الإنسان المستلب إنسان غير سوي أمام لغته الاصلية

موقف استعمال ثلاثة كلمات ألفاظ بالدارجة المغربية في مقرر للغة العربية ليس موقفا تافها لا يستحق أن يسترعي انتباهنا (كما يعتقد البعض). إنه موقف مهم بقدر ما يكشف عن الحالة النفسية غير الصحية للإنسان المستلب.

فالإنسان الذي يحقد على نفسه إلى درجة أنه يرفض أن يرى لغته وأشياء ثقافته في كتبه الدراسية لا يمكن أن يكون إنسانا سويا وينبغي دائما أن نتعامل معه بشيء من الحذر والشفقة التي يحتاجها كل إنسان مريض.

ومن أعراض السلوك المرضي في سلوك المستلبين أن هناك أمورا واضحة وفي منتهى البساطة لا تستطيع أعينهم أن تراها وتعجز مداركهم على تبينها. من هذه الأمور مثلا:

1ـ أنك لو عدت للنص الذي وردت فيه الألفاظ المغربية (بغرير …) للاحظت شيئا مثيرا وهو أن السطر السابق للسطر الذي وردت فيه هذه الألفاظ توجد كلمة “طربوش” التركية التي تدل على نوع معروف من أغطية الرأس جاءنا من تركيا وكانت تستخدمه النخبة المتبرجزة في المغرب تقليدا لطبقة “الأفندي” في مصر التي هي من مخلفات الوجود العثماني التركي في هذا البلد. وليس هناك أية وثيقة تدل على أن المغاربة اعترضوا على إدخال هذه اللفظة إلى الكتب المدرسية. فيكفي اللفظة أن تكون أجنبية وأن تعبر عن شيء أجنبي لتكون مقبولة في هذا البلد ــ إنه عرض من أعراض تدهور الصحة النفسية عند المستلبين.

2ـ أن الإنسان المستلب ميّال إلى خلط الأمور وعدم تبين الفروق الواضحة بينها، تماما كما يحدث لكل إنسان يعاني من مرض نفسي يُخدِّر العقل ويُفقِد التوازن النفسي. من ذلك مثلا أن بعض المستلبين يخلطون بين استعمال الألفاظ المغربية (بغرير …) ورداءة نصوص الكتاب الدراسي بدون أن يطرحوا السؤال: “هل هناك علاقة بين الأمرين أصلا؟” فصحيح أن هذه الكتب المدرسية مليئة بالنصوص الركيكة التي لا إبداع فيها ولا تجديد. وصحيح أنها تستعمل رسومات تكون أحيانا في منتهى البشاعة وقلة الحس الفني. وصحيح أن معظم مواضيعها مصطنعة ولا علاقة لها بحياة التلاميذ وطموحاتهم. لكن، ما علاقة مظاهر النقص هذه باستعمال ألفاظ دالة على أشياء توجد في ثقافة التلاميذ وحياتهم اليومية؟ هل يمكن، مثلا، أن نحكم على صورة جميلة في المقرر الدراسي بالقبح فقط لأن كل الصور الأخرى قبيحة؟ أليس هذا النوع من عدم التمييز أكثر من مجرد خطإ في التفكير المنطقي السليم؟ أليس عرضا من أعراض حالة مرضية أعمق ينبغي تشريحها وتشخيصها؟ حالة مرضية يفقد معها الإنسان غير السوي قدرته على التمييز والتبين؟

3ـ أن الإنسان المستلب، ككثير من المرضى النفسيين، إنسان فقد تقديره لنفسه. لذلك فهو ميّال إلى جلد نفسه معتبرا كل ما ينتجه تافها غير ذي قيمة. أناشيد أطفاله مضحكة وغبية ولا فائدة من التأمل فيها وتعليمها والترنم بها، بينما أناشيد الأجانب جميلة ومبدعة وتستحق التدريس والتأمل فيها حتى ولو كانت على نفس الدرجة من “السذاجة” و”البساطة” و”الجنون”. ألم يؤلف العالم اللساني لوسوركل كتابا ضخما مكون من أكثر من ألف صفحة (The Violence of Language) فقط ليبين بأن اللغة الإنسانية تتطور وتكتسب ديناميتها أصلا بسبب الهوامش اللغوية في المجتمع (التي سمها ب”الشارد اللغوي” the linguistic residue) كالأهازيج غير العقلانية، وظاهرة “الغوص”، واللعب بالكلمات pun، والتفكه باستعمال اللغة، والألغاز، وغيرها كثير من مظاهر “احتفال” الكبار والصغار بلغاتهم؟

4ـ أن الإنسان المستلب يحمل تصورات غير سوية حتى بالنسبة لما ينبغي أن يفعله الأطفال في المدرسة. هل يمكن أن يكون إنسان لا يدرك أهمية التربية الفنية والرسم والموسيقى والرقص إنسانا سويا، مثال؟ هل يمكن إنسان لا يدرك أن المدرسة ليست فقط لتعليم الأطفال عن الفلاحة في الصين واليابان، بل أيضا لتعلم الأشياء القريبة والحميمية. عندما تزور مدرسة أمريكية أو كندية أو يابانية، فلا يمكن أن تجد تلاميذ لا يعرفون الإجابات عن الأسئلة التالية:

* ما هي أقدم بناية في مدينتك؟
* ما هي جميع أنواع الطيور الموجودة في مدينتك أو قريتك؟
* ما هي جميع أنواع النباتات التي توجد في مدينتك أو قريتك؟
* ما هي الأمور العشرة التي سيستمتع بها السائح إذا زارها في مدينتك؟
*إلخ؟

الإنسان المستلب لا يستطيع أن يجيب على أسئلة من هذا النوع لأن خياله ومداركه قد صُدّرت إلى تواريخ وجغرافيات غير تاريخه وجغرافيته. فيستهجن أن تتحدث مقرراته عن “تملحافت” أو”السروال قندريسي” أو “إيدوكان” بينما لا يجد أي مشكلة أن تمتلئ مقرراته بأخبار ملابس الشعوب الأخرى ك”ربطة العنق” و”الطربوش” و”الجبة”! يثور، كالمجنون، إذا وجد في مقرراته ألفاظ “بغرير” و”البريوة” بينما لا يكترث إذا وجد ألفاظا مثل “الكنافة” و”البسبوسة”.

الإنسان السوي لا يكتفي فقط بذكر لفظة “البريوة” بل هو متعطش أيضا للتأمل في هذا المنتج الثقافي الذي يمثله، ويريد أن يعرف كيف يُصنع، وكيف تصنع أوراقه الرفيعة، وكيف تطور عبر التاريخ، وكيف يختلفه شكله ومذاقة من مدينة لمدينة، ومن جهة لجهة في هذا الوطن المتنوع الجميل الذي نسميه بالمغرب. لذلك كنت أتوقع أن يكون الطلب الذي سيوجهه الإنسان السوي لمؤلفي الكتب الدراسية هو: “لا ينبغي أن نكتفي بذكر البغرير بل لا بد من إدراج مواد في مقرراتنا تدعونا لتأمل هذه المنتجات الثقافية وتقديرها والإستئناس بطرق تحضيرها”.

لكل هذه الأسباب وغيرها أعتقد أن الإستلاب الثقافي هو نوع من المرض النفسي ـ مرض نفسي لا يدمر صاحبه فقط كالأمراض الأخرى. بل مرض نفسي قد يؤدي إلى تأخر المجتمع كاملا كما هو حاصل في حالتنا. فليس المخزن وحده مسؤولا عن تدهور التعليم في بلدنا فقط، بل أيضا جُهّال الوطن ومستلبوه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد