التاريخ والإعلام، إخوة تفرقهم الايديولوجيا!

محمد لحميسة

“نحن نتنفس الأيديولوجيا” لوي ألتوسير

دوما ما اعتبرت التاريخ بكونه علم -أي له ضوابط ابستمولوجية، أليات عمل وتحليل صارمة تمنع عن الواقعة التاريخية فوضى التأويلات- يقع في جهة التعارض مقابل الاعلام بكل أصنافه، إذ أن هذا الأخير هو الأرض الخصبة لِتَيْنَعَ ثمرات الأيديولوجيا.

وعندما أستحضر هنا مصطلح ولفظ الأيديولوجيا فإني لا أعني به فقط الخضوع لمشروع سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي، لكن أتجاوز هذا الفهم من أجل فهم آخر تكون فيه الأيديولوجيا تشويه وتزييف للوقائع والاحداث، عملية إعادة تأويل لوقائع باردة جامدة تمنحها أقلام وسرديات الاعلامي المعنى والحياة من خلال رداء ملون يشوه الرؤية، وهذا الرداء ليس الا الأيديولوجيا!

ان العلاقة بين التاريخ كمعرفة أكاديمية والاعلام هي علاقة غير شرعية، والمعيق الذي يحول دون بلوغ نصاب الشرعية هو الايديولوجيا، التحيزات الذاتية، التمثلات الشخصية، التأويلات الخاصة، فالواقع واحد لكن تتعدد تأويلاته، وهذا التعدد يلغي أول شروط قيام العلم بما هو بحث عن الحقيقة، الحقيقة الواحدة الموضوعية الواقعة خارج ذواتنا .

ان الصيغة الوحيدة الممكن فيها تلاقي هذين العنصرين -التاريخ والاعلام- هي عندما يكون التاريخ سردا، حكاية، تأويلا، هنا يظهر الاعلام ويعانق التاريخ بل ويُقَبِّله قُبلة المشتاق الذي منعته الصرامة العلمية والمطبات المنهجية من الالتحام والتلاقي مع المحبوب المتماهي معه ألا وهو التاريخ.

فلا وجود لوقائع خارج التاريخ، كحامل زمكاني للوجود، ومادة الاعلام هي الاحداث، مالذي حدث؟ متى حدث؟ كيف حدث ؟…الخ

وعندما نتحدث عن الاعلام فإننا نتحدث ومع قليل من التوجس والحذر عن جسد معتل بالايديولوجيا بدءا بالخط التحريري، انتهاء بابتزاز أصحاب الاشهارات أو ولاة النعمة ممن يغذقون على المقاولات الصحفية بالݣوت أݣوت حتى لا تموت نهائيا، ففي ظل واقع كهذا يصعب الحديث عن الاستقلالية، انها افق بعيد نتمناه فقط أما الوصول اليه يشبه كثيرا أن يصل سيزيف وصخرته لأعلى الجبل بدون ان تتدحرج نزولامرة اخرى، ولاعجب أن ألمانيا النازية كان لديها وزير للدعاية والبروبغندا بإسم پول جوزيف غوبلز، يوثق الأحداث وفق منظور وإديولوجية الحزب النازي .

سنجد صدى هذا الرأي عند المفكر الفرنسي جون بودريار الذي مارس الصحافة وكان يكتب المقالات لأبرز الصحف الفرنسية والعالمية وكان ناقدا حادا للإعلام خاصة السمعي البصري منه، فحسب هذا المفكر، فالاعلام لا يعكس الواقع، بل يصنع واقعا آخر، واقع فوق-واقعي hyper-realité .

وهي نفس الفكرة التي عبرنا عنها بالقول ان الاعلام تأويل لواقع موضوعي وقراءة من خلال تحيزات تشوهه، هذا ما يقوم به الاعلامي وهو في فعلته مرغم لا بطل .

لنأخذ مثال وقع ويقع وحثما سيقع مرات ومرات أخرى، انه الاقتتال والصراع المستمر بين فلسطين واسرائيل/المحتل/الكيان الصهيوني، اذا لاحظتم بقيت حائرا بين أستعمل أحد المصطلحات التي يحمل كل منها دلالة وحمولة ايديولوجية معينة، إن الصراع واحد، لكن إن استعملنا مصطلح اسرائيل يجعلنا نتمثل ذهنيا صراع متكافئ بين رغبتين متعارضتين، بين دولتين لهما الشرعية القانونية والاخلاقية، لكن وإن استعملنا مصطلح آخر مثل المحتل الصهيوني فإن هذا الصراع على المستوى الذهني المجرد يصبح غير متكافئ بين محتل ظالم معتدي، وبين مظلوم طالب للحق راغب في الحرية والاستقلال، فالخبر واحد لكن تختلف طرق صياغته، انها بلفظ المهدي المنجرة تكاد تكون حرب سيميائية، وهذا في الحقيقة درس نيتشوي قديم “لاوجود للحقيقة، هناك تأويلات للحقيقة”.

وبالتالي فالعلاقة بين الاعلام والتاريخ هي علاقة معقدة ودينامية، فهي تارة علاقة تكامل وترابط ان لم نقل مجازا علاقة حب وغرام، في اللحظة التي يكون فيها التاريخ سرد وحكي، ثم يمر وقت تكون العلاقة بينهما علاقة شذوذ ممنوعة ومحرمة، هي اللحظة التي يخرج فيها التاريخ من التداول العامي ويدخل الى المختبر ليصبح خطاب علمي، أكاديمي، رصين ومحكم، يخضع لشروط ومتطلبات منهجية صارمة، والفاصل بينهما كان ولا يزال وسيبقى هو الأيديولوجيا لا كونها نسق منتظم من الافكار لكن بكونها تزييف للحقائق ونظارات تشوه الوقائع، بل وتخلق واقعا آخر على حد تعبير جون بودريار.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد