- فراس حج محمد| فلسطين//
مع بدء انطلاق الموسم الحادي عشر من برنامج أمير الشعراء لعام 2024، وتأهل ست شاعرات في قائمة العشرين شاعراً، وهن: سرى علوش وأسماء الحمادي وسمية دويفي ونجوى عبيدات وعلا خضارو ومي عيسى رومية، أعيد النظر في البرنامج وأثره، وأذكر جمهور الشعر بالشاعرة العمانية عائشة السيفي وملابسات تنصيبها أميرة للشعراء في ذلك الموسم.
في كل موسم من مواسم برنامج “أمير الشعراء”، وخاصة منذ الموسم الذي شاركت فيه الشاعرة السودانية روضة الحاج والمهتمون يسألون هذا السؤال: هل يا ترى ستذهب بردة الإمارة هذا العام إلى شاعرة لتضيف تاء التأنيث على اللقب؟ لقد مر في البرنامج كثير من الشاعرات الممتازات شعرا وأسلوبا وقضايا، ليس روضة الحاج فقط، على الرغم من أنها أكثر اسم رسخ في المفكرة الشعرية المعاصرة من الشاعرات اللواتي شاركن في البرنامج.
في الحقيقة قد لا يعود هذا الفضل إلى برنامج أمير الشعراء وحده، ثمة أسباب أخرى ساعدت على هذا الاستقرار الشعري في متداول الشعراء والنقاد والمتذوقين، منها ما يعود إلى طبيعة شخصيتها الجذابة، والمَهابة التي كانت تملأ العين على المسرح، وإلقاء محايد جدا بعيد عن الأنثوية، معززا ذلك بنصوص شعرية فرضت نفسها على المتلقين والنقاد والصحافة المكتوبة، فشبت عن طوق البرنامج لتجد طريقها إلى الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية والمناهج الدراسية، عدا تعيينها وزيرة للثقافة في أواخر حكم عمر حسن البشير قبل الإطاحة بحكومته ووزرائه قاطبة، وقد جرّ عليها هذا الأمر شيئا من الانتقاد وإن لم يكن حاداً، فلم تكن الوحيدة التي تورطت بهذه الورطة في عز الثورة ضد النظام الحاكم، فقد سبقها الناقد المصري جابر عصفور في هذا أيضا، وطالته سهام النقد كذلك عندما عُين وزير ثقافة أيام ثورة 25 يناير المصرية.
على أية حال، ليست هذه القضية، إنما البحث في ظاهرة الشاعرات، استكمالا لما كنت قد ناقشته عن شاعرية المرأة في كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية”، وكيف يمكن لهنّ أن يحجزن مكانهنّ المميز بين الشعراء. إذ إنّ كل تلك الأسباب التي أوردتها في الفقرة السابقة تشترك فيها الشاعرة المُجيدة مع الشاعر المُجيد، ليصبح الأمر لا فرق بين شاعرة وشاعر، إنما هو الشعر، وهل استطاع موجده أن يحدث رجّة في الساحة الثقافية أو هزة في الوعي الجمعي؟ وعليه، فإن كان الأمر بهذه البساطة لماذا يبحث المهتمون عن أميرة للشعراء؟
ثمة شيء غير مفهوم وغير مدرك تماماً عند البحث في هذه المسألة، فالبعض يستند إلى أفكار نسوية، وبعضهم يركن إلى تهمة “الذكورية”، وفي الناحيتين لا شيء قاطع أو نهائيّ، وعلى الرغم من أن الفوز بالمسابقات في الحالات الطبيعية جدا يستند إلى الحظ وذائقة لجنة التحكيم واعتباراتها، وانحيازات الجمهور في حالة برنامج أمير الشعراء وغيره من البرامج ذات الاهتمام الجماهيري، وهذا ما أكده الفائز بجائزة البوكر للرواية العربية لعام 2023 زهران القاسمي في أحد حواراته بقوله: “وهنا أتفق مع الروائي محمد الأشعري، رئيس لجنة تحكيم الجائزة لهذا العام بأنه لو تغيّرت تركيبة لجنة التحكيم، لجاءت اللجنة الجديدة بست عشرة رواية قد تكون مختلفة كليّاً أو جزئياً عن تركيبة القائمة الطويلة للجائزة، وهو ما ينطبق على تركيبة القائمة القصيرة، وحتى الرواية الفائزة، ما يعني أن رؤى وأذواق وثقافات أعضاء لجنة التحكيم المُوكل إليها النظر في الأعمال المُرشحة للجائزة تلعب دوراً مهمّاً في هذا الجانب”، وما يصدق على جوائز الرواية يصدق على جوائز الشعر سواء بسواء.
هذه واحدة، وأما الثانية، فإن الأمر ليس بعيدا عن أنه مقدّر، ومعروف سلفاً في الجوائز العربية، فليس مستبعدا أن تكون لجنة التحكيم، وبناء على توجيهات عليا قد اختارت الأمير قبل أن يبدأ ماراثون السباق المشهدي، وكأن الأمر لا يعدو كونه مسرحية وممثلين، واستمتاع جمهور ليس أكثر، بشكل شخصي أميل إلى هذا الاعتبار بناء على أحداث مشابهة في مسابقات أخرى وجوائز أخرى، ومنها ما هو علني كاختيار هدى بركات لتفوز بجائزة البوكر عام 2019، ومنها ما هو متداول على نطاق ضيق جدا بين المعارف والدوائر المغلقة الثقافية، ويشترك بهذا أيضا اختيار الفائز بجوائز الدولة كما حدث عندنا في فلسطين في دورة سابقة.
إذاً لا جائزة نزيهة في العالم العربي، والفائز- كما المتقدم للوظيفة- ينام ملء جفونه عن شواردها، ويضع يديه ورجليه في ماء بارد، فهو الفائز لا محالة. فهل تعتقدون أن هذا حكم اعتباطي وساذج وغير مبني على حقائق؟ ربما تحلى أحدهم بالشجاعة في المستقبل ليكشف كثيرا مما يعدّ الآن رجما بالغيب عند من يحاولون التعامل مع هذه القضايا بحسن نية.
كل ما سبق أيضا يؤشر إلى أن منح الجائزة للمعنيّ تدعمه أشياء أخرى، ليست أدبية بالدرجة الأولى، لأن اعتبار “الأدبيّة/ الشعريّة” محسوم تلقائيا، فكل من يتقدم لهذه الجوائز وهذه المسابقات هو ثابت في عالم الأدب والكتابة، ولا أحد يشك بمقدرته أو مقدرتها، فهم جميعا سواسية في هذا الجانب، وأيضا يسقط عند هذا الحد الاعتبار الجنسي للكاتب، فليس لأحدهم فضل على إحداهنّ إلا بالنية المسبقة المبيتة التي أضمرتها اللجان، وأخذت تبحث عن مبرراتها المنطقية لمنح الجائزة لأحدهم أو لإحداهن، وأياً كان صاحب الحظ السعيد التي رضيت عنه تلك الجهات، ستجد له اللجنة في بيانها الختامي مبررات فنية تسوقها للجمهور والصحافة.
وبعد هذه المحددات وبيان هذه الخلفيات، سأحاول أن أبين هذه العلاقة التي رآها كثيرون ملتبسة بين الشاعرة وإمارة الشعر، ولكن قبل ذلك يجب أن أوضح أمرا مهماً متصلا بفكرة الإمارة بحد ذاتها.
يؤسس الفكر العربي والعقلية العربية قبل الإسلام وبعده لفكرة التوحيد في كل شيء، ليس في الخالق وحسب، فثمة من هو أشعر العرب، وكما أنه يوجد أغزل بيت، وأمدح بيت، وأهجى بيت، وما إلى ذلك من أفعل التفضيل التي انسحبت على القرآن الكريم وسوره وآياته، بل إلى أيام العرب وشهورها، إذاً، فالمسألة نسق ثقافي عام ومستقر في الثقافة العربية التي تطمئن إلى الواحدية التوحيدية وتنفر من التعدد إلا في “النساء”! واستمر ذلك في كل عصور العرب، وصاحب ثقافتهم، فوجد ألقاب من أمثال: أمير البيان، وشاعر السيف والقلم، وشاعر القطرين، وشاعر الأمة، وشاعر الشعب، وشاعر القضية، كما وجد فقيه الأمة وحبر الأمة وشيخ الإسلام، وغير ذلك كثير. لذلك؛ فمن الطبيعي أن يوجد لقب أمير الشعراء الذي تحلّى به الشاعر أحمد شوقي عام 1927، بتتويج الوسط الثقافي له، أو أغلبه لأكون أكثر دقة، لأن ثمة من عارض فكرة أن يكون هناك أمير للشعراء، فلا معنى له بين فوج من الشعراء الكبار، فجيل شوقي يغصّ بالشعراء العظماء وكلهم يستحق أن يكون أميراً، فلماذا يُخص شوقي من بينهم بالإمارة؟ لقد كانت سقطة ثقافية لكنها متسقة مع ذلك النسق الذي اعتادت عليه الثقافة العربية، وهذا لا يعني التشكيك بشاعرية شوقي وإنجازاته الشعرية العظيمة.
لقد انقطع تتويج الشعراء بعد شوقي بالإمارة، إلا أن النسق ما زال يفعل فعله في رؤوس المثقفين فأوجدوا بعد وفاته أميرا أو فكروا بأمير آخر إلا أن اللقب لم يستقر لواحد بعد شوقي، وأظنه لن يستقر لأحد بعده، فهو أمير الشعراء، بهذا الإطلاق العابر للحدود والتاريخ، لا ينازعه فيه أحد، وإن أطلق على شعراء متعددين في مواسم شعرية تلفزيونية تخضع لمنطق المسابقات السقيم بطبيعة الحال، لذلك بدت لي مسابقة أمير الشعراء الإماراتية في السنوات الأخيرة تظاهرة أشبه بالمهزلة تهين الشعر والشعراء وليس العكس كما يسوقه القائمون على البرنامج.
لكل ما تقدم وذكرته، وعلى الرغم من أنني كنت من أشد المعجبين بالبرنامج وكتبت فيه كثيرا، وتابعته، إلا أن ثمة وعيا جديدا أخذ يتبلور في السنوات الأخيرة حول فكرة إخضاع الشعراء إلى منطق الامتحان، ليثبتوا شاعريتهم، أية مهزلة هذه؟ فالشاعر الذي يحترم نفسه لا يقبل أن يقع في هذا الفخ الساذج، فقد تحوّل الشعراء إلى مجرد مشاركين يكتبون الشعر، وثمة لجنة لا شعراء فيها، سواء لجنة التحكيم أو اللجنة الاستشارية العاملة خلف الكواليس، أو على الأقل لا شعراء مبرزين فيها، وعليها- خاصة لجنة التحكيم- ما عليها من ملحوظات نقدية بنيوية، فخلوّ هذه اللجنة من شاعر مشهود له بالتفوق الإبداعي جعل الأحكام النقدية يصوغها ويتحكم بها العقل النقدي الأكاديمي الصرف، ولا يشاركه العقل الإبداعي الذي ستكون أحكامه مختلفة عن الحكم النقدي الأكاديمي؛ لأنها قادمة من منطقة الحسّ الشعري لشاعر يفهم الشعر وصنعته، ومداخل القول ومخارجه والتصرف فيه، كما كان يظهر مثلا في أحكام الشاعر حمد السعيد الشاعر الكويتي عضو لجنة تحكيم شاعر المليون، فكانت أحكامه إبداعية، وبهذا تكاملت الآراء بين العقل النقدي الأكاديمي والعقل الإبداعي الشعري، ويؤكد أهمية ذلك مسيرة شعراء العربية والأحكام النقدية التي كان يتولاها الشعراء قبل أن تصبح العملية النقدية خاضعة لمواضعات أكاديمية علمية أفسدت الشعر ومزاج الشعراء، لأن هذه العقلية لا تستطيع فهم سيكولوجية الإبداع لدى الشاعر، وتقيس الشعر قياسا عقليا محضاً، وإن امتلكت ذائقة فنية مدربة وواعية إلا أنها ذائقة محددة بالشروط الأكاديمية العلمية التي تعقلن الشعر وتخرجه عن منطقه وتحصره في القوالب المنطقية التي يفرضها المنهج الأكاديمي النقدي، وهذه الكيفية من التعامل يرفضها الشاعر الكبير أو من كانت طموحاته الشعرية أن يكون شاعرا كبيراً.
هذا التوصيف بهذه الكيفية لا يعني أن اللجنة النقدية لا تحسن التفريق بين الحسي والذهني، فمثل هذا قدمه أعضاء اللجنة في توصيف تلك القصائد المغرقة في الذهنية، هذا أمر يلاحظه الناقد ويستطيع التعرف عليه، بناء على النص وأفكاره ومفرداته وصياغاته الجزئية والكلية، وهو مختلف عن “البعد الحسي الحدسي” الغائب عن أعضاء لجنة التحكيم، هذا البعد الذي يتمتع به الشاعر لطبيعته الإبداعية وسيكولوجيته غير المؤطرة بإطار القوالب النقدية الجاهزة، بحيث يشعر بالمعنى وينفعل به، فيسلم له، لكنه لا يستطيع تبريره أو حصره في قواعد منطقية.
هذان سببان كافيان لتجريد الشاعر من مهابته، فبدلا من أن يعطى الشاعر إحساسا بالقداسة والتقدير يخضعونه إلى اختبارات الأداء، والكتابة ضمن زمن محدد وعدد أبيات محدد وبحر معين وقافية معينة، فأفسدوا المزاج الشعري لدى الشعراء، وقضوا على روح التحليق والحرية والتمرد التي يتمتع بها الشاعر دائماً، فيتعاملون معه تعامل المعلم مع تلميذ في صف دراسي ثانوي على أحسن تقدير، فيأتي المعلم ليصحح له ما كتبه هذا التلميذ/ الشاعر من “مواضيع إنشائية” ويضع له العلامة المستحقة. إن هذا التعامل فيه الكثير من الظلم للشعراء، لأن الشاعر يقدم رؤياه وأسلوبه، واللجنة بطبيعتها- بالإضافة لما سبق- مفتقرة لتكون حكما موثوقا إلى هذه الدرجة إلا أن يكون أعضاؤها معلمين في صف دراسي ليس أكثر من ذلك، لا سيما بعد أن وقعت في أخطاء، يعدّ صوابها من بدهيات اللغة، ليس في هذا الموسم وحسب، وإنما لكل موسم سقطاته التي لا تغتفر، كما بينت ذلك في دراسة مستفيضة للموسم الثالث من البرنامج، ونشرتها في كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية، أمير الشعراء والسقطات النقدية- قراءة في الموسم الثالث، ص 470”.
أعتقد أن على الشعراء والشاعرات أن يقدّروا أنفسهم، إن لم يجدوا من يقدرهم حق قدرهم، ألم يقولوا: “ما المرء إلا حيث يضع نفسه”، فليضع كل واحد نفسه حيث يجب أن تكون، فهل الشعراء المشاركون كانوا بمثل هذا الإحساس بالدونية ليقبلوا السير على هذا المنوال من التسطيح والتفريغ من القيمة والاستهانة بالشعر؟
وبعد هذا كله، أصل إلى أميرة الشعراء لعام (2023) الشاعرة العمانية عائشة السيفي، فهي شاعرة لا شك في ذلك، وقد أعجبني وأعجب غيري شعرُها، وهي شاعرة ذات إصدارات متعددة، وشاعرة معروفة، شاركت في أمسيات ولقاءات شعرية، واستضافها إعلاميون بارعون، وشاعرة تمتلك نفسا متحدية، وروحاً ثوريّة، وتمرّدا محموداً، إضافة إلى حضورها الآسر على المسرح وإلقائها المميز، وخروجها من أفخاخ اللجنة سالمة غانمة، وكانت صاحبة قضية واضحة وأسلوبٍ مغايرٍ، لم يشاركها فيه أحد من الشعراء الذين كانوا معها في هذا الموسم، مازجة القديم بالحديث، ولم تتخل عن شخصيتها في شعرها، فهي بالتالي تستحق لقب شاعرة أولا وأخيرا، بعيدا عن كونها أميرة للشعراء. إذ ليس أمرا مهولا أن تكون أميرا للشعراء بعد خوض مسابقة فيها عشرون شاعراً، لكنه أمر مهم جدا أن يُنظر إلى البرنامج على أنه نوع من التكريم لأشخاص أتقنوا كتابة الشعر، وليس للمعدودين في الشعراء، ليس أكثر، بعيدا عن الألقاب الكبرى، وإن كنت أرى أن المشاركة فيه- كما أسلفت وبالكيفية التي تتم فيها- أمر لا يناسب شخصية الشاعر الحقيقي الذي يعيش حالة الشاعر الحقيقية، كما تُفهم من سيرة حياة الشعراء الكبار وشعرهم.
وبعيدا أيضا عما أعقبه فوز الشاعرة السيفي من حالة من التندر على ما قالته من شعر، في الحلقة الأخيرة، وقد رأيته كله لا قيمة له في ميزان النقد إطلاقا، سواء في ذلك الذين كتبوا منشورات قصيرة أو فيديوهات أو مقالات ادعوا فيها العلم والمعرفة والتحليل اللغوي والبلاغي، لقد صدم كل هؤلاء خروج عائشة السيفي عن النسق الثقافي الذي ترعرعوا فيه، سواء في العبارات أو في القصائد أو في صناعة الاستعارات والمجازات الشعرية، أضف إلى تحطيمها لقب التذكير؛ فكل الألقاب التي أوردتها أعلاه كانت لكتاب وشعراء ومشاهير من الرجال، ولم يكن للمرأة نصيب منها. هذا النسق المهيمن جعلني أستبعد أول أن تابعت البرنامج أن تكون أي شاعرة أميرة للشعراء بعد خروج الشاعر الليبي عبد السلام أبو حجر، علما أن هناك ستّ شاعرات غير السيفي شاركن في هذا الموسم، فكتبت في حينه على صفحتي في الفيسبوك (4/1/2023): “عشرون شاعراً منهم سبع شاعرات، لكن لا أميرة للشعر على المدى المنظور. لماذا؟” وحاولت الإجابة في المنشور ذاته: “الأسباب كثيرة، ليس للذكورية نصيب كبير، إنما قد تكون فنية شعرية، وضعف العنصر النسوي في لجنة التحكيم”.
في العمق كنت أرى إمكانية حصول إحداهن على اللقب، ولكن بسبب خضوعنا للنسق الثقافي المتحكم بالعقل والذائقة استبعدت ذلك، كما أنني لم أكن قد انتبهت لشعر عائشة السيفي ولم أسمعها حتى ذلك التاريخ، حتى لو سمعتها لو أكن لأغامر وأتوقع في البدايات ذلك، فقد مرّ شبيهة لها، ولم تفز، وهي الشاعرة روضة الحاج، مع العلم أنني كتبت في واحدة من قصائدها التي ألقتها في البرنامج دراسة وافية، ونشرت القصيدة والدارسة في كتاب “الكتابة في الوجه والمواجهة، ص 177″، بصفتها شاعرة وقفت ضد الاضطهاد، وناضلت من أجل التخلص من الهيمنة الاجتماعية عليها وعلى شعرها، كما أنني كنت أحتفل بنصها عقب كل حلقة تشارك فيها السيفي، فأشير إليها وإلى النص على صفحتيّ في الفيسبوك، وفي منصة (X)، توتير سابقاً.
ثمة أمر قد تغير إذاً، أو أرادت لجنة التحكيم تغييره، فعملت على أن تكسر النسق الثقافي المستقر في جانب منه، وكانت عائشة وسيلتها لذلك، من خلال شعرها المختلف ولغتها الحداثية وشعريتها المؤسسة على التمرد أصلاً، وما عانته من اضطهاد أسري وقَبَلي ومجتمعي بسبب الشعر أيضا، فلعل لجنة التحكيم وجدت فيها مثالا بارعا لتحقيق هذا الغرض، لأن شعريتها لا غبار عليها، مثلها في ذلك مثل الشعراء المشاركين جميعاً سواء بسواء، فجاءت الحلقة الأخيرة يوم الثامن من آذار، اليوم العالمي للمرأة، فكان من المناسب أن تضاف تاء التأنيث إلى اللقب لأول مرة منذ انطلاق البرنامج في نسخته الأولى عام 2007، وفي ذلك تكريم للمرأة بشكل عام متجسدا في شخص عائشة السيفي.
هل كان ذلك مجرد صدفة بعيدا عن هندسته من القائمين على البرنامج ليمرروا ذلك من خلال لجنة التحكيم التي بدورها حققته من خلال هذه الشاعرة العُمانية؟ كأنهم جميعا قد تحولوا إلى أدوات لتحقيق هذا الهدف، مع أنه هدف نبيل، إلا أنه يجب ألا يُنسى أنه لا صدفة في الأمر، ولا هو الوصول الطبيعي من خلال التنافس الحيادي، ولا هي علامات لجنة التحكيم، ولا التصويت الجماهيري، إنما مقدر أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، ومعروف سلفاً، كما سبق وذكرت، ويعزز من هذه الإمكانية في الترتيب الممنهج، أنّ لجنة التحكيم ولأول مرة أيضا يكون من بين أعضائها إلى جانب العضوين الآخرين أستاذة النقد الدكتورة أماني فؤاد، وقد خرجت من اللجنة في الموسم الحادي عشر (2024)، ليحل محلها الدكتور وهب رومية، أستاذ الأدب العربي القديم. إذاً، فالمسألة حبكت بشكل يبدو محكما على النحو الآتي: سبع مشاركات من بين العشرين، وهي نسبة عالية في الاحتمالات الإحصائية لتكون إحداهن الفائزة، واشتراك ناقدة في التحكيم، واليوم يوم المرأة العالمي، لتكون النتيجة كما خرجت تتويج شاعرة أميرة للشعراء.
إنه لأمر مؤلم ألّا يذكر الجمهور الغاضب المصاب في فحولته التاريخية للشاعرة السيفي بعد إعلان النتيجة، إلا ذلك القط الذي يطير برجلين، وذلك البحر الذي يجلس القرفصاء، وتلك اليد التي تفرك الغيم، وكيف أنها زوجة للتراب، وينسون- تبعا لخضوعهم إلى ذلك النسق الثقافي الذي تجاوزته اللجنة والقائمون عليها- جماليات شعرها في قصائدها الأخرى. وهذه القصيدة كذلك التي تحكمها عملية إبداعية غاية في الجمال والتماسك والشعرية، فكيف سيكون للشعراء أميرة؟ هي هذه العقلية ذاتها التي ترفض للمرأة أن تكون رئيسا في العمل، أو قيادية في الحكم والسياسة والأحزاب، فوجدوا في استعاراتها السريالية مجالا خصبا للتنمر والنيل منها ومن إبداعاتها، إنه القصور الفاضح في التعامل مع شاعرة لها وزنها قبل البرنامج وبعده، ولا أظن أن البرنامج منحها شرعية الولادة أو التمكين والتمكّن أو التكريس الإبداعي في الساحة الثقافية العربية.
ولكن يبقى السؤال: إلى متى ستعيش عائشة السيفي بعيدة عن القط والبحر واليد، في ضمائر الناس وعقولهم ويستحضرون تجربتها الشعرية والإنسانية بوصفها أميرة للشعراء، أم أنها ستنسى شاعرة ومبدعة كأنها لم تكن، كما نُسي شعراء تحلوا بالإمارة في المواسم التسعة السابقة، ليبقى أحمد شوقي هو الأمير بلا منازع؟ أم أن هؤلاء “الأمراء الموسميين” سينتهون بانتهاء الحدث الأخير ونشوته الإعلامية التي ربما استمرت شهورا على أكثر تقدير، لتتجدد النشوة مع أمير جديد في كل عام جديد، ولن يبقى منهم أو منهنّ إلا ما هو شاعر أو شاعرة، يمتلك مشروعه الشعري الذي يعمل عليه بتؤدة وإصرار ووعي نقدي وإبداعي، بعيدا أيضا عن لقب الإمارة وبردتها وخاتمها، فأن تكون شاعراً ليس هو أن تحسن كتابة الشعر بتلك المحددات المدرسية الساذجة، وإلقائه تحت الأضواء في مسرح مهيب وحسب، إنما الشاعر هو من يعيش الشعر حالة دائمة، تقلّبه في أحواله كلها، فيعيشه قائما وقاعدا وعلى جنبه، كأنه في تهجّد دائم، واستمتاع، وتلقٍ لغيب الوحي الذي يمنحه الفيض الإلهي، ليصنع عالماً من الأغنيات والأفكار باللغة الخاصة والميسم المميّز، مجللا كل ذلك بالدهشة التي لا تفتر ولا تنضب، ولا يخفت بريقها مع الأيام، فالشاعر الحقيقي هو من صنعته التجربة الشعرية بنصوص شعرية تعيش أمداً طويلا؛ لا نفادية لمعانيها، تحفر بصمتها في الوجدان الجمعي، فيرى الناس فيها أحوالهم ومعبرة عن أمنياتهم وتطلعاتهم ومكنون نفوسهم وما يعجزون عن التعبير عنه، كما هي الحال مع شكسبير والمتنبي وأحمد شوقي على سبيل المثال.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.