إلى ضيوف أكادير المدينة التى هدمت نفسها كي ترى البحر..

يوسف الغريب

المتأمل لأكادير ( اوفلا) يخاله على هيئة ناسك متعبد ..يعلو الوقار لحيته ..ممتد على ارائكه ..البحر قبالته ..المساء ينام تحت قدميه …الريح تكتب في الرمل وتصيح….(مدينتك يا سيدي أقل من البحر .. أكبر من الدهر ).

فتطفو على عينيه بسمة صوفية وهو يمشط بأنامله وبتأن لحيته المشكلة على امتداد 60 سنة.. عُمْر هذه المدينة الجديدة التي طعنت من الخلف ليلة 29 فبراير 1960.

…كان ذلك المساء..ذلك الفناء …حيث اندثرت ثريا أوفلا التي كانت تزين الشاطئ الاطلسي كل مساء وأطفئت زهرة فونتي ..واستوت شرفات تلبرجت مع البحر كل ذلك أمام بولقنادل الولي الصالح الذي ما زالت أعمدته الصامدة شواهد عيان على ذلك القدر الإلهي… كل ذلك ايضا كان في الماضي وبين سطور تاريخ هذه المدينة …

والآن، هاهي قد بلغت أشدها فلا أحد استطاع الجزم بمصدر او أساس هذا الإسم أكادير الذي حاك حوله المؤرخون والباحثون الكثير من التسميات ..فمرة يطلق على الحصن ومرة على المخزن الجماعي وبعضهم اتفق على أن هذا الإسم الأمازيغي يعني القصبة ؛لكن الجميع وخصوصا العشاق يطلقونها على مدينة متعددة الالوان ذات الألف أريج شكلتها الطبيعة خليجا تحدها شمالا الصويرة- مراكش ؛ شرقا تارودانت ؛ جنوبا تزنيت ؛أما الغرب فعاشقها الأبدي البحر …

عشق يبحث الزوار عمن يعشق من ؟ هل هو بحر المدينة أم مدينة البحر، المولعون بالجمال وحدهم يدركون أن السر هو وجهان لعشق واحد.

تجمع أكادير بين الشاطئ الرملي المنبسط على امتداد 10كلم وبين الجبل الشامخ المحاذي للمدينة الى عمق البحر والسهل الفسيح الخصيب بضواحيها …بطابع عمراني يمزج الخصوصيات الجهوية بالابداع العصري الذي حولها الى جوهرة رغم حداثتها تؤم المئات من السواح والمستثمرين حتى قبل أن تكون السياحة بالمعنى الحالي للكلمة.

خصوصيات مناخية شكلت معطى متميزا لصالح مدينة بلغ متوسط حرارتها السنوي 22درجة وموقع منفرد كانفتاحها على الشمال والجنوب في أقصى غرب الأطلس الكبير بمحاذاة الساحل ، كلها عوامل لعبت دورا حاسما كي تتمتع هذه المدينة بجاذبية خاصة وتبهر زوارها بسحرها الأخاذ الممزوج بين الجمال والأحاسيس حيث الظل يلامس الضياء والصحراء تحجب الواحات الخضراء.. والالوان الأكثر تعارضا تصبح تكاملا… فتذوب في أشكال مزخرفة بألوان زاهية تعكس ذهبية الرمال زرقتا السماء والبحر بياض العمران الناصع وخضرة الحدائق

لكن الضوء يحظى بميزة الأسبق…
يمكن أن تبدأ يومك بتأمل استيقاظ البحر على ضوء أشعة الشمس المتطلة وراء الجبل لتتبع ذلك برحلة ممتعة وطويلة بطول أميال هذا الشاطئ الذي يبدأ من قدمي أكادير أوفلا الى غابة (بوتسرا..) إذ يعتبر النقطة الأكثر جاذبية لساكنة المدينة وهم يخففون الوطء على كورنيش( توادا ) خصوصا لحظة احتضان البحر لقرص الشمس في شفق قل نظيره في أماكن أخرى ….نعم أكادير لديها كل هذا وتقدمه اليك بصدر رحب وابتسامة مشرقة نابعة من قلوب اناسها الطيبين الذين تجدهم على استعداد لإرشادك الى اكتشاف وداعة هذه المدينة التي لا تحتمل العنف .

لوحة رقيقة ترسم بتناسق تداخل السماء والارض والبحر هكذا يصفها المولعون بالجمال الساحر أو هي جنة فوق الأرض كما يحلو للكثيرين نعتها حتى الذين لم يزورونها يعرفونها لكثرة ما يسمعون عنها أكادير حصن منيع في وجه الزمن ومدينة أكبر من الدهر أعيد بناؤها بعيدا عن المناطق المهددة بتقنيات مضادة للزلازل وأصبحت الان فضاءا للسياحة والاستجمام تضع كل الخيارات أمام زائريها بعيدا عن البحر كالصاعد الى قصبة أكادير أوفلا راكبا او راجلا عليه أن يعيد عقارب ساعته الى ما وراء 1960 وهو يخترق سورا خارجيا مدعما بابراج وشرفات وباب مصمم بشكل ملتو لأغراض دفاعية ….الزائر الصاعد إليها عليه أن يستحضر أن القصبة كانت تحتوي على مسجد كبير ومعبد يهودي ومستشفى عسكري ومنازل وأزقة وحي خاص باليهود ومقابر متجاورة لأهل الديانات السماوية الثلاث وضريح سيدي بوجمعة اكناون خاص بطائفة كناوة (وبالمناسبة أول مهرجان كناوة أقيم بأكادير قبل أن يهجر الى الصويرة).

زيارة القصبة تمنحنا لحظة بزمنين بقدر ما تعيدنا الى هذه الذاكرة بقدر ما تمنحنا فرصة التمتع بمشهد بانورامي يجمع بين البساط الازرق على امتداد الافق يمينا ؛ والبساط الأخضر تخترقه نجمات بيضاء يسارا …إذ ذاك ينكشف سر تلك البسمة الصوفية التي تعلو محيا حارس المدينة اكادير أوفلا وهو ينتظر مثلنا ترميم سور القصبة بما يحافظ على شكله الأصلي من أبراج وشرفات ومطافات لتصبح مزارا سياحيا ذات حمولة تاريخية وحضارية …بل يتنظر إعادة الروح إلى بعض البنايات كالمسجد الكبير والمعبد اليهودي ومبني الخزينة والبريد …بهذا المعنى تتحولبهذا المعنى تتحول القصبة الى متحف للذاكرة يتكامل مع ذاكرة المدينة بمتحف ( أولهاو).

هذه هي مدينة الانبعاث …مدينة اعتمدت في تخطيطها على خط متعامد ومستقيم لتنفجر كل الاشكال الهندسية الاخرى حد الصخب …هي المدينة التي يجمع فيها الماءان والحسنوان ..أما الماءان فيأتيها الاول من السدود المحيطة بها شمالا وجنوبا وشرقا والمالح من الزرقة الأطلسية . والحسنوان فهما الوجه البشوش وكرم الضيافة .

هي الان وكعادتها منذ زمان تولي وجهها نحو العشيق الابدي تغوص في مياهه لتستخرج ما يعيد مجدها وتتصدر مركزها الإشعاع الحضاري والفكري كما كانت متحديا كل اساليب الاقصاء والتهميش.

فاكادير كما تؤكد ألواح سيدي بولقنادل – أمين سر المدينة – ليست لباسا للعابرين ولا وكرا للهديل ..المدينة وعد يغفو على زبد البحر ..زمن ينساب على ذاكرتنا المصقولة ..المدينة كالحلم الجميل الذي يأتي في لياليها البيضاء كأ نها أخت القمر …أكادير هنا تهدئ الروح تهيم بضيوفها ويهيمون بها مثل الحكايات التي كان ( أندرسون ) يكتبها في ساعة العصارى من كل يوم مثل كل هذا يبدو جميلا ومبهرا في المدينة حتى إذا استراحت تستريح على كتف الشفق ثم تتابع صعودها أكادير التي تجعل كل من عاش فيها …او زارها يعرف أن الحياة ليست سوى حلم قصير ينتهي ..أما هي تلك المليحة العذراء اكادير فحياتها أبدا لا تنتهي مادام البحر هناك ..والريح تكتب في الرمل وتصيح :
مدينتك ياسيدتي
عاشقة البحر.. قاهرة الدهر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد