يرمي بنا بلا هوادة في بئر عميقة، دون أن يرمي لنا حبل النجاة ….فجلس على مقربة منا شاهدا على ما أحدثه و يحدثه فينا هذا المتن الروائي من خراب تارة و من ترميم تارة أخرى ، فراح المتن يسحبنا سحبا ، و يأسرنا أسرا ، و رحنا نحن نقرأ الصفحات تلو الصفحات ، لنعثر على خيط ناظم ، و بلسم شاف ، و مابين الفصل الأول و الفصل الرابع و العشرين أصغينا للوجع الإنساني ، للظلم ، للسؤال ، للدهشة ، للألم ، للأحلام …
فباغتتنا الأحداث فتدفقت قراءتنا نشطة و متتجة لأننا في حضرة ما يستأهل القراءة … ما يستأهل التأمل مبنى و معنى، ما يستأهل التحليل و المناقشة ، و هنا أستحضر قول يمنى العيد في كتابها الراوي الموقع و الشكل : بحث في السرد الروائي في ص : 13 ” تكون القراة نشطة و منتجة حين يكون بمقدور القارئ أن يفهم النص و يفسر ه و يناقشه أو يحاوره ، “و نقول أن القراءة النشطة و المنتجة يجعلها الكاتب كذلك و يدفعها النص الى ذلك .
و قراءة رواية زنزانستان لم نكن فيها مجرد مستسلمين ،،، بل كانت تملك قدرة رهيبة على خلخلة الثابت و إرباكه ، فغدت قراءتنا شكا حينا و يقينا أحيانا أخرى .
رواية صلاح الدين أقرقر أثارت مجموعة من القضايا المجتمعية و منها ما هو مسكوت عنه ، لكن المؤلِّف نبش و عرّى و كشف عن كل منغصات الحياة و زنازينها …
سأقف عند أهم العتبات النصية أو ما يسمى بالنصوص الموازية ألا و هو العنوان على واجهة الكتاب غير أن عتبات أخرى تحتاج منا كقراء التحليل و القراءة منها صورة الغلاف ثم الإهداء ، الاقتباسات ، مرورا بعناوين الفصول الرئيسية و انتهاء بالعناوين الفرعية الشارحة للأولى و المفسرة أحيانا و انتهاء بظهر الغلاف …. .
فالعنوان باعتباره عتبة نصية فهو جزء لا يتجزأ من استراتيجية الكتابة لدى المؤلف لاصطياد القارئ و إشراكه في لعبة القراءة على حد تعبير الناقد خالد حسين في نظرية العنوان : مغامرات تأويلية في شؤون العتبة النصية .
فالعنوان هو التأثير و الإبهار لحمل القارئ على الفعل القرائي دون أن ننسى الأبعاد اللسانية والتداولية و الوظائفية للعنوان .
و الكاتب صلاح الدين انتقى عنوانا مركبا تركيبا مزجيا من كلمتين :
زنزنانة : غرفة صغيرة في السجن غالبا ما تخصص للسجن الانفرادي أو المعزول .
ستان : كلمة فارسية تعني أرض أو مكان .
فالكاتب يعي كل الوعي أهمية العنوان من حيث كونه ملفوظا لغويا يختزن مجموعة من الدلالات اللامتناهية ، فهو بالنسبة له ليس عنصرا هامشيا بل هو المفتاح الحقيقي لولوج النص .
و كلمة زنزانستان لم يضمن معناها الكاتب و لم يصرح بها إلا بعد وصولنا ألى صفحة 352: “جميعنا محتجزون في زنازين مختلفة الأشكال و الأحجام ، الكثيرون يعتقدون أن الزنازين توجد فقط داخل أسوار السجون ، و الحقيقة أن الزنازين توجد في كل مكان ، وهي بعدد حبات رمال صحراء شاسعة ، فالتيه زنزانة و الهوى زنزانة و الخوف زنزانة ، حتى الحب زنزانة ….”
و يتابع قائلا في ص : 353″ في هذا العالم لا أحد حر ، حتى أولئك الذين يكللون رؤوسهم بالتيجان ، ، الكل مسجون في زنازين قد تضيق أو تتسع ، الجميع مربوط إلى حبل قد بقصر أو يطول ، إن هذا الكوكب البئيس الذي نعيش فيه ، و رغم كل إغراءاته و فتنته المخادعة ، ليس في الحقيقة سوى امبراطورية مترامية الأطراف ، لو أردنا أن نضع لها اسما يليق بها لما عثرنا على اسم أفضل من زنزانستان .و هو الذي أشار في إحدى حواراته الصحفية قائلا : ” السجن لا يحتاج دائما إلى زنزانة ، يكفي أن يمنع العقل من التفكير و اللسان من النطق و القلب من الحلم …..
فماهذا العصف الذهني بذهن قارئ لاحول له و لا قوة أمام تيار جارف من المعنى نعيشه من غير حول لنا و لا قوة أيضا .
ماهذا التيه و الوجع الذي تعري عنه أيها الكاتب و تحركه على نار هادئة ، أي جريمة اقترفناها في حقك ، حتى تكشف عن خيباتنا و تظهر تفاصيلنا و تبوح بأسرارنا ، تحدثنا عن زنازينا الضيقة و سجوننا الواسعة اللامرئية ؟
عن أحلامنا ؟ عن أعطابنا ؟ عن عواطفنا ؟ عن وساوسنا ؟
ماهذا التشظي و الانشطار الذي أحدتثه بنا الرواية التي اعتقدنا أنها ستلقي بظلالها على لهيبنا و حرائقنا ، حتى إذا استسلمنا لنسائمها اللطيفة و استأمنتنا و أوغلنا في الهدوء و السكينة …صارت الأحداث ترعد و تبرق ، فيأتي إعصارها فاتنا لغويا ، مربكا شعوريا ، عذبا أسلوبيا ، مرعبا مصيريا ، فاضحا …..
نحن الذين قرأنا ف ص 13 : الكتاب لا يجنون من الكتابة سوى الألم ، و رغم ذلك يستعذبون ذلك ، ويتباهون به في كل مجلس ” ها نحن أيضا يحدث لنا ما يحدث للكتاب ، نجني الفرح المصبوغ بالألم ، نقرأ لعلنا نشفى فنصاب بالدوار ، و أنت تمارس علينا سردا تناوبيا عذبا ، بعد أن تعودنا على السرد المتسلسل أو المتقطع ،
تأت إلينا أيها الكاتب المدهش بروايتك زنزانستان لتربك مواثيق القراءة بفصول تتناوب فيها قصتان :
قصة الكاتب سالم و زوجته صبرا ، سالم الذي يكتب و يسعى للحلم و سرعان ما تتلقفه الحيتان الضخمة التي تملك نا لا يملكه ، حيتان تسرق الحلم لأنها تملك المنصب و الجاه و السلطة … فيقبض عليه بتهمة كتابة رواية عظيمة دون امتلاك القدرة على نشرها ص : 271 فيصاب بعطب نفسي يدفعه إلى محاولة الانتحار .
و قصة ميمون و زوجته سلوى و ابته ريم و ابنه باسم
وموضوع الهوية الجسدية ..
يحتدم الصراع و الحوار بين الشخصيات و تتناوب الأحداث ليخلق لنا الكاتب صلاح الدين تحفة فنية نادرة …..
فشخوص الرواية : سالم و صبرا و ميمون و باسم و ريم و سلوى و غيرهم هم نحن .
نحن الذين انكمشت أحلامهم داخل زنازين الخوف و التردد ، و الفقر و الحرب ، و الجهل و الكذب و النفاق و العادات و الأعراف الموبوءة …
هم نحن الذين غاب عنا الظل الوارف فصرنا نحترق وونولد من حرائقنا كل مرة …..
هم نحن الذي قرأنا لعبد الرحمان منيف شرق المتوسط و مدن الملح و لحنا مينة بقايا صور و المسنتقع ، نقرأ اليوم لصلاح الدين أقرقر زنزانستان التي وصف من خلالها الانكسار النفسي و الوجداني لشخوص ليست سوى انعكاس لشخوصنا في الواقع..
إن رواية زنزنستان مهما فعلت بنا من شروخ ، و ندوب و مهما كشفت عن خساراتنا ….لكنها استطاعت أن تكشفت بالسؤال عن الألم ووعن القضية بطرحها مجموعة من الموضوعات والتيمات الراهنة ، فكاتبها يملك جرأة التحليل و قوة الطرح ، لأنه كاتب بالأصالة و يملك حاسة الإصغاء الجيد للوجع الإنساني …..
رواية زنزنستان شقت طريقها بثبات لتكون علامة مميزة ضمن الرواية المغربية و العربية ، تستحق أن تترجم و تستحق أن تدرس.
رواية تميزت بعتباتها النصية و بنياتها السردية و لغتها الروائية ، ومقترباتها السيكولوجية و السوسيولوجية و استراتيجياتها الوصفية ،
إنها رواية تخيط الجرج بالجرح ، وبها نكون قد ربحنا كاتبا مغربيا شابا يملك رؤية و أفكارا مبتكرة ، و لغة مدهشة ، و تحليلا دقيقا ، ووصفا موجعا و ساخرا و مهارات واثقة .
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.