الأمازيغية لغة التقاضي وسبل تفعيل رسميتها في منظومة العدالة
ذ.الحسين بويعقوبي
يعتبر القضاء من أهم المجالات الحيوية والخطيرة في الدولة لارتباطه بمختلف القطاعات الأخرى وبالحياة العامة للمواطنين وحقوقهم وبكل الإشكالات المرتبطة بالتقدم و التنمية وحقوق الإنسان. فإذا صلح القضاء وتحققت العدالة تعززت ثقة المواطنين في الدولة وأحسوا بالأمن و الأمان وتقوى لديهم الارتباط بالوطن والرغبة في خدمته و لذلك يقال “العدل أساس الملك”. وتعتبر اللغة من أهم الوسائل التي يتم بها اللقاء بين المواطن ومنظومة العدالة في مختلف مستوياتها سواء من حيث التواصل الشفوي أو من خلال الوثائق المكتوبة المرسلة أو المستقبلة من كلا الطرفين. ولذلك كان موضوع اللغة/اللغات في منظومة العدالة المغربية من المواضيع الشائكة ويتداخل في تدبيره السياسي بالهوياتي و التاريخي بالاقتصادي. و لهذه الأسباب نجد عدة لغات تتعايش/تتنافس في منظومة العدالة المغربية (الفرنسية و العربية الفصحى (كتابة) و الدارجة و الحسانية واللهجات الأمازيغية (شفويا)). ونظرا لارتباط اللغة بالسيادة الوطنية، فقد سعى المغرب بعد الاستقلال للتخلص من الفرنسية في القضاء من خلال قانون 2 يونيو 1964 الذي حسم مسألة “توحيد و مغربة و تعريب” القضاء وجاء في فصله الخامس “اللغة العربية هي وحدها لغة المداولات والمرافعات والأحكام في المحاكم المغربية” ثم تبعته عدة قرارات و مناشير وزارية و اتفاقيات تسير كلها في اتجاه جعل العربية وحدها لغة التقاضي (قانون 64/3 ل26 يناير 1065، الفصل 431 من قانون المسطرة المدنية، اتفاقية التنظيم القضائي بين الدول المغاربية ل 11 نونبر 1992، قرار وزير العدل رقم 65-414 ل29 يونيو 1965، منشور وزير العدل عدد1966-278 ل10 فبراير 1966، …). ورغم أن الفرنسية لم تزل نهائيا من منظومة العدالة (نقاش حول قبول أو رفض المرفقات المكتوبة بالفرنسية) إلا أن العربية تمكنت بعد أكثر من 60 سنة من الاستقلال من أن تحتل مكانا أكبر في المنظومة، وبفعل الممارسة والترجمة خلقت لنفسها تراكما وظهرت فيها لغة التقاضي معجما و أسلوبا وترافعا، شفهيا و كتابة، كما تم تعريب القوانين بعد خلق لجنان متخصصة مكلفة بهذا الموضوع منذ 1965.
ومنذ 2011، سيعود النقاش من جديد بخصوص لغات التقاضي في المغرب، خاصة بعد أن اعترف الدستور بالأمازيغية لغة رسمية، وتمت المصادقة سنة 2019 على القانون التنظيمي (16-26) لتحديد مراحل تفعيل طابعها الرسمي، وهو ما جعل كل القطاعات مدعوة لوضع مخططاتها لتنزيل هذا القانون وضمنها قطاع العدالة، تطبيقا لمنشور رئيس الحكومة رقم 19-2019 الصادر يوم 10 دجنبر 2019. وقد جاء في الفصل 30 من هذا القانون ما يلي “تكفل الدولة للمتقاضين والشهود الناطقين بالأمازيغية، الحق في استعمال اللغة الأمازيغية والتواصل بها خلال إجراءات البحث والتحري بما فيها مرحلة الاستنطاق لدى النيابة العامة، وإجراءات الجلسات بالمحاكم بما فيها الأبحاث و التحقيقات التكميلية والترافع وكذا إجراءات التبليغ والطعون والتنفيذ. تؤمن الدولة لهذه الغاية خدمة الترجمة دون مصاريف بالنسبة للمتقاضين والشهود. يحق للمتقاضين بطلب منهم سماع النطق بالأحكام باللغة الأمازيغية. ومن أجل ذلك، تعمل الدولة على تأهيل القضاة وموظفي المحاكم المعنيين لاستعمال اللغة الأمازيغية”، وحدد لذلك أجل 10 سنوات كحد أقصى. ورغم أن البعض يرى في هذا الفصل تحجيما لوضع الأمازيغية في القضاء حيث لا يتحدث إلا عن التواصل الشفهي بين المتقاضين و الشهود فقط، ولا يتحدث عن كتابة المحاضر والمذكرات و تحرير الأحكام…، فان البعض الآخر يدعو لتوسيع الفهم وإدراك الغاية الكبرى للنص وهي ترسيم الأمازيغية في منظومة العدالة، وضمنها كتابة كل الوثائق التي تروج في مختلف مراحل التقاضي، مادام الأصل في الشيء الإجازة، ما لم يمنعه نص واضح. ولتحقيق ذلك لابد من عملية منهجية ممتدة في الزمان تأخذ بعين الاعتبار الوضعية السوسيولسنية للأمازيغية وبعديها الشفوي و الكتابي وتحديات و اكراهات مسار المعيرة، وذلك حسب ما يمكن تحقيقه على المدى القريب و المتوسط والبعيد. وبموازاة ذلك لابد من مراجعة شاملة لكل القوانين والمناشير المذكورة سابقا والتي تنص على أن العربية وحدها لغة التقاضي، لتضاف لها الأمازيغية انسجاما مع دستور 2011 الذي أقر ثنائية اللغتين الرسميتين في المغرب. صحيح أن الوزير السابق مصطفى الرميد أصدر سنة 2016 قانون تنظيمي للقضاء رقم 38-15جاء فيه “تظل اللغة العربية لغة التقاضي والمرافعات وصياغة الأحكام القضائية أمام المحاكم مع العمل على تفعيل اللغة الأمازيغية طبقا لأحكام الفصل 5 من الدستور، ويجب تقديم الوثائق والمستندات للمحكمة باللغة العربية أو مصحوبة بترجمتها مصادق على صحتها…”، دون أن نعرف كيف سيتم تفعيل رسمية الأمازيغية، وكيف سيتوافق ذلك مع البقاء على اللغة العربية وحدها لغة للتقاضي كما جاء في نفس النص. وفي نفس السياق لابد من تأسيس لجنة أو لجان يعهد لها تمزيغ القوانين، ولم لا البحث عن “العقل القانوني الأمازيغي” من خلال دراسة الأعراف وإمكانية الاستفادة من جوانبها الايجابية لتكون مصدرا من مصادر التشريع، وفي ذلك استمرار واستكمال للسيادة الوطنية على مستوى لغتا التقاضي الذي بدأ سنة 1965.
وأخذا بعين الاعتبار الوضعية السوسيولسنية للأمازيغية والتطور الذي وقع فيها منذ بضع سنوات على مستوى تأهيلها فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار البعد الترابي/اللسني (الشفهي) و تحديات بناء لغة قانونية أمازيغية مكتوبة :
- الأمازيغية لغة التقاضي شفويا :البعد الترابي/اللسني
إذا كان دستور 2011 قد اعترف بالأمازيغية “لغة رسمية” للدولة وارثا مشتركا لجميع المغاربة، وبذلك تجنب كل مقاربة اثنية أو جهوية للموضوع، فان التفعيل على مستوى الواقع لا يمكن أن يتجاوز في المرحلة الحالية المقاربة الترابية/اللسنية (الشفهية). فأهمية استعمال الأمازيغية في القضاء تكمن في مصالحة المواطن المغربي مع مؤسسة القضاء وتحقيق العدالة وضمان الحقوق والمساواة وشروط المحاكمة العادلة. ولن يتحقق هذا شفويا إلا باستعمال التنويعات الأمازيغية حسب المناطق. ولذلك لابد من معرفة الموارد البشرية الناطقة بالأمازيغية في قطاع القضاء وتوزيعها (في حدود الإمكان والرغبة) وفق التنوع اللهجي الأمازيغي، كما أن تعيين قضاة الجلسات مثلا يمكن أن يأخذ بعين الاعتبار هذا البعد، فيحضر على الأقل قاض ناطق بالأمازيغية في كل جلسة. كما يمكن التفكير في دروس لتحسين مستوى إتقان الأمازيغية لدى بعض القضاة المنحدرين من عائلات ناطقة، لكن لسبب أو لآخر يحتاجون لتعزيز قدراتهم اللغوية، ثم دروس في اللغة الأمازيغية لباقي القضاة الذين يجهلون كلية هذه اللغة. ويمكن قول الشيء نفسه عن وكلاء الملك وكتاب الضبط وكل موظفي قطاع العدالة.
أما في المدن الكبرى فيمكن التعامل مع الموضوع بنفس المقاربة باستثمار الموارد البشرية الناطقة بالأمازيغية (في لهجاتها) لتحقيق نفس الأهداف. أما على مستوى الترافع الشفوي، فيحتاج الأمر لاجتهاد لغوي كبير من طرف المحامي/ة، يظهر فيه قدراته البلاغية والأسلوبية والحجاجية وعلى مستوى البرهنة والجدل والتعليل، ولابد من توفر شروط التواصل بين مختلف الأطراف لتحقيق المحاكمة العادلة وضمان حقوق المواطنين. والمشكل نفسه يطرح أثناء الترجمة من و إلى الأمازيغية، فلابد أن يؤخذ الموضوع بالجدية اللازمة وتفادي الإشكالات المرتبطة بسوء الترجمة والذي قد يؤدي لضياع حقوق المواطنين.
- الأمازيغية لغة التقاضي كتابة : البعد المعياري
إذا اعتبرنا أن المرجع الأساس لشرعنة تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية في القضاء هو الدستور ووسعنا فهمنا وتأويلنا للفصل 30 من القانون التنظيمي 16-26 ليكون تأويلا ديمقراطيا يبحث عن الغايات الكبرى والهدف الأسمى الذي هو المساواة بين اللغتين الرسميتين العربية والأمازيغية في منظومة العدالة، فان حضور الأمازيغية المكتوبة لغة للتقاضي أمر ضروري. والحديث عن الأمازيغية المكتوبة في هذا القطاع يعني بناء لغة قانونية أمازيغية، لا أحد يستطيع القول بأنها جاهزة اليوم. فلغة القانون أساسا لغة مفاهيم ومصطلحات. فالمعجم الأمازيغي في مجال التشريع أكيد أنه غني في بعض المجالات، لكنه مرتبط بنمط حياة “تقليدي” وبالنوازل والوقائع المرتبطة به، تنظمها أعراف تمتاز بالتعدد والتنوع، وتعكس مستوى الوعي “القانوني” في سياق معين، وهو ما يعني نقص كبير على مستوى المعاجم المتخصصة في مختلف قضايا ومساطر القضاء العصري (قانون المسطرة المدنية، القانون التجاري، القانون الجنائي،مدونة الأسرة، قانون العقود و الالتزامات، القانون الإداري، القانون العقاري، قانون الشركات، القانون الدستوري،…). وأول عمل يجب القيام به هو توفير المعاجم المتخصصة، وفي ذلك سار المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ووزارة العدل، وكذا بعض المهتمين (الدغرني وآخرون 1996، بوداري 2017). وإذا كان توفر المعاجم المتخصصة في هذا المجال أمرا أساسيا فان تقنيات الصياغة والبلاغة في الأسلوب للتأسيس للغة أمازيغية قانونية لن يتم إلا بالممارسة وتحقيق التراكم. وما دامت مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة فمن سيقوم بأول خطوة ضمن المحامين بكتابة أول مقال أو مذكرة بالأمازيغية ليفتح النقاش حول هذا الموضوع، وكيف ستكون ردة فعل القاضي؟ هل سيعتمد على الفصل 5 من دستور 2011 المقر برسمية اللغة الأمازيغية ويقبل المقال؟ أم سيعتمد على قانون 1964 الذي لا يعترف إلا بالعربية وحدها لغة للتقاضي؟أم سيستند على منطوق الفصل 30 من القانون التنظيمي للأمازيغية ويعتبره لا يشير للمقالات و المذكرات؟كما ننتظر أول قاض يحرر حكما بالأمازيغية وبحروفها تيفي ناغ، ليدخل التاريخ من بابه الواسع، وكيف سيبرر قراره من الناحية القانونية؟ وإذا كانت كتابة مقال أو مذكرة تتطلب إمكانات لغوية أمازيغية ومهارات أسلوبية تحتاج لمجهود للتوفر عليها، فان إرسال “طلب تبليغ حكم” مثلا أو “طلب تنفيذ حكم” أو وضع شكاية مكتوبة بالأمازيغية” قد يكون أسهل الأمور، اذا لا يتطلب ذلك قدرات لغوية كبيرة، لكن سيسمح بفتح باب ترسيم الأمازيغية كتابة في منظومة العدالة بالمغرب. ولإنجاح هذا الورش الكبير لابد من إنجاح ورش تدريس الأمازيغية في كل مستويات التعليم بالمغرب، وخاصة بالجامعة التي ينتظر منها إنتاج المعاجم المتخصصة والقيام بالأبحاث العلمية في الموضوع وتدريس ونشر اللغة الأمازيغية القانونية، والشيء نفسه مطلوب من المعهد العالي للقضاء ومن كل المؤسسات التي تكون أطر قطاع العدل.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.