من تداعيات الانتخابات الأخيرة الفوز الكاسح للإسلاميين في الأقاليم ذات الأغلبية الأمازيغية. وهذا المعطى يجب أن يدفع النشطاء الأمازيغ إلى إعادة نظر جذرية في مزاعمهم بصدد تجذرهم في مناطقهم السوسيولسنية، كما يجب على النسيج الجمعوي الأمازيغي أن يُراجع أساطيره التي يعتبرها من أدبياته حول خصوصية الإنسان الأمازيغي المعروف بنزوعاته الديمقراطية وتطلعاته العلمانية، تلك التي تتحدر إليه، دائما بحسب الأساطير إياها، من ثقافته القاعدية “العريقة” القائمة على أسبقية العرف قياسا على العقيدة والتدين.
فلو كانت هذه المزاعم الأيديولوجية الخاوية صحيحة ما اكتسح الإسلاميون ذلك الاكتساح المشهود سوس و جهة مكناس، بل والبيضاء التي هي سوسية أيضا في نسيجها الثقافي القاعدي ومناطق أخرى أمازيغية اللسان والثقافة والعوائد والعلائق وما شابه.
سبق لي في مقالات أن تحدثت عن فرية الحركة الثقافية الأمازيغية بالمغرب، وقلتُ بأن الأمر لا يعدو أن يكون حراكا فرديا و جمعويا استطاع المخزن أن يحتويه بسرعة البرق لأجل توظيفه في تنافسه مع النظام الجزائري لكسب الورقة الأمازيغية واستمالة البربر الحركيين ، سيما و أن المطلب الأمازيغي في الجارة الشرقية هو مسألة جادة فعلا، ويسعى المخزن بكل دهاء للمزايدة بها على الجزائر في محاولة لموازنة ضغطها عليه في ملف الصحراء. وليس هناك في المغرب حركة ثقافة أمازيغية كانت ستُجبره بتقديم تنازلات داخلية حول “الملف الأمازيغي”، من قبيل تأسيس معهد “الإيركام” و لا التنصيص على أمازيغية المغرب في الدستور و تدريسها وما شابه، بل كانت كلها رسائل للجزائر مؤداها أن المغرب يمكن أن يكون جذابا للمطالب الأمازيغية الجزائرية ذات التجذر التاريخي المعروف، وبذلك بوسعه إحراج النظام الجزائري في هذه النقطة، ما من شأنه أن يدفعه للتفكير في التخفيف من ضغطه عليه في المسألة الصحراوية.
إن الحديث عن حركة ثقافية كيفما كان نوعها يفترض تجذرا جماهيريا لها في المناطق التي تدعي تمثيلها و الحديث باسم مطالبها الثقافية ، و هذا سيتبين من جملة ما سيتبين فيه – لو كان صحيحا – في الإستحقاقات الانتخابية و في عمليات الإستفتاء وما شابه من المناسبات التي يُتاح فيها للجماهير بالتعبير عن كلمتها و موقفها في نازلة من النوازل.
والعملية الإنتخابية الأخيرة، كما سابقاتها، بالمغرب برهنت بالملموس و الصادم أن هذه فرية لا أساس لها من الصحة و أمنية بعيدة كل البعد عن الواقع السوسيولوجي حين يتعلق الأمر بحديث عن حركة ثقافية أمازيغية مغربية وهمية.
على النشطاء الأمازيغ والأرخبيل الأمازيغي الذي يسمي نفسه خطأ و ادعاء “حركة ثقافية” أن يُدرك بأن المتجذر في المناطق الأمازيغية هي الحركة الإسلامية بكل تلويناتها. وأن كل المواقف المعادية أو المتوجسة من المطالب الأمازيغية الحديثة والحداثية لا تحرك أدنى حساسية في أوساط الناطقين التقليديين بالتعبيرات الأمازيغية الثلاث، ناهيك عن أن تثير سخطهم. فلا نعت “بن كيران” لتيفيناغ بالشينوية أثار حفيظتهم، ولا رغبة الإسلاميين المطردة في مزيد من أسلمة المجتمع المغربي وتقوية صلاحيات “أمير مؤمنين” وتشديد قبضته اللاهوتية على الرعايا الأوفياء يقض مضجعهم ، ولا تقبيله العاهر للملك السعودي وقوله بأن ملك المغرب أيضا سعودي الأصل يُحرك فيهم أنفة ولاعزة، ولا جرجرته المقصودة للقانون التنظيمي للأمازيغية على علاته هو باعث على قلقهم وسخطهم على بنكيران وحزبه المثير للجدل ، لا بل ولا حتى استهداف فريقه الحكومي الممنهج لجيوبهم طالما يبتغي بذلك “الإصلاح ما استطاع” في زعمهم ، لا شيء من كل ذلك كان أو من شأنه أن يغير من نظرة الأمازيغ التقليديين “الإيجابية” إلى الإسلاميين، سواء كانوا في الحكم أو خارجه.
على الحالمين و الطوباويين الأمازيغ المجتمعين في الصالونات و المنشغلين بصُويحباتهم وبالسفريات والتعويضات المجزية في أروقة الإيركام، والرافعين لعقيرتهم بأعداد تثير الشفقة هنا وهناك، كما على كونغريسييهم المتراشقين بالسباب، أن يدركوا بأنهم واهمون و مثيرون للسخرية فعلا عندما يُقدّمون أنفسهم كأنداد و غرماء و منافسين محتملين للحركة الإسلامية حتى في أكثر المعاقل الأمازيغية حديثا بالأمازيغية و حفاظا على عوائدها.
على هؤلاء جميعا أن يدركوا حجمهم الحقيقي وهو أن المخزن ما كان ليلتفت لزعيقهم لولا الحراك الأمازيغي المدوي في الجزائر، وأنه ما كان ليدخل في لعبة التفاوض و التنازلات المحسوبة مع أمازيغية الداخل التي هي أبعد ما تكون عن منطقة الخطر على استقراره، لولا قراره الستراتيجي توظيف “الورقة القبايلية” ضد “قصر المرادية” بإيحاء من حوارييه ومستشاريه المعروفين في هذا الملف، و الذين صاروا بعد ذلك عرّابين لكل داخل إلى معهد المخزن للأمازيغية المحنطة التي لا تصلح لشيء.
إن الفوز الكاسح للإسلاميين في سوس وتنامي مظاهر الأسلمة و التخونج في مناطقه قبل ذلك بكثير، و النجاح الباهر لأنشطة البيجيديين فيها والمساهمات المالية الخيالية التي تتقاطر من تجارها على صناديق الإسلامين من بيجيديين وعدليين، كما وازدهار الدوعشة في الناظور والمغرب الشرقي ، كلّ هذا وغيره كثير يدحض دحضا الهلوسات الأمازيغوية للأرخبيل الأمازيغي المغربي، ويعطي الدليل القاطع أن أمازيغ المغرب هم من سيصوت بنسبة ساحقة لدولة إسلامية تحكمها الشريعة الإسلامية بتفصيلاتها السوريالية، وكما تحلم بها كال أطياف الإسلام السياسي الأصولي لو افترضنا جدلا حصول استفتاء حول هذا الخيار، كما أن غالبية من يلتحق من المغاربية بالدولة الإسلامية الكارثية في العراق و الشام هي أيضا من بني مازغ، بني مازوخ!
فلتستيقظ النكرات الأمازيغية المغربية من سباتها و أحلامها اللذيذة، وإلاّ فلتستمر في تلاوة زبورها العلماني والحداثوي و الإيزرفاني على بعضها البعض، و لتُدرك بأن الأمازيغ الذين تتحدث باسمهم دون موافقتهم حسموا خيارهم منذ مدة لأجل بديل يرونه أنسب لهم و لتوجهاتهم المحافظة ونفسياتهم المعطوبة وتاريخهم الطويل المنعجن في “متلازمة ستوكهولم”.
إن الطروحات الديمقراطية والعلمانية المتشبعة بالحساسية الأمازيغية الحديثة هي فعلا أمر واقع في منطقة القبايل الجزائرية مثلا ولها فيها جذور تمتد إلى القرن التاسع عشر وشهداء صادقون يتساقطون حتى اليوم، ويكفي أن عباسي مدني وعلي بحاج وشلتهيما وفي عز شعبيتيهم بهذا البلد لم يتجرأوا أن تطأ أقدامهم هذه المنطقة لأنها جماهيرها الواعية المثقفة و المناضلة حسمت أمرها كابرا عن كابر لصالح الديمقراطية و العلمانية وأدركت وضاعة و مأساوية توظيف أقل القليل من الدين في شؤون الدنيا.
أما في المغرب، فيبدو أن لأمازيغيّيه رأي آخر هو إسناد ودعم الطروحات الأصولية الملفوظة عالميا، و تصورها المتهافت للمجتمع و الدولة البديليْن. أتعلمون لماذا؟
ببساطة لأنه لا وجود أصلا لحركة ثقافية أمازيغية بل لبيادق تتحدث الأمازيغية بالكاد، و ترتزق بها كثيرا و تسترزق منها وتتاجر بها وتدعي تمثيل أهلها، و أهلها هنا و الآن منهم براء ولغيرهم أعلنوا الولاء.
من الوارد أن يعتبرهم النشطاء الأمازيغ بهذه الصفة نصيرا أزليا لجلاديهم في محاولة لإراحة ضمائرهم وتلطيف إحساسهم بالإثم التاريخي، فليكن..
لكن، ماذا لو لم يكونوا أصلا من بني مازغ كما يزعمون عنهم، بل من بني مازوخ؟!
* (مازوخ أو مازوش، مفكر ألماني إكتشف نظرية سُمِّيتْ باسمه أي المازوخية والقائلة بتلذذ الشخص بتعذيب نفسه، ومن تعبيرات ذلك في المجتمعات موالاة الجموع لجلاّديها الرمزيين و الماديين و تمكينها لهم).
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.