إلى السيد أبو يعرب المرزوقي: من حقنا أن نختار “أخف الضررين”

أحمد عصيد

الدكتور أبو يعرب المرزوقي رمز من رموز الثقافة الإسلامية في تونس، وإن كان البعض ينسبه إلى الفلسفة خطأ، لكن يمكن أن نقول ـ كما هو شأن الدكتور طه عبد الرحمان عندنا ـ إنه ممن يعتقدون في إمكان بناء خطاب فلسفي انطلاقا من ثوابت الدين وبديهياته الروحية والعقدية، من أجل إثبات “خصوصية عربية إسلامية” في الفلسفة، ما يجعل فكرهم نوعا من “اللاهوت” وليس الفلسفة تحديدا، أو نوعا من الإيديولوجيا الدينية ذات المرامي المسيّسة، لكننا نعتبر أن كل من قام بجهد التفكير فله فضل ذلك أصاب أو أخطأ.

ونحن في هذا المقام لن نناقش الدكتور أبو يعرب في “فلسفته” ولا في عطائه الفكري، بل في مقال له في السياسة نشره بعد الهزيمة الانتخابية المدوّية للإخوان المسلمين بالمغرب، تحت عنوان “انتخابات المغرب، هل هُزم الإسلاميون حقا ؟”. وكما حدث مع مارتن هايدغر أو محمد عابد الجابري عندنا وآخرين، فالفيلسوف ليس دائما مصيبا في السياسة، بل قد يكون “مصيبة” عندما يقعُ فريسة  للغلو الإيديولوجي أو الانسياق العاطفي.
وما دام الدكتور التونسي قد عرض لقضايا بلدنا كما سبق لنا نحن أيضا أن كتبنا عن تونس وقضايا الديمقراطية فيها، فإن من حقنا مناقشته في بعض ما ذهب إليه، ليس لتناول آرائه السياسية التي هو حرّ فيها، لكن بهدف تقديم المعطيات الصحيحة والموضوعية المتعلقة بالسياق المغربي وبحزب “العدالة والتنمية” تحديدا، والأسباب الحقيقية لسقوطه الانتخابي.

استهلّ الدكتور المرزوقي مقاله بالإشارة إلى أن هزيمة الإسلاميين المغاربة فيها “كل الخير” لمستقبلهم، وأنها عكس ما يُعتقد “انتصار” وهزيمة للنظام السياسي أي “المخزن” ، واعتبر الدكتور هزيمة إخوانه المغاربة “نكسة” فقط كما اعتبر مَن نظر إلى هزيمتهم على أنها سقوط كبير واقعا في “سطحية التحليل البدائي”، بينما رأى في نفسه صاحب الرأي “العميق” والصائب.

ولكن لنتحلّ بقدر من الموضوعية ونناقش الدكتور فيما ذهب إليه، فحتى يتمكن من تفسير ظاهرة سقوط “الإخوان” بالمغرب عليه أن يحقق أمورا ثلاثة:
ـ التخلي عن عواطف “النصرة” التي يبدو أنها وحدها تحرك قلمه وتدفعه إلى الكتابة في هذا الموضوع، وهي عائق أمام التحليل الموضوعي والعلمي.
ـ الإلمام بالوضع المغربي من الداخل ومعرفة مختلف ملابساته وسياقاته ورهاناته،  وعلاقة الأطراف المختلفة بعضها ببعض.
ـ معرفة سياق الإسلام السياسي في المغرب وخصوصيته وحقيقة علاقته بالنظام أي بـ”المخزن”، وعلاقته بالمجتمع.
لقد قدّم الدكتور المرزوقي الإسلاميين المنهزمين بالمغرب كما لو أنهم يمثلون قوة ديمقراطية في مقابل استبداد النظام السياسي، بينما التيار الإسلامي الذي يتحدث عنه ليس تيارا ديمقراطيا يهدف إلى إنجاح الانتقال نحو دولة القانون والمواطنة بالمغرب، بل هو سند للسلطة منذ ما قبل وجوده كحزب سياسي، وإليكم رسالة السيد عبد الإله بنكيران التي وجّهها  في ماضي الأيام إلى وزير داخلية الحسن الثاني، السيء الذكر إدريس البصري، عارضا تعاونه مع السلطة ضدّ القوى التحررية آنذاك التي كان الكثير من رموزها في سجون سنوات الرصاص، وهي الرسالة التي ورد فيها: “من الواجب في رأينا أن يقوم بين المسؤولين والدعاة تعاون قوي لما فيه خير بلادنا”، والتي ختمها بالدعاء للسلطة وعرض خدماته على باب السلطان قائلا: ” والله نسأل أن يوفقكم لما فيه الخير ويهدينا وإياكم إلى ما يحبه. الخادم المطيع والداعي لكم بالصلاح والتوفيق في كل حين عبد الإله بنكيران”.

فـ”الإخوان” الذين يتحدث عنهم السيد المرزوقي “مخزنيون” أكثر من “المخزن”  نفسه، وقد ظهر ولاؤهم الكبير للسلطة خلال الانتفاضة الشعبية لحركة 20 فبراير 2011، مباشرة بعد ثورة الشعب التونسي المظفرة، حيث وقف زعيم حزب “العدالة والتنمية” السيد بنكيران مع “المخزن” ضد حراك الشارع  ونادى في حوار له مع قناة “الجزيرة” بطاعة الملك الذي هو كل شيء، معتبرا نفسه الخادم المطيع للملك، بل أكثر من ذلك نعت المتظاهرين المطالبين بـ”إسقاط الفساد والاستبداد” وبصلاحيات حقيقية للحكومة المنتخبة ـ وكاتب هذه السطور واحد منهم ـ بعبارة “الطبالة والغياطة (والطبالة والغياطة في المغرب هم موسيقيو الأعراس الذين يدقون الطبول ويعزفون على المزامير).

وظل بنكيران يفتخر طوال مدة ولايته الحكومية التي ترأسها بأن حزبه يشكل “صمام أمان” للنظام السياسي وأنه قد ساهم بمعارضته للحراك الشعبي في استقرار المغرب وتقوية النظام. وهو بذلك إنما كان يبحث عن تحالف مع السلطة العليا ضدّ خصومه اليساريين والليبراليين الذين سعى إلى إبعادهم عن مراكز القرار للاستفراد بالسلطة بجانب الملك، الوهمُ الذي تبين فيما بعد بأنه توقيع على بياض بدون أية ضمانات. إذ لا يمكن لنظام يحتكر الشأن الديني من خلال مؤسسة “إمارة المؤمنين” أن يتحالف مع حزب إخوانيّ التوجه. خاصة وأن الملكية المغربية تعمل من أجل الحفاظ على التوازنات الداخلية على لعب دور الحكم بين الفرقاء السياسيين المختلفين.

وهل نحتاج إلى تذكيركم بأن السيد بنكيران وحزبه قد وقفوا وهم في الحكومة ضدّ الحراك الشعبي بالريف كذلك، بل إنّ بنكيران دعا أتباعه إلى عدم الخروج مع السكان المتظاهرين والذين قضوا أزيد من سبعة شهور في الشارع من أجل مطالب اجتماعية، هي نفسها المطالب التي أحرق من أجلها البوعزيزي نفسه في تونس، هل هذا هو “الغطاء الإسلامي النظيف” الذي يتحدث عنه الدكتور التونسي ؟

نعم إنه فعلا غطاء لكن لتقوية السلطة وإذلال الشعب وهي لعبة قذرة انخرط فيها “الإخوان” عن اختيار وإصرار وطواعية من أجل كراسي السلطة، وهم اليوم يؤدون ثمن مقامرتهم بمصير المغاربة.

يحاول الدكتور المرزوقي أن يشرح الظاهرة التي رأى فيها “كل الخير لمستقبل الإسلاميين” (ظاهرة هزيمتهم) وكأنه يجهل أن هدف القوى الديمقراطية الحقيقية ليس مصلحة الإسلاميين في الإقليم بل مصلحة شعوب المنطقة التواقة إلى النهضة والازدهار وتحقيق أبسط حقوق المواطنة والعيش الكريم، أما الإسلاميون فهم عابرون كغيرهم وليسوا هدفا أو غاية لذاتها. إن خطأ الإسلاميين القاتل أنهم يعتبرون أنفسهم قطب الدنيا، وهي أنانية مفرطة تنتهي دائما إلى تحطيم صاحبها.

يعلم الدكتور المرزوقي بأن التناوب على السلطة هو مبدأ صميم من مبادئ الديمقراطية، وأن الواقع الذي يدعمه هو أن الفشل الحكومي يؤدي حتما إلى تغيير من يتولى مسؤولية حكومية، ويقول بهذا الصدد:”يمكن أن نقول إن مباشرة أي حزب للحكم يؤدي عادة – وخاصة إذا طال- إلى فقدان الأغلبية حتى في الديموقراطيات الحقيقية”، ولكنه يرفض تطبيق هذه القاعدة على حزب “العدالة والتنمية” وعلى الإسلاميين في بلدان المغارب، وكأن هؤلاء مهما مرت عليهم السنوات وهم في الحكومة لا يمكن أن يتعب الناس من وجوههم وطلعاتهم البهية،  وكأن أخطاءهم وتقصيرهم لا يمكن أن يدفع الناس إلى تغيير رأيهم فيهم، وهذا تحيّز يبعد بالدكتور عن جادة الصواب.

ويعلم الدكتور كذلك ـ ما دمنا نتحدث عن مبادئ الديمقراطية ـ بأن من يريد الحكم لوحده عليه أن يحصل على أغلبية مطلقة، وهي غير ممكنة لأن الكتلة الناخبة للأحزاب الإسلامية تظل أقلية مقارنة بعدد المصوتين، سواء في تونس أو في المغرب أو الجزائر حصل نفس الشيء، لا بد من حلفاء لتشكيل الحكومة، والحلفاء ليسوا إسلاميين ولا يمكن أن يتركوا الحزب الإسلامي ينفذ سياسته وحده، وهذا يعتبره الدكتور مؤامرة ضدّ الإسلاميين.

في هذا المستوى بالذات يبدو السيد المرزوقي ملكيا أكثر من الملك، فالذين يتحدث عنهم بأنهم ظلموا هم أنفسهم وبنسبة كبيرة حكموا على تنظيمهم بالاندحار الانتخابي، بسبب انقسامهم الداخلي وعزوفهم عن التصويت حتى لقيادتهم.

ونأتي إلى بيت القصيد، هل فكر الدكتور الإسلامي لحظة في الأسباب الحقيقية والموضوعية لسقوط “الإخوان” بالمغرب خارج نظرية المؤامرة ؟ نعم إن “المخزن” يستفيد من فشل الإسلاميين وتراجعهم، ولكن هل هذا وحده سبب سقوطهم ؟ هل تعتقدون حقا أن المغاربة يحبون “الإخوان” وأن “المخزن” قام بالالتفاف على أصواتهم وتزويرها ؟ إن عدم الاعتراف بالهزيمة هو أكبر عائق للتقدم وتصحيح المسار. وفيما يلي أقدم لكم تصريح السيدة أمينة ماء العينين وهي قيادية بحزب “العدالة والتنمية” المغربي، لتعلن لكم بنفسها بعض الأسباب الحقيقية لفشل الحزب الإسلامي واندحاره، فقد صرحت مباشرة بعد إعلان  نتائج الانتخابات قائلة: ” “لقد عاقب المغاربة حزب العدالة والتنمية، هذه هي الحقيقة التي يجب الاعتراف بها بشجاعة في بداية للتصالح معهم ومع الذات العليلة. ووجهت كلامها للسيد سعد الدين العثماني الأمين العام للحزب داعية إياه إلى “الاعتراف بالهزيمة” وتقديم استقالته. وأفادت بأن العثماني “سمح بمرور قوانين انتخابية كارثية، كما قدم تنازلات غير مدروسة ورفض تفعيل مقتضيات دستورية كان يمكن أن تنقذ الحزب، كما تبنى منطقا إقصائيا حديديا داخل الحزب”.  واعتبرت بأن تبرير الهزيمة بالأعذار المختلفة “لا يمكن أن تبرر بأي شكل من الأشكال هذا الاندحار المُحزن”. ثم حسمت قائلة: “اللحظة لحظة اعتراف بالأخطاء والتحلي بفضيلة النقد، فاليوم لم يعد ممكنا إقصاء من يتبنى هذا الخيار أو التنكيل به والاستقواء عليه تنظيميا” .واعتبرت أنه من أسباب الهزيمة التي مني بها الحزب “صم الآذان عن صوت النقد الصادق وفسح المجال واسعا أمام أصوات التهليل والتصفيق لشعار جبان سياسيا وأخلاقيا عنوانه الصمت والإنجاز”.

هذه بعض أسباب فشل الإسلاميين وهزيمتهم كما رصدها صوت نقدي قادم من داخل التنظيم الإخواني نفسه، ونضيف إليه الأسباب التالية التي سبق لي أن أوضحتها لوسائل الإعلام من قبل:
ـ السخط الشعبي بسبب انخراط الحزب في سياسيات لا شعبية ودفاعه عنها، ومنها تحرير أسعار المحروقات والزيادة المهولة في أثمنة المواد الأساسية والزيادة في سنوات التقاعد وإلزام المتقاعدين بتحمل تبعات عجز الصندوق، وخذلان العاطلين والأستاذة المتعاقدين، وهي أخطاء أدت إلى أنّ نسبة مهمة من الطبقة الوسطى والفئات المهمشة قد تخلت عمليا عن الحزب الإسلامي.
ـ الانقسام الداخلي الحادّ منذ المؤتمر الأخير، والذي أدى إليه قبول العثماني بترأس الحكومة بدلا عن بنكيران الذي أبعد وتم تمتيعه بتقاعد من سبعة ملايين شهريا قبلها على الفور متناسيا عمر بن الخطاب، وهي تقاعد ريعي غير مستحق وغير منطقي.
ـ عدم رغبة السلطة العليا في استمرار الحزب “الإخواني” مشاركا في الحكومة بسبب توجهه الديني الأجنبي عن المغرب، وبسبب رغبته في الاستيلاء على المؤسسات بطريقة مخالفة لمبدأ الديمقراطية التشاركية.
ـ دينامية الأطراف السياسية الأخرى وعملها التعبوي بأساليب عصرية جديدة رغم بعض السلبيات المعتادة من توزيع المال واعتماد الروابط القبلية أو العشائرية وغيرها في بعض الجهات.
ـ بروز دور الشباب في الانتخابات ما مكّن من استقطاب كتل ناخبة جديدة.
ـ شبكات التواصل الاجتماعي التي ساهمت في حملة التحريض ضدّ الحزب الإخواني ما أدى إلى طرد قيادييه في العديد من المدن أثناء الحملة الانتخابية، الشيء الذي أعطى إشارة سلبية عن الحزب أدت إلى فقدانه حتى للكتلة الناخبة بالأحياء الشعبية التي تعود الحزب على شراءها بتوزيع “القفة” على مدى سنوات.
ـ كما يبدو أن “النصرة” التي تعود عليها حزب العدالة والتنمية من تنظيم “العدل والإحسان” أو من التيار السلفي لم تحصل هذه المرة. كل هذه العوامل تشير إلى الكيفية التي تشتتت بها الكتلة الناخبة التي كان يتمتع بها الحزب.
اعتبر السيد المرزوقي أن خطة النظام المغربي لإبعاد “الإخوان” هي: “تذويب الإسلاميين بحكم صوري يحملهم مسؤولية فشله دون أن يستفيدوا شيئا من المشاركة فيه وذلك لتبين استحالة الانتصار عليهم شعبيا وبالعنف الذي فشل طيلة أكثر من قرن”.

ولنفحص بتدقيق هذا الكلام فنقول: إذا كان الحكم “صوريا” فلماذا ينخرطون فيه ؟ وإذا كانت لديهم شرعية شعبية فلماذا لا يعملون على تغيير موازين القوى لصالحهم حتى يصبح حكمهم فعليا ؟ ولماذا يظلون معزولين عن باقي القوى كلما شاركوا في الحكم ؟ ولماذا فشلوا في كل الحلول التي اقترحوها وهم يتولون كراسي المسؤولية ؟ ولماذا يعملون جاهدين على الاعتراض على جميع القوانين المتعلقة بالحريات والمساواة إذا كان هدفهم تقوية الديمقراطية ؟ ولماذا يزداد السخط الشعبي ضدّهم إذا كانت لهم شرعية لا تتزحزح ؟
من ضرب الإسلاميين على أيديهم لكي يشاركوا في حكم “صوري” عنوة في غياب شروط الحكم الفعلي ؟ ففي الوقت الذي تسابقوا فيه على كراسي الترأس رفضتُ شخصيا دعوة خمسة أحزاب سياسية للترشح باسمها في انتخابات 2011 ، وكان ذلك لأنني اعتبرت أن شروط العمل الطبيعية غير متوفرة وكان ممكنا أن أحظى بكرسي كالذي حظي به “الإخوان” ثم أقول إن العمل من داخل المؤسسات  كان “صوريا”.
أما أنهم “لم يستفيدوا شيئا” فهو كلام مخالف لواقع الحال، ذلك أنهم يا سيدي غمسوا أيديهم في الموائد الدسمة حتى المرفقين، فقد تنعموا بالسيارات الفارهة والفيلات الغناء وتقلبوا في الأفرشة الوثيرة وتزوجوا على نسائهم كما اتخذوا لهم عشيقات، وتلك من مظاهر السلطة والنعمة عندهم، ولم يبدُ عليهم أي اقتداء بعمر بن الخطاب الذي كسروا أدمغتنا بعدله وتواضعه وأنه “كان يأكل الخبز والزيت حتى اسودّ لونه”،  وأن أمعاءه تغرغر من الجوع فيقول لها “غرغري أو لا تغرغري فلن تذوقي طعاما ولا شرابا حتى يأكل الفقراء” (وهذا كلام السيد بنكيران صديقك، في البرلمان المغربي أيام كانوا في المعارضة).

اعتبر السيد المرزوقي أن “من فشل حقا في انتخابات الأمس هو المخزن وليس الإسلاميون” وهو تناقض واضح يقع فيه الدكتور،  فإذا كان الإسلاميون ضحية مؤامرة “المخزن” كما زعم فإن معنى ذلك أن هذا الأخير قد نجح فعلا وانتصر، ويبقى كلام الدكتور بدون معنى إلا تهدئة النفوس المنفعلة وتخفيض أثر الصدمة التي حلت بمعسكر “الإخوان” في كل مكان.
ومن أطرف ما ورد في مقال الدكتور المرزوقي اعتباره أن النظام المغربي “كان يحكم بأفضل ما لدى الشعب المغربي من أبنائه” وهو يقصد فترة تولي حزب “العدالة والتنمية” للمسؤولية الحكومية، وأضاف “وسيحكم بعد الآن بمن لا يستطيع أن يغطي عنه فساده: الفساد سيصبح سافرا”. وها هنا وقع الدكتور في خطأ مزدوج، الأول أنه اعتبر أن التنظيم الإخواني يتوفر على أطر كُفأة، بينما الواقع كشف عن غير ذلك، إذ لم يكن حزب “العدالة والتنمية” مستعدا لرئاسة الحكومة سنة 2011 بسبب الفقر الكبير الذي كان يعاني منه فيما يخص الأطر ذات الكفاءة العالية، أي رجال الدولة الحقيقيين، والخطأ الثاني أنه اعتبر مهمة الإسلاميين هي التغطية عن فساد النظام، ومعنى هذا أنه يريدهم أن يبقوا في السلطة حتى ولو كانوا يغطون على فساد النظام، باعتبارهم يمثلون “غطاء شعبيا نظيفا” (كذا !)، هذا الفساد الذي يغطون عليه دون أن يستطيعوا إنهاءه وتطهير المؤسسات منه،  فالهدف إذن هو بقاء الإسلاميين في الحكومة وليس التغيير الديمقراطي، وكان على النظام حسب هذا المنطق أن يتركهم ليغطوا على فساده عوض إفشالهم فيصبح فساده مكشوفا بغير غطاء، أيّ منطق هذا ؟ هل نحن حقا أمام مقال لمن يعتبرونه  “فيلسوفا” في تونس ؟ ثم ألم يتحول الإسلاميون وهم في الحكومة إلى مافيا دينية تتكيف مع شروط الفساد العام وتعبث بمصائر الناس وتتكتل داخل الدولة خدمة لمصالحها لا لمصالح الشعب ؟

وطبعا كغيره من “الإخوان” في مشارق الأرض ومغاربها، اعتبر الدكتور كل من خالف الإسلاميين في الرأي أو عارضهم “أدوات للنفوذ الأجنبي عامة والفرنسي خاصة”، مع العلم أن أكبر عملاء الخارج هم “الإخوان” الذين يفضلون خدمة مصالح تركيا  وقطر على خدمة أوطانهم.

تحدث الدكتور عما يسمى في المغرب “وزارات السيادة” وسماها “وزارات التخلي عن السيادة”، ولنكن واقعيين، كيف اشتغل الإسلاميون عندما تولوا وزارة الخارجية وهي من وزارات السيادة في المغرب ؟ ألم يكونوا كارثة على مصالح البلد ؟ تخيلوا معي أن يرهنوا البلد بكامله لمصالح قطب  تركيا ـ قطر، في الوقت الذي كان على المغرب البحث عن شركاء اقتصاديين جدُد والاستفادة أكثر من شراكته مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا والصين، والانفتاح على العمق الإفريقي، والتحرك في كل الاتجاهات للخروج من عنق الزجاجة.

من آيات عدم إلمام الدكتور التونسي بالوضع المغربي حديثه عن “فرض الفرنسية في المغرب مؤخرا” والذي اعتبره “من علامات العودة القوية لدور التدخل الأجنبي في المغرب”. وما لا يعرفه الدكتور هو أن العودة إلى الفرنسية التي يتحدث عنها إنما تتعلق بتدريس العلوم الدقيقة، التي تم تعريبها منذ ثلاثين سنة وأدى ذلك إلى كارثة حقيقية، إذ أن 12 في المائة فقط من طلبة العلوم يختارون البقاء في تخصصهم العلمي بسبب الضعف اللغوي الكبير، لقد أدى تعريب التعليم إلى كارثة لم تعترف بها الدولة لكنها قررت تغيير الاتجاه والسكوت عن أسباب الفشل الذريع.
يتحدث الدكتور عن أن “المؤامرة” التي ذهب الإسلاميون ضحية لها في الانتخابات إنما تعوض تصفيتهم بالسلاح، وهو كلام لا علاقة له بالسياق المغربي، إذ لا يوجد في بلدنا تصفية للإسلاميين بالسلاح، بل الإسلاميون هم الذين صفوا غيرهم بالسلاح كما حدث في تونس أيضا، ما وقع في المغرب هو استيعاب التيار الإخواني (المتلهف على مقاعد السلطة) داخل المؤسسات، ونحن ضدّ أي إقصاء أو استئصال لأي كان من الحياة السياسية، ولكننا لا نسمح أبدا بأن يقوم طرف ما بمعاكسة الاختيار الديمقراطي وتخريب المؤسسات وعرقلة  قوانين ديمقراطية وإفشال انتقالنا السلمي نحو نموذج أفضل، لقد حققنا العديد من المكتسبات بنضالنا ولن نسمح بإجهاضها والعودة إلى الوراء. ولهذا سيكون على الإسلاميين مراجعة مفهومهم للديمقراطية التي يختزلونها في صوت الأغلبية، بينما هي قبل آلية الاقتراع مبادئ وقيم سامية لا يقبلونها لتعارضها مع مشروعهم الديني التيوقراطي.

لن أخوض مع الدكتور المرزوقي في تخريجاته الغريبة حول أفغانستان التي اعتبر ما حدث فيها “أرقى حتى من تحرير القدس على يد صلاح الدين” (كذا!). وحول مستقبل الإرهاب وموقف أمريكا الذي صار حليفا لـ”الإسلام”، وكون “المسلمون هم الوحيدون الذين يمكن أن ينقذوا الغرب من الغول الجديد الذي هو الصين”، وحول أن “الإسلام السياسي هو المستقبل الكوني” وأنه “قادم للعالم كله لإكمال ما بدأه الأجداد” ، وغير ذلك من المغربات والمضحكات، فتفجير البنايات وقتل الأبرياء واغتيال المفكرين والفنانين سيظل إرهابا شنيعا سواء قام به مسلمون أو ارتكبه غيرهم، وسواء رضيت عنه أمريكا أم حاربته حماية لمصالحها، ودور المسلمين استراتيجيا سيظلّ رهينا بتغييرهم لأسلوبهم في التفكير حتى ينتموا للعصر الذي نحن فيه، إذ لن يستطيعوا أبدا لعب دور مع الكبار إذا ظلت كل جهودهم منصبّة على الحنين إلى بعث أمجاد الماضي البعيد، التي لا تعدو أن تكون صورا متخيلة.
أما عن مستقبل الإسلام السياسي فيكفي تذكير الدكتور بالمؤشرات التالية: اندحرت “داعش” و”القاعدة” و”جبهة النصرة” و”بوكو حرام” و”أنصار الشريعة”، وسقط الإخوان في مصر بانقلاب الشارع المصري عليهم قبل انقلاب العسكر، وسقطوا في تونس لعدة مرات بحراك الشارع قبل أن يتدخل الرئيس الحالي نفسه لإنهاء “بلوكاج” الدولة بسبب الخلافات التي تعصف بمصالح المواطنين، وسقطوا في المغرب بفشلهم الذريغ في السياسة قبل السقوط  الانتخابي، وعصفت بهم ثورة شعبية عارمة في السودان بعد 30 سنة من الاضطهاد والقهر ولحقهم الخزي والعار حتى داخل السجون، وانقلبت السعودية من الوهابية إلى الانفتاح وعجز الإسلاميون عن الاستيلاء على الدولة في ليبيا رغم العنف والميليشيات المسلحة من كل نوع، هل هذه علامات تدل على وجود مستقبل زاهر ينتظر الإسلام السياسي ؟ إنها بداية النهاية يا رجل. وإنني أستغرب لمن قام بترجمة فينومينولوجيا هوسرل أن يصدُر عنه مثل هذا الهذيان.

نقول للدكتور إن ما تريدونه هو الاستيلاء على الدولة وإلى الأبد، لأنكم لا تؤمنون بالتداول على السلطة،  تريدون بناء “الخلافة” و”تطبيق الشريعة” وتعتبرون ذلك نهاية التاريخ، وهي أهداف وهمية لن تنصف الشعوب المظلومة ولن تبني حضارة، ولهذا لم نستغرب أن تجدوا في “طالبان”  نموذجا رائعا وانتصارا للإسلام.
إن السبب الحقيقي لفشل الإسلاميين في السياسة هو هذا النهج غير الواقعي والغريب عن قيم عصرنا، ولهذا تلفظهم مؤسسات الدولة كما يلفظ الجسم الفيروس الغريب، ويتكتل الكل ضدّهم لأنهم يظلون جزيرة معزولة بدون حلفاء حقيقيين. وهم بجانب ذلك يساهمون في تأخير الحل الديمقراطي بسبب خوف النخب منهم ومن مشروعهم.
في انتظار “النهضة المباركة” القادمة من أفغانستان مع “انتصار الإسلام”، الذي ينتظر الدكتور “الفيلسوف” بركاته في تونس، أتمنى للشعب التونسي الشقيق  مستقبلا أفضل من هذا الكابوس.

خاتمة:
تعلمون أن من قواعد الفقه الإسلامي “العمل بأخف الضررين” وليسمح لي الدكتور المرزوقي أن أستعير هذه القاعدة وإن لم أكن أبدا أعتمد فقهيات العصور الوسطى مرجعية لي في الفكر والعمل، فإذا جاز للمغاربة أن يختاروا بين كوليرا “المخزن” وطاعون “الإخوان” (حتى لا يجتمعا معا كما حدث في السنوات العشر الأخيرة) جاز لهم اختيار الكوليرا لأنها أقل فتكا، وهذا ما فعلوه في الانتخابات الأخيرة، في غياب القوة الشعبية القادرة على تغيير موازين القوى لصالح التغيير الديمقراطي المأمول.


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading