الإصلاح وسؤال المرجعية

بقلم حمزة بناني

في الحاجة إلى الإصلاح:

يبدو أن سؤال الحاجة إلى الإصلاح برز في الوسط الفكريالعربيعموما مع ظهور الحركات التحررية المنددة بالاحتلال الغربي، والداعية لتأسيس نموذج حضاريعربيمعاصر، يضاهي أو حتى يتجاوز النموذج الحضاري الغربي.

ويمكننا القول بأن الإرهاصات الأولية للدعوة لتبني مشروع إصلاحي عربي كانت مع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين، وشكلت ثورة 1916 م منعطفا هاما في بلورة فكرةالحاجة إلى الإصلاحلكن بعد ذلك سيصبح الشغل الشاغل للطبقة المثقفة في البلدانالعربية” –وأقصد بالعربية هنا الانتماء الجيوستراتيجي للجامعة العربية، لا الانتماء القومي أو العرقيهو مقاومة الاحتلال الغربي الذي لحق الاحتلال العثماني في جل هذه الدول.

وفي نهاية القرن العشرين الميلادي وبداية القرن الحالي سيعود سؤال الحاجة إلى الإصلاح ليشغل مركز اهتمام النخبتين الفكرية والسياسية العربية، خاصة بعد دعوة الرئيس الأمريكي الأسبقجورج بوش الابنوإدارته العرب إلى الإصلاح، في ظروف سياسية معينة.

الأمر الذي أدى إلى ظهور ردود فعل متعددة ومختلفة، وفي بعض الأحيان متضاربة في العالمالعربي، منهاما يقبل فكرة الإصلاح ولكنه يرفض أن يكون مضمونه من إملاء قوى أجنبية؛ ومنها ما يقبل الفكرة ويرفض المضمون بصورة مسبقة، بل يطالب بالنظر فيه والأخذ بما هو “صالح لنا” والإعراض عما هو “غير صالح”. ومن ردود الفعل ما يرفض التعامل مع الدعوة الأمريكية (…) بغير الرفض القاطع؛ (…) وعلى العكس من هؤلاء يرى آخرون أن الدعوة الأمريكية إلى الإصلاح في الشرق الأوسط (…) فرصة تاريخية يجب اقتناصها” {محمد عابد الجابري ، في نقد الحاجة إلى الإصلاح ، ص:13}.

والمستخلص من عبارة الجابري هاته، يمكن القول أن الاختلاف في المواقف التي أثارتها الدعوة الأمريكية للإصلاح، هو اختلاف في المرجعية التي سيقوم عليها الإصلاح بالأساس. والمغرب نظرا لانتمائه لمنطقةالمينا MENA” لا يُستثنى من هذا الأمر، بل حتى قبل دعوة جورج بوش الابن هذه. فمنذ الاستقلال وحتى يومنا هذا مازالت مسألة الإصلاح مسألة محورية في الساحة الفكرية المغربية، بما في ذلكالفكر الرسمي؛ والتي لم يحسم فيها بعد.

والاختلاف هنا هو اختلاف حول الوسيلة التي سيُحقَق بها الإصلاح والتقدم، أو كم سبق الإشارة له بالمرجعية، وليس اختلافا حول الغايةوالتي هي الإصلاح طبعا-. فكما يقول أرسطو:” نتداول بشأن الوسائل، لا بشأن الغايات“. حتى أن هذا الاختلاف في تحديد المرجعية أدى في بعض الأحيان إلى صراعات ومواجهات قوية وشرسة.

فسنوات الجمر والرصاص سبعينيات القرن الماضي خير شاهد على ذلك، حيث حدثت المواجهة بين الفكر الرسمي للدولة الذي أيقن بأهمية الإصلاح، لكن في إطار المؤسسة الملكية بطابع حديث نوعا ما، وبين اليسار الماركسي الذي دعا إلىجمهرةالدولة كخطوة أولى نحو تقدم حقيقي.

وفي بعض الأحيان انتقلت المواجهة بين هذا التيار الأخير والفكر الإخونجي، الذي يعتبر أن أي محاولة للإصلاح خارج الإطار السلفيالأصولي، إصلاح زائف وزائلوما تزال هذه الاختلافات إلى الآن بين هذه التوجهات وتوجهات أخرى، إلا أنها أقل حدة. ويطفو هذا الصراع الفكري إلى السطح مع كل محاولة لتغيير جزء من إرث الماضي أو إصلاحه.

وما نشهده حاليا من سجال حول إصلاح مدونة الأسرة خير دليل. فنجد من ينادي بصياغة النص الجديد للمدونة وفق نموذج حداثيعلماني؛ وفصيل آخر يدعو للعودة للتشريعات الدينية الإسلامية في ذلك

  الدولة المغربية ومأزق المرجعية:

 تجد الدولة المغربية نفسها في مأزق تحديد مرجعيتها العامة أولا، والتي ستبني عليها نموذجها الإصلاحي ثانيا. إذ نجد أن دستور 2011 يصرح في الفصل الثالث منه أنالإسلام دين الدولة”.

من الوهلة الأولى قد يبدو لنا أن الأمر قد حسم فعلا، فمرجعية الدولة مرجعية دينيةإسلامية. ولكن مج ناحية أخرى، لا يخفى على أحد أن المغرب دولة حديثة، دولة مؤسسات وقوانين وضعية، والتي معظمهاأي القوانين الوضعيةلا يتطابق مع أحكام الشريعة الإسلامية. فنجد على سبيل المثال لا الحصر أن القانون الجنائي ينص في الفصل 505 منه، أن عقوبة السرقة تتحدد من سنة إلى خمس سنوات، وغرامة من 200 إلى 500 درهم؛ وتحدد الفصول من 507 إلى 510 من القانون نفسه، العقوبات في حال كانت جريمة السرقة مصحوبة بظروف معينة

لكن كل هذه الفصول تستثني حد السرقة كما ورد في التشريع الإسلامي الذي منبعه الأساسي هو القرآن، والذي ورد فيه حد السرقة:” والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما” {المائدة، الآية: 38}.

وهو حكم متفق عليه من المذاهب الأربعة، ولا نقاش فيه باعتباره حدًّا من الحدود التي لا غبار عليها. والأمثلة تتعدد في كثير من النصوص التشريعية الأخرى.مما يدفع أصحاب النزعة الماضوية للتنديد بهكذا أمور، بل يبلغ الحال ببعضهم إلى تكفير الدولة المغربية، لأنهم يرون أنها دولة إسلامية تاريخيا ودستوريا، وكذا لأن غالبية المواطنين مسلمين؛ لذا يجب أن تتجسدإسلاميتهاواقعيا في تدبيرها للشأن العام.

فهل يعقل أن تبلغ مداخيل الضريبة على الخمور في بلد إسلامي 2 مليار درهم (لسنة 2022) ؟

 إن ما سبق وذكرناه لا يعني أن المغرب دولة علمانية مائة بالمائة في الواقع، ذلك أن عددا من التشريعات التي تسنها الدولة تعود فيها لمرجعيتها الدينيةالإسلامية، في ما يخص قضايا كـ: الإرث، الولاية على الأبناء، الحريات الفردية

هكذا تشريعات أضحت متجاوزة، ومخالفة لمنطق الدولة الحديثة ولنمط الحياة المعاصرة للمغاربة، وفي بعض الأحيان مخالفة للمواثيق الدولية.

وهذا من باب نقد التوجه الحداثيالعلماني للدولة المغربية. إلى هنا يتضح لنا أن الدولة تجعل نفسها في موقع ما بين المطرقة والسندان.. فما المخرج؟

✓ حدود المرجعية الماضوية:

 إن الإسلام في تشريعاته دين شموليدنيوي، وليس دينا أخرويا فقط، مما يجعل المتأسلمين يرفضون فصل تشريعاته عن التشريعات الوضعية، ويحاولون إقحامه في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية الحديثة، بل حتى في الحياة الشخصية للأفراد.

بمعنى إقامة دولة دينيةإسلامية بتشريعات الإسلام الأولى، لكن حديثنا عن هذه الدولة ونحن في القرن الحادي والعشرين للميلاد شبيه لحديثنا عن وهم أو حلم، بل هو الوهم بعينه.

لأن الإسلام عبر تاريخه لم يعرف أبدا نموذجا لهذه الدولة الدينيةالإسلامية، باستثناء زمن الرسول الذي كان قائدا لتجمع قبلي بسيط يدين له بالولاء، وكان هو يدبر الشأن العام لهذا التجمع القبلي البسيط انطلاقا من إملاءاتالوحي الإلهي“.

وهذا لا يتوافق على الإطلاق مع المفهوم الحديث للدولة. ويرجع المفكر المصري المعاصر د. سيد محمود القمني العلة وراء عدم وجود دولة إسلامية إلى أن:” رب الإسلام لو كان يريد دولة لدينه، لخلق لها الجماعة التي تضع ذلك وتدرسه وتطبقه وتضع له مواصفاته وشروطه ومؤسساته التي تنفيذه وتحميه، وهو كله كلام لم يكن يكن معلوما زمن الصحابة ولزمن بعيد بعده” {د. سيد محمود القمني، الدولة والخراب العاجل، ص: 11}.

 ومختصر القول أن الإسلاميين يسعون جاهدين إلى فرض تغيير شامل وجذري لنمط الحياة العصرية ومبادئها، ملتمسين في ذلك مبادئ وقيم أكل الدهر عليها وشرب.

أي أنها لا تتوافق بالمرة مع واقع الحياة العصرية وأسس الدولة الحديثة. ربما تلك المبادئ والتشريعات كانت صالحة في زمن مضى، ولتسيير تجمع قبلي؛ لكن لا يمكن لقوانيين القبيلة أن تصدُق على الدولة بمعناها الحديث.

ولإنجاح مشروعهمالذي يرونه إصلاحياينتهج الإسلامييون خطة تجييش الشعوب ودغدغة عاطفتها الدينية، إما عن طريق تكفير الحكومات، أو بيعهم وهم العظمة المنتظرةلكن مهما قاموا بذلك، وحتى ولو حققوا نجاحا جزئيا، سيبقى الفشل حليفهم على الدوام، لأن “هذا المشوع الانقلابي تعترضه دائما عقبة رئيسية يمكن إجمالها في السؤال التالي: كيف يمكن إقناع الناس برفض مكاسب الحداثة (الغربية الأصل) التي ينعمون بها في ظل مجتمعات ما بعد الاستعمار واعتبارها مجرد انحرافات مشينة؟” {ذ. أحمد عصيد، الأمازيغية في خطاب الإسلام السياسي، ص:10}

✓ الحل في العَلمانية:

 كثيرا ما يستقبل المسلمون لفظالعَلمانيةبتوجس كبير. فالتعريف المنتشر لها أنها فصل الدين عن الدولة؛ وهو حق يراد به باطل، إذ ينطلق خصومها الإسلاميين من حدها هذا للقول أنها نشر للإلحاد والكفر في المجتمع، ومحاربة للإسلام، وتطبيع مع الرذيلة والفساد، وخطرها المحذق يكمن في أنه زرع للفتنة وتحريض على الاختلاف داخل المجتمع الواحد.

لكن الصواب هو في قول المفكر المغربي محمد عابد الجابري:” فالدلالة الحقيقية لشعار العَلمانية (…) إطار التنظير لدولة الوحدة” {محمد عابد الجابري، في نقد الحاجة إلى الإصلاح، ص:85}.

أو بتعبير آخر، إن العَلمانية هي نبذ للطائفية سواء العرقية أو الدينية داخل المجتمع الواحد، هي الإطار الذي تمارس فيه الحقوق والحريات الفردية والجماعية دون أن يخشى ممارسوها في ذلك لومة لائم، هي الضامن لوحدة المجتمع، لأنها توحد الجميع تحت صفةالمواطن، ولا تعترف بشيء اسمه المؤمن أو الملحدأو غيرها من الصفات التمييزية والإقصائية.

ولرفع القلق عن عبارةفصل الدين عن الدولةفيقصد بها  أن العَلمانية هيبناء الدولة على أسس ديموقراطيةوعقلانية، وليس على أساس الهيمنة الدينية” {محمد عابد الجابري، في نقد الحاجة إلى الإصلاح، ص:85}.

ورغم أن الجابري يحبذ استخدام لفظيالديموقراطية والعقلانيةكبديل للفظالعَلمانيةعلى اعتبار أن لفظدخيلعلى العربية، إلا أن المقصد واحد، رغم اختلافنا مع الجابري في التسمية؛ وهو الذي يعرف الديموقراطية على أنها حفظ لحقوق الأفراد والجماعات؛ والعقلانية بأنها إعمال العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية في الممارسة السياسية بعيدا عن الأهواء والتعصب للمعتقدات الشخصية.

 ومن هذا كله، أضحى بإمكاننا الآن أن نصرح علانية أن حل الدولة المغربية للخروج منمأزق المرجعيةهو في تبنيها للعلمانية دستوريا وكذا على مستوى التشريع والتدبير.

ويجب أن لا تؤخذ العلمانية على أنها معاداة للدين وثوابت الأمةوهي الضامن لها، أو على أنها قد تهدد مشروعية المؤسسة الملكية مستقبلا، وهي من تُقويها إذا اتخذت على وجه الصواب في عصر أصبحت المشروعية اللاهوتية شبه متجاوزة.

وهو ما أقر به الملك محمد السادس بذاته في خطابه أمام بابا الفاتيكان عام 2019، حين قال:” أنا أمير جميع المؤمنين على اختلاف دياناتهم “. فالديموقراطية والعقلانية (العَلمانية) من شأنهما أن يقويا مشروعية المؤسسة الملكية خاصة ومشروعية الدولة عامة، ويوسعانها.

فالمشروعية الدينية مشروعية محدودة بحدود معتنقي ذلك الدين، وإن كانوا كثرة، والمشروعية العرقية كذلك.. ومادام الإصلاح يتطلب وحدة المجتمع والدولة، والعَلمانية هي الإطار الوحيد الذي يكفل لنا وحدة المجتمع مهما حمل من اختلافات (عرقية، دينية، لغوية…)، فلا مفر لنا من العَلمانية إذا كنا نرجو إصلاحا حقيقيا.

حمزة بناني


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading