جمال أبرنوص//
تابعتُ الشريط الناطق بأمازيغية الرّيف “مرسولُ البحر” (سيناريو وإخراج يونس العربي، إنتاج عليان فيلم 2020)، تكريسا مني لقاعدة مواكبة الإنتاجات الدرامية الأمازيغية، وسعيا إلى تتبع المستوى الذي وصله هذا الإنتاج، بعد مرور عشر سنوات على انطلاق القناة الأمازيغية. والحقيقة أن إحساسا سيئاً تمـلّكني وأنا أتابعُ أحداث الشريط، بل وأيقنتُ فعلا أن قرار تزكية هذا المشروع لنيل الدعم العمومي هو احتقار حقيقي لذكاء المتفرج الأمازيغي.. ولمن يستفسر عن حيثيات ذلك، أن يتأمل معي ما سأعرضه من فظاعات، يتصل بعضها بهذا الشريط، وبعضها بالمناخ العام الذي أفرز هذه الدّرجة من الـرّداءة:
- بدأت القناة الأمازيغية منذ مدة في استقبال مشاريع أعمال مكتوبة بغير الأمازيغية (تتم ترجمتها بعد إعلان استفادتها من الدعم)، وهو ما يعتبر وجها من أوجه العبث الذي يجري بهذا الخصوص، ذلك أن مجمل الأعمال الموجهة للاستفادة من دعم الإنتاج المخصص لهذه القناة، من الفئة المشار إليها، ليست سوى تلكم الفئة من الأعمال التي أخفقت في التباري على دعم القناتين الوطنيتين؛ الأولى والثانية. وعليه، فإنه من المُهين أن يتم توجيه “سقط متاع” هاتين القناتين نحو القناة الأمازيغية، ثم ما معنى أن يتمّ قبول مشاريع أعمال مكتوبة بغير الأمازيغية وإيداعها في طلبات عروض تخص قناة الأمازيغية؟ أليست الخيانةُ صنوةَ الترجمة في الأثر الشهير؟ أليس من شروط الكتابة السيناريستية إلمامُ الكاتب بخصوصيات الفضاء الإثنوثقافي الذي يحتضن الأحداث؟
إن المزاج المغربي ليس واحدا، على حد تعبير الأنثروبولوجي المغربي حسن رشيق، وما تأسيس القناة الأمازيغية غير وجه من أوجه تنزيل فحوى هذا الكلام، ولو صحّ أن المغاربة يملكون هوية واحدة متجانسة لما كنا في حاجة إلى مؤسسات ثقافية تقترح الاستراتيجيات الكفيلة بتدبير التنوع. ولو صحّ، أيضا، أن المسألة بمثل هذه البساطة لكان على المنتجين المغاربة أن يسارعوا إلى “استيراد” سيناريوهات مكتوبة بغير الدارجة المغربية (من جهات مشهود بعلو مستواها في الصناعة الدرامية)، وتقديمها في طلبات العروض الخاصة بالقناتين الأولى والثانية.
- يعتبر الشريط موضوع الحديث شاهدا كاشفا عن عبثية هذا المسلك، يظهر ذلك بوضوح في جهل صاحب القصة بمحاذير التواصل بين الجنسين، وهو الذي يحكي قصّةَ تجري أحداثها بقرية ريفية (محافظة)، يفترض أن تفكر فيها المرأة ألف مرة قبل أن تقوم باستقدام رجل غريب إلى بيت الزوجية (في حضور زوجها!)، ما لم يتم تبرير ذلك بإشارات درامية (قبلية) كثيفة، قد تنجح في إيهام المتلقي بصدقية الأحداث.
- بعيدا عن مسألة عدم تمثيلية الشريط للمزاج الثقافي للمنطقة، يجد المتفرج نفسه إزاء شريط يحكي قصة شديدة التفكيك، ضعيفة الحبكة، لا تخضع لأبسط قواعد البناء الدرامي، لا يتعلق فيها السابق باللاحق وفق مبدأي الضرورة والاحتمال، ولا يُلجأ فيها، بتاتا، إلى ثنائيتي: الزرع والحصاد، حتى أن بعض أحداثها تنزل من “السماء” (غير مبررة من الزاوية الدرامية)، كما يجري مثلا عندما تعمد الزوجة إلى قتل زوجها، فقط لأنه رفض مقام الرجل الغريب بكوخه المهترئ، بل وتمعن في جريمتها بالسعي إلى التخلص من جثّـته. إنها قصة يحتاج فهمها ذكاء خاصا جدا، ليس ذكاءً طفوليا على أية حال.
- يحرصُ الشريط على عرضِ قصّة تصويرية على هامش القصة الرئيسية، من خلال مشاهد صامتة تحكي قصة أخطبوط (وهو في وسط البحر- بعد اصطياده- وهو يتحلل فوق قنينة بلاستيكية)، بهدف تمرير إيحاءات سيميولوجية في قلب الحكاية. وهي تقنية جارية في كثير من الأعمال الدرامية، تزيد من كثافة معانيها وسعة تأويلاتها، لا سيما إذا نجح المخرجُ في ابتداع خيطٍ ناظمٍ يربط بين حكاية الشريط ورسالة الصور والمشاهد الموازية، أما والحالة هذه، حيث لا حكاية إلا على سبيل التجاوز، فإن هذه المشاهد لا تبدو غيرَ مزايدات متهافتة، تكشف عن تصنّع وخيلاء فنيين. نحن، بعبارة أخرى، في حاجة إلى من يتقن تحضير الحلوى، أما حبّة الكرز التي سَنضعُها فوق الحلوى لتزيينها، فلا حاجة لنا بها الآن، ولا طعم لها ما لم تكن الحلوى لذيذة.
- يبدو واضحا أن أداء كثير من الممثلين الريفيين (في هذا الشريط وغيره) قد تجاوز فعلا مستوى السيناريوهات التي يُـدعون لتشخيصها. ثمة، حقيقة، تطور ملحوظٌ في مهارات التقمص والتشخيص. لذا لا مبرر أمام الجهة الراعية للإنتاج الدرامي الأمازيغي، ولا شماعة يمكن أن تعلقَ عليها ضعف المنتوج التلفزي سوى اعتمادها ضوابط غير سليمة، وتزكيتها أعمالا لا تتوفر فيها الشروط الدنيا للعمل الجيد.
- من المؤكد أن هذا العمل الدرامي الهزيل لا يمثل غير غيض من فيض الاختلالات الكبرى التي يشهدها تدبير الدعم العمومي المخصص للقنوات الوطنية، والتي تظهر بعضها في استحواذ شركات كبرى واستفرادها بأغلب مشاريع طلبات العروض، مع ما يعنيه ذلك من قطع لجذور التنافسية الضرورية في هذا المجال، وهو ما يجب أن يدفعَ الممارسين إلى المطالبة بالمراجعة العاجلة لدفتر تحملات 2012، على ضوء ما أفرزه هذا الدفتر من أعطاب كبرى تعوق تطوير الإعلام التلفزي العمومي.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.