بقلم: لحسن أمقران.
رغم استيفاء التصويت على مشروع القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي كل خطواته الدستورية، لا تزال الهزات الارتدادية تتواصل في ساحة النقاش العمومي بين فئات عريضة تنوه بتمتيع الناشئة بحقها في اكتساب المواد العلمية والتقنية باللغات الحية، بعد أن كان ذلك يقتصر على محظوظي المؤسسات الخاصة، وبين تيار ألبس القانون الإطار لبوس الأيديولوجيا والتوظيف السياسوي الضيق، وهو الأمر الذي يتطلب في نظرنا تناولا هادئا وتحليلا دقيقا في أفق بناء فهم صحيح لطبيعة “الصراع”.
التعريب اختيار بيداغوجي أم قرار أيديولوجي
رغم أن البدايات الأولى للتعريب تعود إلى بداية ستينيات القرن الماضي، حين كان المتحمسون للمشروع العروبي كمحمد الفاسي ويوسف بلعباس وغيرهما يتحملون المسؤولية بالإدارات المركزية، حيث قدموا مشروعا يهم تعريب الرياضيات والفيزياء سنة 1962، كما أنشئوا معهد التعريب والذي أشرف على إدارته الراحل محمد الأخضر غزال وهو الذي اشتغل من قبل مستشارا في التعريب للوزراء السابقين. يظل الراحل عز الدين العراقي أحد رموز سياسة التعريب في المغرب ومهندسها الفعلي في المنظومة التربوية، حيث سنّ سنة 1984 تعريب التعليم في المغرب، خاصة المواد العلمية بالتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي، وكانت التسع سنوات التي قضاها في وزارة التعليم كافية للإجهاز على المنظومة وبداية تدشين مسلسل الإصلاحات.
التعريب أثبت فشله منذ بداياته الأولى بالنظر إلى حجم التخبط الذي خلّفه القرار المفاجئ بتعريب التعليم العلمي، إن على مستوى الإعداد والتكوين وتغيير المناهج وتأليف الكتب، أو على مستوى الممارسة التربوية داخل الفصول واستبدال اللغة والإطار المعرفي للتعلم، وما لازم ذلك من هدر للجهود والزمن وإخفاق مركب سواء في التصور أوالتخطيط أوالتأهيل. أكثر من ذلك أفضى التعريب إلى شعار للاستهلاك خاصة بعد الإدعاء بتعريب التعليم في حين كان لزاما تلقي الدروس في المواد العلمية باللغة الفرنسية، وهو ما حاول “التعريبيون” تداركه بحصص سميت “ترجمة”، ليتضح جليّا كيف غلّف قرار أيديولوجي يعطّل الوعي والحس الاستراتيجي الفعلي بغلاف البيداغوجيا، بنية تكريس الهيمنة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في يد فئة معلومة.
من يريد العودة بنا إلى الوراء؟
إذا كنا أشرنا سلفا إلى أن البدايات الأولى للتعريب كانت على بعض المتحمّسين للمشروع العروبي، فإن من يريد اليوم العودة بنا إلى الوراء وتكريس هذا الموقف المفارقاتي هم حفنة من أحفاد هؤلاء وتلاميذهم، وعدد من مريديهم الذين لم يستوعبوا بعد حساسية القرارو تشعب النقاش حوله. متزعمو هذه الحملات ساسة متقاعدون ينعمون بالريع ويمارسون هواية عرقلة التغيير ويستميتون من أجل تكريس الفوارق بشتى ألوانها، أو ساسة فقدوا عذريتهم السياسية ويبحثون عن العودة إلى الساحة عبر الركوب على قضايا ولو تعلق الأمر بمستقبل الوطن، هؤلاء “السلفيون” –بالمعنى اللغوي وليس الشرعي- ومن خلال قراءة أولية لأسمائهم التي لن تجدها بتاتا في المؤسسات التربوية العمومية، تجدهم لا يخرجون – في سوادهم الأعظم – عن دائرة الأدب العربي والدراسات الإسلامية التي لا يشملها قرار التدريس باللغات الحية.
التعريبيون وتضليل المغاربة
لم نسمع يوما هؤلاء التعريبيين يهتمون للاهتمامات الحقيقية للمغاربة، وحناجرهم لا تصدح إلا لماما لقضايا تظل في معظمها جانبية أو حتى مستوردة، لا يملكون تصورا وطنيا مواطنا لمستقبل بلادنا، و لن يقدموا أي رؤية لنموذج تنموي كفيل برقيّها، لن يمارسوا مهامهم البرلمانية لتحسين أوضاع الوطن والمواطن ولن يتقدموا بمشاريع قوانين لدمقرطة الحياة العامة ولو أن منهم من عمّر البرلمان عقودا من الزمن، لا تهمّهم المشاكل اليومية للمغاربة الذين يحرضونهم في كل مرّة ويجعلون منهم شخوصا فاقدين لروح النقد، تائهين بدون بوصلة ولا منطق حر سليم، تعريبيون أجسادهم بين ظهرانينا لكن قلوبهم في عوالم أخرى جعلتهم يغيبون القضايا الوطنية الكبرى في أجنداتهم. بالمقابل تجدهم يرغدون ويزبدون كلما تعلّق الأمربصراعهم الأيديولوجي السرمدي، ويعبرون عن التذمر واليأس وبأشد اللهجات في بلاغات وبيانات جوفاء، ليس دفاعا عن اللغة العربية التي أساؤوا إليها ولم يقدموا لها شيئا غير النواح والعويل، بل بغرض تضليل الناس وتحوير النقاش عن القضايا المصيرية والراهنة للمغاربة.
قراءة في بلاغ “جبهة معارضة فرنسة التعليم”
أفضى الاجتماع الذي احتضنه بيت أحد القادة الاستقلاليين إلى ضرورة تأسيس ما سمي جبهة وطنية معارضة لـ”فرنسة التعليم” وإصدار بلاغ يحمل في طياته الكثير من المغالطات الموغلة في الأيديولوجيا والمزايدات المردودة في الوطنية. فالبلاغ في الواقع لا يمثل إلا من تذيل البلاغ باسمه وتوقيعه و لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يمثل الإرادة الشعبية للمغاربة، وقد اعتاد هؤلاء الكلام باسم الشعب المغربي لما انتبهوا أن اليأس بالمغاربة جعلهم يحبذون الصمت. الفعاليات التي وردت أسماؤها في مرفق البلاغ تم النفخ في وزنها بنية في نفس يعقوب، ومن يحلل لغة البلاغ سيجد أنه حرر في حالة انفعال وعمد إلى توظيف لغة الوعيد التي تخفي عجزا عن الإقناع الهادئ. من جهة أخرى نجد البلاغ المعني متناقضا من حيث حديثه عن الدستور واختزاله لمقتضياته، وكذلك الشأن في تاريخ وهوية بلادنا . اختصارا، لا يمكن بأي حال من الأحوال ادعاء خروج البلاغ عن دائرة الحمية الأيديولوجية والقومية التي تجمع موقعيه لصالح غيرة حقيقية عن الوطن وأبنائه، كل أبنائه. وعليه، على دعوة الشعب المغربي بكل مكوناته أن يتسلح باليقظة والحذر للتصدي لكل ما يهدد تنوعه اللغوي واختزال مقومات هويته وانتمائه الحضاري وتاريخه المجيد.
خاتمة
في الختام، لقد كان تعريب المنظومة التربوية قرارا سياسيا وإداريا خاسرا بكل المقاييس، وآن الأوان أن تنخرط الأسر المغربية في صنع قرار يهم مستقبل أبنائها، آن الأوان أن يوقف النزيف التربوي ويخرج رجال التربية عن دائرة الصمت السلبي، آن الأوان أن يسحب البساط بقوة من تحت أرجل المتاجرين بمستقبل أبنائنا، تجار الوهم المغلّف بالهوية والدين ممن يريدون لأبنائنا أن يمتثلوا لقراراتهم ليحتفظوا ويضمنوا لأبنائهم بكل مواقع المسؤولية السياسية والإدارية من خلال تخصيصهم بجودة العرض التربوي والتكويني في المؤسسات الخاصة بشتى أشكالها، حيث تدرس هذه المواد باللغة والانجليزية والاسبانية والفرنسية. نختم بالقول:
أيها الشعب المغربي الأبي، عليك بمرتزقة التعريبيين الانتهازيين الذين يضمرون غير ما يعلنون ويفعلون غير ما يقولون، ويتطاولون على مقرّرات المؤسسات الدستورية للبلاد.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.