المدرسة العليا للأساتذة بالمغرب، هي مؤسسة استنسخها المغرب من فرنسا ومهمتها تكوين أساتذة تعليم سلك الثانوي التأهيلي. والدراسة المتأنية لتاريخها تؤدي بنا إلى القول بأن لها مكانتها التكوينية الخاصة وراكمت لتجربة مهمة في تكوين أساتذة من ذوي الكفاءة التربوية العالية لممارسة مهن التربية و التكوين بالبلاد، قبل صدور مرسوم يقضي بنقل المدرسة العليا للأساتذة من وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي إلى الجامعات، حيث أدى ذلك إلى فقدان المدرسة لهبتها وجوهر عملها. فنجد بوصلتها تتجه إلى مصيرها المجهول، وأصبحت مؤسسة ذات هوية فارغة تستنجد من ينقذها نظرا لتراكم مجموعة من العوامل التي ساهمت بشكل أو بآخر في تعميق الأزمة وخلق جو من الضبابية واليأس في صفوف طلابها الذين يلجونها بشهادة البكالوريا ثم بمباراة وطنية كتابية وشفوية، وقبلها بانتقاء أولي ثم تكوين نظري وتطبيقي مرتبط بالمعارف وديداكتيك المواد، ثم ينتهي التكوين بشهادة الإجازة المهنية، تخول الدخول مباشرة لممارسة مهنة التعليم بالمغرب.
ومن العوامل التي أفقدت للمدارس العليا للأساتذة بالمغرب هبتها وهويتها، نجد تأسيس المراكز الجهوية لمهن التربية و التكوين موسم2011/2012 كضربة موجعة تلقتها المدرسة وبعدها تفعيل بنود مخطط التعاقد المشؤوم. وخلال هذه السنة ثم إصدار بلاغ وزاري يقضي بإلغاء الانتقاء الأولي واجتياز حاملي جميع الشواهد مباراة التعليم مباشرة، الشيء الذي يحفزنا على طرح مجموعة من التساؤلات عسى ان تجد آذانا صاغية تجيب عنها: ما موقع المدرسة العليا للأساتذة من قانون إلغاء الانتقاء الأولي وتعميم المباراة في وجه جميع الحاصلين على شهادة الإجازة ؟؟ أي دور للمدرسة العليا للأساتذة في ظل وجود المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين ؟؟ كيف ساهم مخطط التعاقد المشؤوم في ضرب عرض الحائط تكويننا الصارم لمدة ثلاث سنوات ؟؟
وللإحاطة بجوانب هذه الاشكاليات، سنقف عند السؤال الأول الذي سيبدو منذ الوهلة الأولى محط سخرية ونقاش لدى العديد من طلبة الكلية، ولأوضح، فأنا شخصيا أجد قرار إلغاء الانتقاء الأولي قرار صائب لأن الجميع ممن استوفى الشروط المطلوبة، له الحق في اجتياز المباراة. ومسألة الانتقائية جريمة إنسانية ولم تكن يوما معيارا للكفاءة و تكافؤ الفرص، كما أن المطالبة برد الاعتبار للإجازة المهنية التي تسلمها المدرسة بحلول ممكنة تتماشى وطبيعة التكوين الصارم الذي يؤهل طلبتها نظريا وتطبيقيا لمزاولة مهنة التعليم.
هوية المدارس العليا للأساتذة بموجب قانون إحداثها هو تكوين أطر تربوية للتدريس وكذلك المساهمة في التكوين المستمر، إضافة إلى مهمة البحث التربوي وتطوير منظومة التربية والتكوين, وأي خروج عن هذا الجوهر هو ضرب في الهوية التربوية التي ميزت المدارس العليا للأساتذة طوال عقود من العمل على تكوين هيئة تدريس تستجيب لمتطلبات عمليات التعليم والتعلم, و ضرب في سنوات الخبرة التي راكمتها هذه المدارس على مستوى التكوين المعرفي والبيداغوجي في مجال التدريس. و لعل ما يؤسف حقا هو تخلي وزارة التربية الوطنية عن هذه المؤسسة باللجوء إلى التوظيف بالتعاقد وبدون تكوين في قطاع حيوي مثل قطاع التعليم والتعاقد مع مجازين، لن أقول بدون تكوين بل، بضعف في التكوين خاصة في جانبه الديداكتيكي والبيداغوجي، علما أن هناك فئة تكونت لثلاث سنوات في هذا الجانب وتلقت تداريب ميدانية تطبيقية، و منذ ولوجها وهي تراكم في خبراتها وتكوينها فعليا ونظريا، و لعل ما زاد عمق المشكل وزاد الطين بلة أكثر، هو هؤلاء الأطر التربوية أساتذة المستقبل التي تلقت أفضل التكوينات لتجد نفسها في البطالة وتجد الدولة في مفارقة عجيبة تستعين بأطر غير مكونة للتدريس، مما يجعل المتتبع لسياسة تدبير الشأن التعليمي ببلادنا يدرك جيدا غياب أي نية حقيقية للإصلاح المزعوم.
علاقة المدارس العليا للأساتذة بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين من بين الملفات الشائكة في مجال تكوين المدرسين في المغرب، في ظل تضارب في الاختصاصات بين المؤسستين، فنقل المدارس العليا للأساتذة من وصاية الوزارة إلى مسؤولية الجامعات بموجب الظهير الشريف رقم 1.09.100 الصادر 6 رجب 3014(29 يوليوز 2009) يؤكد في المادة الخامسة، على استمرار المدارس العليا للأساتذة في أداء مهام التكوين الأساسي والمستمر تلبية لحاجيات قطاع التربية والتعليم، غير أن الطابع التعاقدي لهذا النقل يجعل من وزارة التربية الوطنية هي من عليها أن تبادر في طلب حاجيتها من المدارس العليا في ظل وجود خصاص كبير على مستوى الموارد البشرية في أغلب المؤسسات التعليمية.
إن إلحاق المدارس العليا للأساتذة بالجامعات لا يعني إسقاط مهام هذه المؤسسة، فإذا كانت الجامعات تنتج المعارف، فإن المدارس العليا للأساتذة تشتغل على ديداكتيك المواد، أي تحويل المعارف النظرية إلى معارف قابلة للتدريس، عبر ما يسمى في مجال التدريس ” بالنقل الديداكتيكي”، فمنذ سنة 2010 لم تضطلع بمهمتها إلى أن جاء البرنامج الحكومي لتكوين 10000 إطار تربوي، الذي أعاد الاعتبار لهذه المؤسسة، خصوصا وأن الشهادة المسلمة من طرف المدارس العليا للأساتذة هي شهادة الأهلية لمهن التدريس. والمطلوب من وزارة التربية والتكوين،هو بلورة رؤية مشتركة تحتفظ بموجبها المدارس العليا للأساتذة على خصوصيتها في إطار التشارك، كما نص على ذلك قانون نقل هذه المدارس للجامعات.
إن الخصاص المهول في قطاع التربية و التكوين على صعيد مجموعة من التخصصات، يفرض بشكل مستعجل عدم التفريط في القيمة المضافة التي تشكلها هذه المدارس العليا للأساتذة والإبقاء على مهمة تكوين الأساتذة ضمن مهامها. أما فشل التدبير في قطاع حيوي مثل التعليم الذي يعتبر ركيزة أساسية في تنمية أي مجتمع، فيتحمل وزره المسؤولون القائمون على تدبير القطاع عبر إسناد مهمته لغير المختصين، فطوال سنين عانت منظومتنا التربوية من كثرة الإصلاحات ولا أعتقد أن هناك دولة في العالم راكمت هذا الكم من الإصلاحات كما فعل المغرب وآخرها ما يعرف بالرؤية الإستراتيجية 2015/2030 الذي جاء أيضا بصنف آخر من شواهد الإجازة سميت بالإجازة في التربية، ويزعم أنها تؤهل أيضا لمهنة التربية والتعليم، مما يفرض علينا إذن ضبط إيقاع الإصلاحات و التحكم فيها وفي وتيرتها مع الأخذ بعين الاعتبار شروط وسياقات إعمالها وتنزيلها. فالدول العريقة في مجال التربية راكمت قرونا في بعض منظومتها،و نحن ما زلنا نراهن على إصلاحات حكومية فاقدة للبوصلة لا تراكم ولا ترتكز على تقييم التجارب السابقة.
و إذا كان المغرب قد استنسخ تجربة المدارس العليا من فرنسا، فعليه أن يمنحها نفس القيمة التي منحتها إياها فرنسا. فمن العبث والتسرع أن يتم تنزيل رؤية كبرى لإصلاح منظومة التربية والتكوين وبعد أشهر تعلن الوزارة المعنية عن مباراة توظيف مدرسين بدون تكوين.. إنها قمة العبث في تدبير قطاع التعليم، ومشكل سيكرس ولا شك، المزيد من الهشاسة التي تنخر القطاع كما سيفاقم المشاكل وسيزيد من عرقلة أي إصلاح يروم النهوض بمنظومة التربية والتكوين. فإلى متى سيحترم مسؤولو بلادنا قطاع التعليم ومتى سيكفون عن سياسة تخريب عقول أبناءنا الممنهجة؟ فإذا فسدت العقول فسدت الأخلاق وفسد بعده المجتمع ولا مجال بعد ذلك إلى إصلاحها. وفي الأخير، نعيد استدراك السؤال الذي يطرح نفسه: هل المدارس العليا للأساتذة بالمغرب انتهت مهمتها ؟ هل ستغلق أبوابها غدا؟ وهل من بدائل عنها؟
- توقيع : زكرياء جيلالي
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.