“التوحد الإنساني”.. بين القتلة وذوي الدم الأزرق

بقلم: يوسف عشي

    إذا كانت العبرة لمن يعتبر، فإنه لا أقل من الاعتراف ببؤس وشقاء الإنسان في العالم اليوم.. وهو شقاء وليس بقدر.. لكن شاءت نفس الإنسان الدنيئة أن تجعله قدرا. ولا مبرر ولا مسوغ لتحققه سوى خبث الإنسان وكبريائه البئيسين الذين قاداه إلى الهدم الدائم لما يعتقد في كونه يجسد روح الإنسان، وهي “الحضارة”.

    مناسبة هذا الكلام ما عرفه ويعرفه العالم من استباحة الإنسان للإنسان، لا لشيء سوى لتقرير جماعة يقضي بعلويتها، وسفول ما عداها، وحتمية امتلاكها لحقوق “لايحق” للأخرين امتلاكها. حتى لو انتموا لنفس الجنس “الإنسان”.

    لقد تعددت مبررات ما نسميه في هذه المساهمة ب”التوحد الإنساني” وهو توحد لكونه يمتلك تماما نفس مواصفات وأعراض المرض المعروف عند الأطباء، والذي تشكل سمته الأساسية : التمحور حول الذات، والعيش في الفردانية حتى بعد الشعور بالآخرين، الذي يظل في أحسن حالاته شعورا موازيا لا اعتباريا.

    ربما يستشعر القارئ الكريم بعض الضبابية في قولنا هذا إذا لم نرفقه بواقعة أو وقائع ملموسة، ولهذا سنجعل من واقعة الهجوم الأخير الذي تعرضت له فرنسا بعاصمتها، بموازاة ما يربو من أربع سنوات من الهجمات والهجمات المضادة التي تعرفها البقاع العربية ونخص هنا ما يجري بسوريا والتي تشارك فيها أطراف عديدة لا يجمع بينها سوى ما حددناه سالفا ب”التوحد الإنساني”.

    سال مداد كثير وتعالت أصوات عديدة في مختلف ربوع المعمور تندد بما سمته ب”الإرهاب” – ذلك البراديغم السياسي المهيمن منذ أزيد من عقدين من الزمن علي التوصيفات السياسية لا الواقعية للإعتداءات الإنساسية/الإنسانية – وتوالى شجب استهداف الأبرياء الذين يؤخذون بذنوب أخرين ويسقطون ضحايا دون أن يكون لهم أي دخل في ما يدور بين ما نسميهم ” مرتكبي العمليات القتلية” وبين المسؤولين عن “أمن” المواطنين بعاصمة الأنوار وغيرها من المواقع في سائر ربوع العالم..

    كل الشرائع السماوية والأرضية، الإلهية والإنسية، تدين القتل وتدعو إلى السلام والأخوة والمودة والرحمة. وما الإنسان في النهاية سوى ريشة في مهب تيارين عاصفين قويين متعارضين: تيار الشرائع التي تعقلن الوجود الإنساني وتمنحه الإستقرار والإستمرارية، وتجسد بذلك التيار السطاتيكي للحياة الدائمة الدينامية، وتيار التطرف للنظرة الأحادية المرتكزة على الذات، والمتقوقعة داخل البنية الذاتية للإنسان “القاهر” ذاك الذي نعتنا ووصّفنا حالته بمفهوم “التوحد الإنساني”.

    إن إزهاق 130 روح بشرية بباريس لهو فعلا حدث جلل، بل إن إزهاق روح واحدة لهو حدث عظيم وخطير، ويستدعي نكران الدنيا كلها في سبيل الحفاظ عليها، وذلك ما عبر عنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم في قوله { لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل نفس واحدة} أو كما قال. فكيف بمن يعلل قتل الناس وترويعهم بذريعة نصرة الدين الإسلامي؟؟ الجواب واضح: من يفعل ذلك أو يظن حتى مجرد الظن في ذلك إنما هو بعيد كل البعد ليس عن الدين الإسلامي فحسب بل المسيحي واليهودي وحتى البوذي..لأنه بكل بساطة.. لادين له.

    لكن ليس من يَقْتُل في باريس هو فقط من ينطبق عليه مفهوم “التوحد الإنساني”، أو التطرف الديني أو المذهبي أو السياسي أو حتى ما يحلو للكثيرن أن يصفوه ب”الإرهاب”. بل إن من وضع له المبررات الوجودية، والحوافز التدافعية، لعمري هو أشد وأنكى.. بل إنه المجسد الحقيقي لمعنى “التوحد الإنساني”.

    حينما تتراص على قمم المقالات وعناوين الأخبار طيلة عقود وعقود منذ بدايات القرن العشرين أخبار الآلاف والملايين من القتلى من مختلف الجنسيات، الذين أزهقت أرواحهم لا لشيء سوى لأن أشخاصا آخرين من بني جنسهم قرروا ذلك !لسبب أو لغيره أو حتى بدون سبب لأنه يظل دائما غير كاف لتبرير النزيف الإنساني.

    حينما يقرر الغرب ذو الدماء الزرقاء، بعد ثورته الصناعية والتطور الرهيب في الصناعات الحربية، يقرر بكل بلاهة وبلادة استثمار هذه القوة في الهيمنة على باقي بقاع المعمور، ويطلق حملاته الكلونيالية التي حصدت – ولا زالت تحصد – آلاف وملايين الأرواح، فإنه لا يسعنا سوى توصيف الأمور بما تعنيه حقا والاعتراف ب”دونية” الإنسان الذي لم ينج و”بمحض إرادته” لم ينج من همجية “التوحد الإنساني”.

    المشهد ليس معقد، لكنه أحمر قاني لدرجة السواد.. قتل 130 بفرنسا.. ومئات الآلاف وما يفوق المليونين بالعراق وسوريا واليمن ومصر وليبيا والجزائر.. وقبلهم الملايين بأوربا نفسها، ويكفي التذكير أن الحرب العالمية الثانية أسقطت بروسيا وحدها وفقط 30 مليون قتيل !!

    لماذا هذا السيل والنزيف الإنساني الدائم؟ لماذا هذه الهمجية التي حتى الحيوان لا يتصف بها؟

    ليس عليكم التفكير مليا.. فالجواب بسيط: إنه ” التوحد الإنساني”. وإلا : ماذا تفعل فرنسا في سوريا؟ وروسيا الآن في البلد نفسه؟ وما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية في العراق..وووو حتى تتذرع وتتعلل منظمة ما كالقاعدة في أحداث 11 شتنبر وداعش بالجمعة الدموية أو أي كان، يقتل الناس ردا على تواجد الأسياد الزرق بالأراضي العربية المسلمة.. ماذا فعلت فلسطين حتى تستباح أرضها، وتخلق فوقها وفوق شعبها دولة كاملة خلقا؟؟ ما ذنب شعوب إفريقا حتى يستعبد سكانها ويتاجر بهم وبثرواتهم في مختلف ربوع المعمور، وتستعمر بلدانها ويستباح حماها؟؟ ما ذنب الجنوب الحار أيها الشمال البارد المتشح بالزرقة؟؟

     الجواب على هذه الأسئلة وغيرها كثير، هو كما قلنا، وعكس ما يعتقد، بسيط جدا، وباختصار شديد.. إنه الإنسان.. المصاب بمرض “التوحد الإنساني” إنه ذاك الكائن الذي اعتقد دائما “وواهما” أنه يصنع كذبا ما يسمي “حضارة”. إنه ذلك الكائن الوضيع الحقير الذي لم ينتصر يوما على نفسه والذي ظل دائما حبيس توحده المرضي الدائم.

 السلام عليكم.

اترك رد

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد