هذا حالنا اليوم، لم تعد تجدي نفعا حكمة سقراط الشهيرة: “تكلم حتى أراك”، لقد أخرسنا هذا الإمبراطور المعظم كوفيد 19، ألجم مجرى اللغة فينا، كمم أفواهنا فيروس حقير غير مرئي، نحن غير مستعبدين كما في الحروب من طرف قوة عظمى أو جيش أكثر تنظيما منا هزمنا في حرب غير متكافئة.. لا، إنها حرب من نوع آخر، ليست بين البشر بعضهم البعض كما حدث في الحربين العالميتين، ولكنها ضد البشرية جمعاء من طرف فيروس أزعجناه ربما بثرثرتنا وباستعراض قوتنا وبتبخترنا الطاووسي في الكون الذي ادعينا أننا أصبحنا أسياده بعد أن تملكناه وطوعناه من أجل إسعادنا.. فيروس حرامي أفقدنا شخصيتنا التي كنا نتمظهر بها، وألبسنا الأقنعة الصحية بموجب القانون حتى غدونا مثل ممثلين في مسرحية تراجي-كوميدية.
من الغريب أن كلمة persona في اللغة اللاتينية تدل على القناع وعلى الشخصية في آن واحد، لقد ارتبطت كلمة الشخصية بالمسرح، وأضحت تدل على الممثلين الذين يؤدون أدوارا مختلفة في نفس المسرحية، فيرتدون أقنعة لتجسيد أدوار عديدة، ومن هنا نظرية العالم النفسي كارل يونغ الذي تحدث عن تعدد شخصياتنا بين الشخص الطبيعي الذي نحن عليه فعلا، والشخص كما يتمظهر في المجتمع لجلب الرضا وعدم التعرض لسخط الأحكام العامة للناس..
مع الكمامة التي أصبحت لصيقة بوجهنا صرنا مثل ممثلين نؤدي أدوارا في هذا العالم الكوروني، نزيل القناع حين نبتعد عن أوجه السلط المتعددة في المجتمع حيث نغدو على حقيقتنا، ونرتديه مثل الزيف/الستار الذي يحجب رعبنا من الفيروس، ومراوغتنا للسلطة، لقد أصبح القناع هوية مضللة، فأضحى ظهورنا في الأماكن العامة بلا قناع صحي مخيف ومرعب، وكلامنا غير مسموح به أمام الجموع لأنه يحمل تهديدا وجوديا للمحيطين بنا، الذين ما أن نشرع في الثرثرة حتى يبتعدون عنا خوفا ورهبة من عدوى الفيروس القاتل، ومع طول إقامة الفيروس بيننا سيطول ارتداؤنا للكمامة التي ستصبح جزءا من شخصيتنا، تخرسنا عن الثرثرة لنرى العالم بعين أخرى، هذه العين التي سيعود لها سحرها الذي كان لها أيام زمان كما خلدته الأشعار والمحكيات القديمة.
لقد صُنعت كمامات على مقاسات وجوهنا، وأصبحت لدينا شخصيات مركبة، الشخص الطبيعي الذي كناه قبل الجائحة، والشخص المزيف الذي يظهر بقناع مخاتل، يخفي طبقة كثيفة من الحكايات والكلام الذي لم نعد نثرثر به، والمحكيات التي قمعت فينا حتى أصبحنا نميل للاقتصاد في القول، وغدونا لا نتعرف على بعضنا البعض إلا بشق الأنفس، وكلامنا أيضا لم يعد مميزا لشخصيتنا بسبب الكمامات، التي ستدفعنا مع مرور الزمن إلى تغيير عاداتنا وسلوكنا وقيمنا وفق ما يفرضه القناع الجديد لوجهنا.
مع هذا الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر لا ندري إلى أي مدى سننجح في استعادة شخصيتنا الحقيقية خارج الأقنعة الصحية؟ هل بمقدورنا أن نسترجع صوتنا ولغتنا الطبيعية ونثرثر من جديد كما كنا؟ أم أن الفيروس الذي يبدو من خلال تحوير شكله وتكييف ذاته حسب مختلف البيئات والظروف والوضعيات التي جعلته جائحة كونية، سيستمر في تكميم أفواهنا وإخراسنا لكي نراه.. ونتواضع لمن ليس كمثله شيء.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.