إيحاحان، إمازيغ مغاربة: كرمهم موروث وأنفتهم ممتدة

الطيب أمكرود

انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لفتاة من منطقة القبائل، تتحدث عن حنينها لفترة الصبا، حيث كانت تحمل الطعام للعمال، فلاحين وبنائين…،

حنين يمتزج بالتماس إلى أولئك العمال باستحضار أن الطفل وهو يحمل وجبة العمال، فهو يحمل أفضل ما يمكن أن تقدمه الأسرة المشغلة، وأنه في الغالب يكون أفضل مما تقدمه الأسر لأبنائها في وجباتهم اليومية.

وقالت الشابة القبائلية التي تحن لفترة طفولتها، أن الطفل وهو يوصل الطعام بأمانة للعمال يعلم أن ما ينتظره في البيت هو وجبة بسيطة من فول أو عدس أو ما شابه، ملتمسة من العمال أن يذيقوا الأطفال مما يكلفون من قبل العائلات بإيصاله لهم احتراما لرغباتهم الطفولية في تذوق الطعام الجيد الذي تقدمه الأسر لهم.

وأنا استمع للشابة القبائلية تحركت في أعماقي أشواق إلى فترة صبا من نفس الطينة، إلى منطقة تطبق نفس المنطق، إنها إيحاحان، تذكرت في نفس الآن زعيما سياسيا كرطونيا قال عن الأمازيغ ذات يوم “بشحال كاع كايعيش الشلح؟” ، تذكرت أحكاما جاهزة تحكي عن تقتير الشلح وتتهكم على الحيحي، وهي كليشيهات عفا عنها الزمن ويجدر بنا تجاوزها.

في جولاتي وجلساتي وتجادباتي الكثيرة عادة ما أسأل عن منطقتي: مْنٍينْ لْبْلَادْ؟ mani igan tamazirt ?، يكون الرد تلقائيا وعفويا: إيحاحان، ألاحظ لدى عدد ممن يشاركوننا الوطن ردود فعل مختلفة، مؤسسة في الغالب على ما تتناقله الألسن دون بينة: أعوذ بالله، نتوما صعاب، إيحاحان شقان، إيحاحان أرسكارن…وهي الأسباب التي تجعل الكثير ممن لا يمتلك قوة الحجة وليس حجة القوة يلجأون لإنكار أصولهم وكفى الله المومنين شر القتال.

منذ عقود أحاول تصحيح صورة نمطية كونت عن منطقة ممتدة حاضرا من أكادير جنوبا إلى الصويرة شمالا، تضم اثنتي عشرة قبيلة، وتضم أكثر من ثلاثين جماعة ترابية وأزيد من مئتي ألف نسمة، بصمت وتبصم تاريخ المغرب، لا يرف جفن للبعض منا وهو يصدر في حقهم أحكام قيمة جائرة لا تستحضر العقل ولا المنطق، ولا تكلف نفسها النبش في التاريخ لمعرفة من هم إيحاحان ولا الانتقال بينهم لمعرفتهم على الطبيعة.

في منطقتي الضيف مقدم على أفراد الأسرة، وليس غريبا أن يصوغ الأمازيغ مثلا للحث على إكرام الضيف والعامل وكل غريب يحل بالبيت وهم يقولون: ءُوفْنْ وَامَانْ لٍّي سْ تْسٍّيرْدْتْ ءُودْمْ نّْكْ وٍيلٍّي تْسْويتْ

ودلالته الحرفية أن الماء الذي تغسل به وجهك أفضل من الذي تشربه، وحمولته الرمزية أن كرامة الإنسان وقيمته الاعتبارية وتقديره وحفظ ماء وجهه مقدمة على منفعة آنية غير ذات وقع على وضعه الاعتباري داخل المجتمع.

إن المثل والتعبير المسكوك لدى الأمازيغ ثمار لتجارب متواصلة تتوج بصياغة عبارة تسري على الألسن وترثها الأجيال، وإن العبارة الواردة أعلاه نجد صداها لدى قبائل إيحاحان إلى اليوم، فضيف الحيحي وهو يطرق الباب، زائرا أو مهنئا أو معزيا أو عاملا أو ذا مصلحة…،

يجد وهو يلج من بوابة تادواريت، بيت ضيوف من الطراز المغربي الأصيل، يتكون من غرف كبيرة للضيوف تيمصراي أدناها واحدة، ومرافق صحية خاصة بهم، وخزان ماء تانوضفي، والبيت مجهز بكل ما يلزم من أفرشة وأغطية وأواني، يحيط به سور ويربطه بالبيت الرئيسي باب مزدوج الأقفال، يلج منه رب البيت لإحضار ما يلزم أو غصدار التعليمات، وعندما يودع الضيف للنوم يغلق بابه من جهة بيت الأسرة تاركا للضيف اختيار إغلاقه من جهته.

يلج الضيف منزل الضيوف من باب مستقل عادة ما تختار له أفضل الواجهات، وما أن يجلس، ويبادله صاحبب المنزل التحايا والسؤال عن الأهل والأقارب والأحوال، حتى يغادر هذا الأخير من الباب الداخلي الموصل إلى المنزل لإصدار الأوامر، ثم يعود لمبادلة ضيفه الحديث.

من عادة الحيحي أن يترك الحديث في أي موضوع للزيارة إلى أن تنتهي كل طقوس الإكرام، وهي صفة ملازمة لعميد أغنية إيحاحان الرايس مبارك أيسار كما يحكي من حظوا بزيارته في مسكنه بالدشيرة أيا كان هدف الزيارة، فاحلول بغرفة الضيوف بالمنزل العامر لأيسار، يعني أن لا تفاتحه في أي شيء حتى يقوم معك باللازم، واللازم عند أياسر هو ما ورثه عن أهله بتابولعوانت غيداويسارن إيحاحان: ur rad bdr walu ard nsu atay، عبارة مسكوكة عند أيسار يوجهها لكل زواره ومؤداها حرفيا ” لن نتذاكر عن أي موضوع قبل شري الشاي” وشرب الشاي عبارة تحيل على إكرامك من قبل من قمت عليه ضيفا: الرايس مبارك أيسار، صورة من إيحيحي الشهم الكريم.

والضيف ورب الأسرة يتبادلان أطراف الحديث، تشتغل خلية النحل في المنزل الرئيسي، تستخرج كبيرة النساء والشخص الثاني في البيت من حيث الأهمية والمهام، وقد تكون في الغالب زوجة مالك المنزل، تستخرج ما اختزنته لمثل تلك اللحظات بعيدا عن أعين الجميع بمن فيهم زوجها، تستخرج آنيتها من النوع الجيد المصنوعة من فاروز والمسماة محليا timrgwal، ويسميها أهل سوس tigwrramin، تختزن الآنيات ءٍيمْصْطٍيرْنْ العائلة، وإيمصطيرن كلمة جامعة تحيل على إناء مملوء بالعسل، وقد يكون العسل من صنفين مقطر وآخر مازال في الشهد، وآخر مملوء بأملو المصنوع من اللوز، وإناء مملوء بالسمن المصنوع من قبل تيحاحاتين على الطريقة المحلية، والذي يسميه إخوتنا في الصحراء المغربية بالدهن، وإناء مملوء بالزبدة البلدية، وإناء مملوء بأركان، وإناء مملوء بزيت الزيتون المحلية، تسابق الأم الزمن وتعد صينية مملوءة باللوز ومختلف الفواكه الجافة، وتضع إحدى بناتها المغلاة فوق النار وتعد آنية الشاي ولوازمه في انتظار نضج الماء، وتعد ثالثة خبزا شهيا على النار والطاجين الطيني المحلي الصنع الخاص بطهي الخبز على الأثافي أنخدام/ أفلون.

يسمع رب الأسرة نقرا خفيفا على الباب الوسيط بين الدار وبيت الضيوف فيفهم الرسالة المشفرة، يحضر المغسل والفوطة ويصب الماء لضيفه لغسل يديه، تحضر أمامهم آنية الشاي من قبل أحد الأبناء، يعد أحد الأقارب الشاي، تتناول الفواكه الجافة والكعك والشاي أولا، ثم الخبز الدافئ وإيمصطيرن بعد ذلك، يصب الشاي ويقطع الخبز بالتدريج، يتناول الجميع ما لذ وطاب، ترفع الآنية ويتواصل الحديث في انتظار إعداد الطاجين المحلي للغذاء.

كما يكرم الضيف، يكرم العامل، ويشتهر إيحاحان عند كل العمال ومنهم عمال الحصاد التقليدي بكرمهم، وبكون بيوتهم تضل قبلة للحصادين من كل مناطق المغرب، وكون هؤلاء يحكون عنهم إلى اليوم كل الخير، كيف لا وهم يحلون ببيوتهم معززين مكرمين موفرة لهم كل وسائل الراحة وأفضل الأطعمة، فالعامل لدى إيحاحان ضيف من نوع خاص يجب إكرام مقدمه والعناية به وإجزال العطاء له ضمانا لعودته، والعامل عند إيحيحي يحظى بفطور أول في البيت، وفطور ثاني في موقع العمل، وغذاء جيد فلمجة، وعشاء إن كان يبيت ببيت رب العمل.

إن بيت الضيوف عند إيحيحي مرفق من أكثر المرافق ضرورة إلى جانب تادارت بيت النحل، والزريبة بيت الأغنام والماعز، وأكرور حظيرة الأبقار والبهائم، وأمدوز الدمنة، وباقي مرافق بيت الأسرة أو العائلة، وإن إيحاحان يتنافسون بينهم في إكرام ضيوفهم وفي إظهار ذلك الكرم، وكمال الحيحي يتحقق ببغل قوي، وقطيع أغنام وماعز، وخلية نحل ممتلئة، وحقول ممتدة، علما أن أغلب الأسر الحيحية كانت تتوفر على حصان محظي ينعم بالمأكل والمشرب والنظافة والراحة في انتظار مواسم الفروسية والتظاهرات الاجتماعية المختلفة.

هؤلاء هم إيحاحان، رقعة من بلاد المغرب ومن شمال افريقيا، تشارك هذه المناطق ثقافة الكرم والإحسان، وتنسحب تفاصيل كرمهم على أهل المغرب قاطبة، وهو ما تبرزه ثقافة جعل غرفة الضيوف بأفرشتها وأثاثها، ومأكل الضيوف ومشربهم، أفضل ما تسعى الأسر المغربية لتحقيقه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد