يشرفني أن أَمْثلَ بين يديكم اليوم، متابعة لفعاليات الدورة الحادية عشرة للمعرض الجهوي للكتاب والقراءة، الذي تزهو باحتضانه مدينتنا التاريخية الغالية، حاضرة العلم والثقافة، مدينة تارودانت، وذلك محاولة منّي لإجمالِ الحديث في عُجالة، حسبما يسمح به الوقت المتاح، حول كتاب من أهمّ البحوث التي تتناول الثقافة الحسانية اليوم، وهو كتاب “نُفاضة الذاكرة الشعبية الحسانية: أضواء على قيم المجتمع الصحراوي من خلال الأمثال الحسانية” للباحثين بوزيد الغلى وعمر الغلى.
هذا الكتاب القيّم جاء اختياره نظرا لأهميته في الربط بين شقّ الهويّة الصحراوية، باعتبارها موروثا شفهيا متداولا، وبين شقّ هذه الهوية ذاتها، باعتبارها مجموعة من القيم المتعارف عليها بين أفراد المجتمع الصحراوي، في أطوارٍ تاريخية مختلفة.
والنفاضة، تعني ما يقع من الشيء، أو ما ينفض من بقية الزاد، وهي إشارة ضمنية من المؤلفين على غنى وثراء الذاكرة الشعبية الحسانية، وما نحن هنا إلا أمام النز اليسير.
يتكوّن كتاب “نُفاضة الذاكرة الشعبية الحسانية: أضواء على قيم المجتمع الصحراوي من خلال الأمثال الحسانية” من قسمين بالأساس، مسبوقَيْن بمقدّمة ومدخل، ومنتهيَيْن بخاتمة، يمتدّ موضوعُه في ما يناهز مائة وأربعين صفحة، وذلك على الشكل الآتي:
– المقدمة:
تناول الباحثان فيها مفهومَ التراث بشقّيه المادي و اللامادي، ودورَه في في تكوين الهوية الثقافية للمجتمع، مشبِّهَيْن إياهُ بالخريطة الوراثية للهوية، وعرّجا على تنوّع الحسّانية وثرائها بروافدِها الصنهاجية والإفريقية، وبسَطا الغاية من الكتاب وهي: دور المثل الشعبي الحساني في ترسيخ القيم التربوية، والمساهمة في تحقيق الوصل بين الإنسان الصحراوي وتراثه المتنوع لضمان الخصوصية الثقافية.
– المدخل:
عمِل فيه الباحثان على تحديد المفاهيم الرئيسة للعنوان، وهي القيم والأمثال، واتّخذا منهجا في التعريف بالمفاهيم يبدأ من اللغة، بشواهدها القرآنية والتراثية، وينتهي بالاصطلاح، بالتعريج على الملامح الفلسفية لها، قبل أن يبيِّنا مكانة الأمثال في الثقافة الحسانية، بالنظر لأبعادها البيداغوجية والتربوية، والاهتمام بما لها من مقاصد سوسيولوجية و ثقافية ونقدية وعاطفية.
فالأدب الحساني يحفل بميراث غني من كلام الحكماء عن الحياة عامة في المجتمع الصحراوي، وهي مادة أثرت هذا الأدب وقدمت نظرته للإنسان وللأشياء، بما فيها، ما تحمله من تفكير خرافي ناتج عن بقايا الحضارات القديمة. إضافة إلى مكانتها الكبرى في مجتمع “البيظان” (وللإشارة المصطلح عامي يطلق على مجتمع الصحراء، إلا أنه أصبح متداولا بشدة في الآونة الأخيرة في الكتب والمؤلفات).
– القسم الأول: الأسرة والمجتمع: مشاتل القيم الأساسية في منطوق الأمثلة الحسانية:
• قدّم الباحثان فيه دور العادات والتقاليد والطقوس التي يتواضع عليها المجتمع في إدماج الفرد في نسيجه وتشبُّعه بثقافته، وذلك بتقديم مجموعة من الأمثال وشرحها للقارئ عن طريق ربطها بالموروث الشعبي للمجتمع.
في مقابل سعي الفرد إلى تحقيق الانتماء إلى جماعته والاندماج داخلها، وما يشكِّل شخصيّتَه عبر المؤثّرات التالية:
• الوراثة: من خلال التطرق إلى خصائص الأسلاف الوراثية وما لها من فعل وتأثير في بناء الشخصية وتكوين الذات، وعلاقة الرضاع بالبناء الفيزيولوجي والعقلي والنفسي للطفل، ثم المحيط التربوي الذي كان للأمثال منه الحظ الوافر.
• المحيط الاجتماعي: انطلاقا من الحديث عن الأسرة باعتبارها النواة الأولى في المجتمع، وهنا أشار المؤلفان إلى طقوس الزواج والحث عليه، وارتباط الأسرة بالتملّك في الموروث الاجتماعي والثقافي للصحراء في حديث ممتع عن “الخيمة” (وهي لفظ دلالي يطلق على العائلة عموما فكلمة خيمة تتماشى مع الطبيعة البدوية وثقافة الرحل كما تحيل على الوسع والامتداد).
أما المؤثر الثالث، فهو:
• صورة الإنسان في الأمثال: ووردت في المؤلف على اختلاف الجنس والمراحل العمرية، فرصدت جوانب تصوير المجتمع الصحراوي للرجل والمرأة والطفل والشيخ الكبير بتقديم مجموعة من الأمثال مع الشرح في فقرات ضمنها المؤلفان أبياتا شعرية فصيحة للتعزيز.
– القسم الثاني: مركز القيم الأخلاقية في الأمثال الحسانية:
قام فيه الباحثان بحصر القيم الاجتماعية الصحراوية، سَلبًا وإيجابًا بين المزايا والمساوئ، في أربعة محاور، هي القيم الذاتية، والاجتماعية، والتربوية وقيم العمل والاقتصاد، في سرد تناول عرض الأمثال مع ربطها بالمخيال الشعبي في شرح واف لا يدع لبسا عند القارئ، بل يغريه إلى البحث أكثر في التراث الحساني:
• القيم الذاتية: وفي هذا الشق تم تناول الأمثال التي تخص “الذات المكسوبة” على حد تعبير المؤلفين، وتشمل الكرم والبخل، والأنانية والكذب والسرقة، والثأر والمحبّة، والنّميمة والخوف والتّديّن
• قيم العلاقات الاجتماعية: وتضمّ الزواج والمصاهرة والصداقة والجوار وروح الفريق، حيث لم تترك الأمثال الحسانية مجالا من مجالات الحياة الاجتماعية إلا وطرقته
• قيم العمل والاقتصاد: تحتوي العمَل والشِّرْكة والدَّيْن، وقبل عرض الأمثال تم تناول أهم الأعمال التي يزاولها الإنسان الصحراوي
• قيم التربية والتعليم: تندرج فيها العلاقات بين المعلّم والمتعلّم، والعدل بين المتعلّمين، وخدمة المتعلّمين ومراعاةً اهتماماتهم وتشجيعُهم وتعنيفُهم، وذمُّ الاتّكال والدّلال والكسل
– الخاتمة:
فيها توصّل الباحثان إلى أهمية العودة إلى التراث الشعبي الصحراوي، للاستلهام من الصالح و نَبْذِ الطّالح مِنه، بهدف ربط الأجيال الصاعدة بتراث الأجداد لتحصين هويّتها، وأشارا إلى أن الالتفاتة إلى الحسانية ما هو إلا تأكيد لحيوية اللغة الأم التي تعيش داخلنا ونعيش داخل إطارها حيث نستلهم منها الذاتية الثقافية.
وفي الإطار الموضوعي، هي محاولة لتنزيل مضامين الدستور في الجانب المتصل بصون الثقافة الحسانية وفق مقتضيات دستور 2011.
واقترح الباحثان ختاما، ما يلي:
• استغلال الحيز المنصوص عليه في المناهج الجهوية لإبراز الخصوصية الثقافية الحسانية، من خلال التوظيف الأمثل للأمثال، وغيرها من أجناس الأدب الحساني، في بعث القيم والأخلاق الأصيلة و تَشريبها للناشئة.
• فَسح المجال أمام المربّي ليستخلص من واقع التلميذ وثقافة مجتمعه، مضامينَ تبني شخصية المتعلِّم وتعدّه للانخراط الإيجابي في مجتمعه، والمثلُ الشعبيُّ باعتباره خلاصةَ تجربةٍ فردية وجماعية، قد يُستثمَر سندا بيداغوجيًّا لتمرير القيم.
لقد وُفِّق الباحثان في الالتزام بالعَقْد الذي تَبَنَّياهُ خلال استهلالِ هذا الكتاب المفيد، كما تجدر الإشارةُ إلى أنّهما، في جميع أجزاء الكتاب، كانا يتّخذان من المثل الحسانيّ عُمدةً، على مستوى الاستدلال وعلى مستوى التحليل كذلك، بعد إيرادِه وتَفصيحِه.
أتمنى أن تجدوا في هذه الإطلالة البسيطة لمحةً عن الكتاب الذي بين أيدينا، وهي لا تُغني عن قراءته والتعمّق فيه للاستفادة منه والاستزادة به.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.