الاتحاد المغربي للشغل في المنتدى البرلماني الدولي السادس للعدالة الاجتماعية..”الحوار الاجتماعي ورهانات الدولة الاجتماعية”

معه فيديو

 اسمحوا لي في البداية باسم الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، أن أتوجه بالشكر لكل من رئاسة وإدارة مجلس المستشارين والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، على تنظيمهما لهذه الدورة من المنتدى البرلماني الدولي حول العدالة الاجتماعية الهام الذي خصص لمحور:

” الحوار الاجتماعي ورهانات الدولة الاجتماعية”

وهو موضوع ذو اهمية بالغة في السياق الدقيق وطنيا و دوليا، بالنظر للتحديات الكبيرة المطروحة على شعوبنا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا، والتي زادت من حدتها الأزمة المركبة الأبعاد لجائحة “كوفيد-19” ، كما أكده التقرير الأخير لمنظمة العمل الدولية، حيث اعتبر أن هذه الأزمة فاقمت التحديات الاجتماعية بالعالم، خاصة ما يتعلق بانعدام الأمن الاقتصادي واستمرار الفقر وهشاشة العقد الاجتماعي.

وعلى غرار العديد من بلدان المعمور، عمقت الجائحة الاختلالات البنيوية لاقتصادنا، كضعف النمو وعجز الميزان التجاري وارتفاع المديونية.

واجتماعيًا حيث ارتفاع نسبة البطالة وتوسيع دائرة الهشاشة والفقر، وإنهاك القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة التي تشكل الطبقة العاملة قلبها النابض، نتيجة الضغط الضريبي، والارتفاع المهول في الأسعار، وصعوبة الولوج للخدمات الاجتماعية الأساسية خاصة التعليم والصحة. أضف إلى ذلك فقدان مئات الآلاف من مناصب الشغل في العديد من القطاعات الاقتصادية، مما زاد من تأزم وضعية عالم الشغل، وذلك رغم المجهودات الاستثنائية التي بذلتها الدولة للحد من تداعيات الجائحة والتي لم تمنع التسريحات الجماعية، واستغلال الظرفية من طرد العمال والعاملات لأسباب نقابية، ما في ساهم اتساع رقعة الاقتصاد غير المهيكل، وتفاقم مظاهر الهشاشة والتمييز التي تؤدي فواتيرها الطبقة العاملة والفئات الهشة في المجتمع، وتأتي على رأس قائمتها النساء.

إن تأثيرات التحولات الكونية العميقة والمتسارعة على عالم الشغل، الديموغرافية والتكنولوجية والبيئية رهانات كبرى والتي عمقتها الجائحة فأبانت عن مَوَاطِن الهشاشة في منظومتنا الاقتصادية والاجتماعية، فأصبحت تفرض أكثر من أي وقت مضى فتح حوار اجتماعي جاد ومسؤول مع الفرقاء الاجتماعيين للبحث عن حلول متوافق بشأنها، وإقرار سياسات عمومية في مواجهتها، وفق منهجية تشاركية لا يُسْتساغ بشأنها الاستمرار في التماطل أو تعطيل آلية الحوار الاجتماعي.

إن حضور الاتحاد المغربي للشغل اليوم كمنظمة نقابية متجدرة، وطنيا وإقليميا ودوليا، لَتَجْسيد لإيماننا بقيم الحوار، وقناعتنا المبدئية أن الحوار الاجتماعي رهان من رهانات الدولة الاجتماعية. فهو الرافعة الأساسية للتنمية، والإطار المؤسسي الذي يضمن المشاركة الفعلية لأطراف الإنتاج في وضع السياسات العمومية.

وتغييب الحوار الاجتماعي تَكْريسٌ لِمنطق الفكر الوحيد القائم على الاستغلال، والذي يتنافى وتصور دولة الحق والمؤسسات.

إن الاتحاد المغربي للشغل، المنظمة النقابية التاريخية التي راكمت العديد من التجارب، لما يقارب 67 سنة من النضال، تَعتبر الحوار الاجتماعي من الآليات والمؤسسات التي أنتجها الفكر الديمقراطي عالميا، وجعلها المؤسسة الإطار لتدبير الخلافات، لتجنب الأزمات والهزات الاجتماعية والاقتصادية، وفضاء لضبط وتدقيق الآليات والتدابير الكفيلة بتحقيق العدالة الاجتماعية. وهو المدخل لتحقيق الإقلاع الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. هذه المرجعية التي تـنهل من التراكمات القانونية والسياسية والمؤسساتية التي حققتها الحركة العمالية، وكل المعاهدات والإعلانات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان المُؤَطَّرة من طرف الأمم المتحدة، كإعلان فلادلفيا الذي اعتمدته منظمة العمل الدولية بإقرار صيغة الحوار والمشاركة على المستويات المختلفة بين العمال وأصحاب العمل والحكومات، و كرسته باعتماد العديد من المعايير في صيغة اتفاقيات دولية، كالاتفاقية رقم 144 بشأن المشاورات الثلاثية لتعزيز تطبيق معايير العمل الدولية، والاتفاقيتان رقم 98 ورقم 154 المتعلقتان بالتفاوض الجماعي، والاتفاقية رقم 87 الخاصة بالحرية النقابية والحق في التنظيم النقابي، التي لا زلنا في الاتحاد المغربي للشغل نطالب بالتصديق عليها. كما خصصت الأمم المتحدة الهدف الثامن ضمن أهداف التنمية المستدامة في أفق سنة 2030 لتوفير العمل اللائق للجميع وما يتفرع عنه من أهداف فرعية تفرض وضع آليات قانونية ومؤسساتية وعلى رأسها مأسسة الحوار الاجتماعي على المستوى الوطني، والتي اعتبرتها منظمة العمل الدولية جزءا لا يتجزأ من السياسات العمومية، ومجالا من المجالات التّسع ذات العلاقة بالاستدامة البيئية والاقتصادية والاجتماعية بما يحقق أهداف الحرية والكرامة والعدالة 

في الوقت الذي انخرطت فيه بلادنا في العديد من الالتزامات الدولية ذات الصلة، وفي الوقت الذي أصبح فيه الحوار الاجتماعي مكسبا دستوريا كما نص على ذلك الفصل 31 من  دستور المملكة، والذي جاء نتيجة للمطالب الملحة للحركة النقابية، وعلى رأسها الاتحاد المغربي للشغل حيث تصّدر موضوع مأسسة الحوار الاجتماعي مذكراته المطلبية لتعديل دستور المملكة سنة 2011، وفي الوقت الذي تتميز فيه بلادنا بتوفرها على ترسانة قانونية قوية ومُؤَطِرة للحوار الاجتماعي وبعد التراكم الذي حققته الحركة النقابية مع الحكومات السابقة من خلال جولات للحوار الاجتماعي التي كان لها وقع إيجابي على المكاسب المادية والاجتماعية للطبقة العاملة، خاصة اتفاق فاتح غشت 1996، واتفاق 30 أبريل 2003، واتفاق 26 أبريل 2011، و رغم كل التوصيات الهامة الصادرة عن المؤسسات الدستورية والوطنية كتوصية المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وتوصية هذه المؤسسة نَفْسُها في دورة سابقة لهذا المنتدى أكدت جميعها على الأهمية البالغة و الضرورة القصوى لحوار اجتماعي ممأسس ومنتج وفعال، ومنذ الاتفاق الأخير ظل الحوار الاجتماعي يراوح مكانه و ظلت العديد من الالتزامات السابقة معلقة و لم تعرف طريقها للتنفيذ،  بل تم تمرير قوانين اجتماعية جد مهمة، واتخاذ قرارات سياسية حول قضايا اجتماعية مصيرية بالنسبة للطبقة العاملة ضدا على إرادة الحركة النقابية ودون إشراكها (القوانين التي تم تمريرها حول ما سمي بإصلاح أنظمة التقاعد والتي كان لنا فيها كحركة نقابية مقاربة تتجاوز المحاسباتية إلى المقاربة ذات البعد الاجتماعي، للإصلاح الشامل لمنظومة التقاعد، وكذا التوظيف بالعقدة في الوظيفة العمومية والتي خلقت احتقانا اجتماعيا واسعا وغيرها … من القضايا التي تَحَكَّم فيها هاجس التوازنات الماكرو اقتصادية على حساب التوازنات الاجتماعية، والإذعان لإملاءات المؤسسات الدولية المانحة في غياب رأي الحركة النقابية. إذ لم يشكل الحوار الاجتماعي الممأسس وفق مقومات ومعايير منظمة العمل الدولية مع الحكومات الأخيرة خيارا سياسيا مما فوت على بلادنا الكثير من الزمن التنموي.

واليوم فمأسسة منظومة حقيقية للحوار الاجتماعي. أصبحت أمرا مفروضا نظريا وواقعيا. بل من الدروس المستسقاة من هذه التجربة العصيبة أن إشراك الحركة النقابية لم يعد يقتصر فقط على التدبير البَعْدِي لنزاعات الشغل، أو القضايا الآنية المستعجلة، بل أصبح يفرض مقاربة جديدة تعتبر الحركة النقابية شريكا أساسيا في كل القضايا الكبرى المصيرية، وتبني الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية التي تراعي مصالح ومكتسبات الطبقة العاملة وعموم المواطنين.

إن نجاح الدولة الاجتماعية تمرين حقيقي لمدى قدرة الحكومة على تحمل أعباء الفعل العمومي وتدبـيـر الميزانية العمومـيـة، وفق مبدأ العدالة والانصاف، وحماية مواطنيها من كل المخاطر خاصة في ظل الأزمات.

وقد أعادت تداعيات الأزمة الصحية لجائحة كرونا وتأثيراتها السلبية على الاقتصاد المغربي، و تبعاتها الوخيمة على كثير من الفئات خاصة العمال والمستخدمين، النقاش من جديد حول الأهمية القصوى لدور دولة الرعاية الاجتماعية، وأبان بالملموس، على الضرورة الملحة والمستعجلة لتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي وإقرار حماية اجتماعية تشمل كافة الفئات، خاصة الهشة والمعوزة محدودة الدخل، وإذا كانت الحكومة عازمة على تنزيل هذا الورش المجتمعي المهيكل فإن الاتحاد المغربي للشغل يعتبر أن تحقيق الحماية الاجتماعية يكمن في استكمال كل معالمها بتوفير الشغل والإدماج المهني جهويا ووطنيا، لتخفيض معدلات البطالة، و بتعميم التغطية الصحية الاجبارية وتعميم التعويضات العائلية لأسر الأطفال المعوزة وتعميم الاستفادة من تأمين التعويض عن فقدان الشغل لمن يتوفر على عمل قار، وبتحسين ظروف عيش المواطنين، وهو ما لن يتسنى إلا بمحاربة التهريب الاجتماعي، و فرض احترام التصريح بالعمال و العاملات في إطار إصلاح المنظومة على أساس الإنصاف و الاستدامة، من خلال التوافق مع الفرقاء الاجتماعيين، والحفاظ على مكتسبات المنخرطين.

فبناء الدولة الاجتماعية القوية بتسيير فعال، وتدبير عمومي ناجع، لا يقتصر على توفر ترسانة قانونية، ولا على وضع برامج اجتماعية، ولا رصد ميزانية على أهمية ذلك، بل يتوقف بناء الدولة الاجتماعية على مقومات هيكلية ومؤسساتية قوية لا بد لها من دعائم وأسس صلبة نابعة من رؤية سياسية وفلسفية وثقافية تنطلق من الإنسان وتتوخى تحقيق رفاهيته، وهو ما تترجمه المنهجية والمقاربة المعتمدة في صناعة القرار العمومي، ومدى استعداد وقدرة السلطة السياسية في هندستها المؤسساتية، اعتبار الفاعلين الاجتماعيين فاعلين عموميين معنيين بوضع وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية، وعلى رأسها السياسات الاجتماعية، كحجر الزاوية للدولة الاجتماعية، عبر آلية الحوار الاجتماعي، باعتباره ركنا أساسيا ومؤسسا للديمقراطية الاجتماعية، التي تشكل الأرضية الصلبة لأي مشروع تنموي مستدام، ومدخلا لتحقيق العدالة الاجتماعية، حوار اجتماعي تُقَاس نجاعته بما أنتجه من آثار ملموسة على مستوى النماء وعيش المواطنين، وما أبدعه من حلول للمشاكل الاجتماعية المطروحة، وما حققه من إنصاف وعدالة اجتماعية.

السيدات والسادة؛

أيها الحضور الكريم.

تلقى الاتحاد المغربي للشغل من طرف رئيس الحكومة دعوة للمشاركة في عقد جولة من الحوار الاجتماعي في غضون الأسابيع المقبلة، أتمنى باسم كل عضوات وأعضاء الاتحاد المغربي للشغل أن تكون جولة ناجحة لما فيه مصلحة حقوق الطبقة العاملة ومصلحة بلادنا.

وكما عهدتموه دائما سيكون الاتحاد المغربي للشغل في الموعد قوة اقتراحية نوعية.

وفي الأخير لا يسعنا في الاتحاد المغربي للشغل إلا أن نجدد الشكر للجميع على مساهمتهم في هذا المنتدى البرلماني السادس للعدالة الاجتماعية، مع متمنياتنا بالتوفيق والنجاح لأشغاله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد