“إسلام فرنسا”: جذور المفهوم وأبعاده
أزول بريس – الحسين بويعقوبي
في غضون وقت قصير وقعت ثلاثة أحداث بفرنسا كانت لها كلها علاقة بالإسلام. يتعلق الأمر بعودة الرهينة الفرنسية من مالي بعد أربع سنوات من الاعتقال حيث اعتنقت الاسلام وغيرت اسمها إلى مريم وكان الرئيس الفرنسي في استقبالها أثناء عودتها لباريس.
أما الحدث الثاني فيتعلق بالجريمة التي اقترفها إرهابي من الشيشان في حق أستاذ بضواحي باريس حيث قام بذبحه من الوريد إلى الوريد، احتجاجا منه على عرض الأستاذ لصور مجلة شارلي ايبدو المثيرة للجدل عن الرسول.
أما الحدث الثالث فهو خطاب الرئيس ماكرون عن الإسلام ووصفه هذا الدين بكونه يعيش أزمة في كل مكان وأن مسلمي فرنسا يسعون لنوع من “الإنعزالية” المضادة لقيم الجمهورية، مما يستلزم اتخاد اجراءات للحد من هذا التوجه والتأسيس لما يعرف ب “إسلام فرنسا”.
وقد يضاف لهذه الأحداث الهجوم الذي تعرضت له فتياة محجبات من طرف فرنسيتين، قرب برج ايفل حيث هاجمتهما بعبارات عنصرية وطعنتهما بسكين، نتجت عنه جروح خطيرة.
لقد جعلت هذه الأحداث الإسلام يطفوا من جديد على سطح النقاش في بلد الأنوار، وبدأت الإحتجاجات على أقوال الرئيس الفرنسي خاصة في مواقع التواصل الإجتماعي وتجاوزت تداعيات هذا النقاش فرنسا لتلقي بظلالها على البلدان الإسلامية، بل ووصلت تداعيات هذا الموضوع إلى العلاقات الدولية في مجال السياسة والإقتصاد، بعد التصريحات المضادة التي عبر عنها الرئيس التركي أردوكان وظهور دعوات في مختلف بلدان العالم حيث يتواجد المسلمين لمقاطعة البضائع الفرنسية.
لقد أدى خطاب الرئيس الفرنسي بخصوص الإسلام إلى تحوير النقاش وتحويله من التنديد بجريمة قتل الأستاذ الفرنسي من طرف طالبه المسلم إلى التنديد بخطاب الرئيس الفرنسي ثم انتقل الموضوع إلى حملة شعبية دفاعا عن رسول الإسلام.
وبذلك تم تهريب النقاش عن موضوعه الأصلي وهو وجود خطاب متشدد تتبناه تيارات معينة وينبني على قراءة معينة للإسلام يشرعن الإرهاب والقتل، ويعتبر ذلك من صميم الإسلام.
أكيد أن كل مسلمي فرنسا لا يتبنون هذا التوجه وأغلبيتهم يمارسون شعائرهم الدينية في تناغم مع القيم والقوانين الفرنسية، لكن التيار المتشدد بدوره يستغل الحريات المضمونة في فرنسا وقوانين الجمهورية لإنتاج خطاب معاد للدولة الفرنسية يتم نشره إما في المساجد أو الجمعيات أو اللقاءات الداخلية.
وهو خطاب يعزز الولاء لانتماء آخر واقعي أو متخيل. وهذا الخطاب هو ما يقوي بالفعل “التوجه الإنعزالي” حيث تتأسس جماعة من الفرنسيين، مسلمي الديانة، تنحوا نحو التقوقع، وقد يصل بهم الأمر إلى منع أبنائهم حتى من تهنئة زملائهم في الدراسة بمناسبة رأس السنة الميلادية، رغم أنهم يتلقون بصدر رحب التهاني بمناسبة الأعياد الإسلامية.
لقد اعتقدت فرنسا بسنها لقانون 1905 أنها تخلصت من المشاكل الصادرة عن الدين، بعد قرون من الصراعات واستفاذت من فكر الأنوار والثورة العلمية والصناعية، لتأخد مسافة من كل الأديان واعتبرتها شأنا خاصا، لكن في نفس الوقت لم تكن تتوانى بعض الأطراف في الجمهورية الكولونيالية في وصف فرنسا ب”أكبر دولة إسلامية” حين احتلت معظم الدول الإسلامية ما بين 1830 و 1956، وكانت تتباهى بذلك أمام باقي القوى الإستعمارية.
ويعتبر بناء مسجد باريس في النصف الأول من القرن العشرين خير دليل على ذلك، ثم تلته مساجد أخرى في مختلف مناطق فرنسا خاصة بعد تضاعف عدد المهاجرين المسلمين خاصة من شمال إفريقيا وتخليهم عن فكرة العودة ثم التحاق النساء بالأزواج في إطار “التجميع العائلي” ابتداء من الثمانينات من القرن الماضي وحصولهم على الجنسية الفرنسية ثم ميلاد جيل جديد فوق التراب الفرنسي.
لم يعد الحديث إذن عن المهاجرين المسلمين بل عن الفرنسيين ذوي الديانة الإسلامية. وأمام تراجع الديانة المسيحية في صفوف الفرنسيين إزداد عدد الفرنسيين المسلمين وأصبح نقاش الإسلام نقاشا داخليا بين مواطنين فرنسيين ودولتهم، مع حضور واضح لبعض البلدان الإسلامية خاصة المغرب والجزائر وسعيها لتأطير مسلمي فرنسا باعتبارهم لازالوا متشبتين بأصولهم وأغلبهم لازال محافظا على جنسية بلده الأصلي.
ومع ظهور خطاب الإسلام السياسي بعد الثورة الإيرانية لسنة 1979 ثم ظهور البيترودولار وصعود الخطاب السلفي والإخواني والوهابي المستفيذ من العولمة وتقنيات التواصل الحديثة، أصبح ولاء مسلمي فرنسا مقسم بين عدة دول، ويظهر ذلك سواء في الصراعات التي تظهر بين المساجد ومن سيسيطر عليها (المغاربة أم الجزائريين مثلا) أو الخلافات التي تظهر أثناء تحديد يوم بداية صيام شهر رمضان أو تاريخ الأعياد الدينية، فتحتفل بعض الأحياء يوم الخميس والأحياء الأخرى يوم الجمعة، وقد يصل الخلاف إلى داخل الأسر المختلطة (مغربي/جزائري) تبعا للبلد الأصلي للزوج والزوجة.
لتدبير هذا الوضع ظهرت الرغبة في التأسيس ل”إسلام فرنسا”، الذي سيحمل طباع هذا البلد، كما تطبع الإسلام بخصوصيات باقي البلدان التي وصلها سابقا (المغرب، باكستان، أندونسيا…) ولذلك نتحدث عن “الإسلام المغربي أو الباكيستاني أو الأندونيسي…”.
وفي هذا السياق تم تأسيس “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية” في عهد الرئيس ساركوزي على غرار “المجلس الفرنسي للديانة اليهودية” وظهرت هيآت مدنية لا تخلوا بدورها من الصراعات تسعى للحديت باسم مسلمي فرنسا و هنا بدأت رغبة الجمهورية الفرنسية في تدبير “حقلها الديني” خاصة الإسلام الذي يعتنقه أكثر من خمسة ملايين فرنسي.
وقد كلف المؤرخ دانييل ريفي، المتخصص في المغرب، في بداية سنوات 2000 لوضع خطة لهذا الموضوع خاصة فيما يخص تكوين الأئمة بفرنسا في أفق الإستغناء عن الأئمة القادمين من الخارج.
فخطاب ماكرون عن الإسلام لا يخرج عن هذا الإطار وهذا “الهم الرسمي” الذي يحمله الرؤساء الفرنسيون منذ مدة.
لكن حساسية الموضوع واستثماره في استراتيجيات أخرى، خاصة انتخابية، جعلته ينطفىء في بعض الأحيان لكنه يعود فجأة للواجهة قبيل كل انتخابات في شكل “هيجان” و ردود أفعال سرعان ما تنطفىء حين تؤتي أكلها السياسي.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.