عبد العالي كركوب//
بعد فراره من القبيلة التي كان يعيش فيها حاكما على بني جنسه حل ببلاد “الجرذان”، و نظرا لعيش ساكنتها على الفطرة التي تجردها من كل عمل سياسي، حاول “حبشلا” إثارة الفتنة في هذه البلاد السعيدة، مما حولها في بضع سنين إلى خراب نتيجة التفرقة و الحروب. غاب عنها مدة محدودة، ثم عاد ثانية، لكنه هذه المرة يدعي الحكمة و الرزانة، بشر أهل البلاد بأن هناك حل لمشاكلهم، و هو تأسيس الدولة و جعل السياسة حكما. فبدت علامات الاستغراب على الجرذان اللذين لم يسمعوا قط بشيء اسمه الدولة أو السياسة، لكنهم أوكلوا له أمرهم.
بدأ باختيار خيرة الجرذان و أنضجهم ليكون الجيش، سن القوانين، أسس هيئات عديدة: إدارية، اقتصادية…
و بعد شهرين جاء وقت إعلان تأسيس الدولة ، احتشد الجرذان في ساحة كبيرة، و جاء “حبشلا”، فصعد المنصة، و تلا عليهم خطابه الشهير الذي لم يذكره التاريخ:
” أيها الجرذان، أنا جرد مثلكم، أتيت من بلاد لم تقدر ما أسديته لها من خدمات، لكنني أشكرها لأنها علمتني المعنى الحقيقي للسياسة. أيها الجرذان، اسمحوا لي الآن أن أناديكم بمصطلح أخر، و هو: الرعية، و أنا الآن لم أعد جردا مثلكم بل أصبحت السلطان. أيها الجرذان، ستغدو دولتنا بعد أعوام امبراطورية عظمى، و سأصبح امبراطورا عظيما. و الآن سأحدد المبادئ العامة لدولتنا: أنا السلطان صاحب القرار و القول الصائب، و أنتم الرعية وجب عليكم الطاعة و إتباع ما أقول، هكذا يمكن أن يستمر الخير في بلادي و يسود الأمن و السلم، القانون واضح، من يحترمه يسلم، و من يتجاوزه يعاقب، التمرد مرفوض قطعا، و عقوبة المتمرد رميه في بئر الأفاعي “الإعدام”.
الحشد يهتف: عاش السلطان، عاشت دولة “الجرذان”
السلطان يبتسم ابتسامة خفيفة ثم يتمم خطابه:
” أيها الجرذان، لكم لي حق الحماية و الصيانة، و لي لكم مقابلا لهذه الخدمة، لذا سأحصل على جزء من منتوجاتكم. أيها الجرذان، هنيئا لكم فقد أصبحتم مواطنين.”
أخفض رأسه كأنه ينظر إلى قدميه لبضع ثوان، الكل ينتظر ما سيأتي في الخطاب، ثم قال:
“لقد هاتفني إلهكم، و هو راض عما قمت به، و خبرني بأنه سيكون نصيرا لي، و أنه سيحمي كل من يطيعني، و يسلط البلاء على كل من يعصاني. أيها الجرذان، انصرفوا و لا تنسوا وصية إلهكم.”
شك أحد الجرذان اليافعين في كلام السلطان و حتى شكله، و بدأ يبحث عن أصله و تساءل: لماذا بلاده الأولى لم تقدر العمل الذي قام به؟ و لماذا يشكرها لأنها علمته الكثير؟ فشد رحاله إلى مجموعة من البلدان المجاورة، إلى أن وصل إلى قرية مهجورة لا يعيش فيها سوى ثعلب مسن،
فحدثه الجرد قائلا: اسمح لي أيها الثعلب، لملأ فراغك، أنا أسأل عن جرد اسمه “حبشلا” فهل سبق لك معرفته أو السماع عنه؟
الثعلب: و من تكون؟
الجرد: أنا جرد من بلاد “الجرذان” لقد جاءنا “حبشلا” الذي أسألك عنه و دعانا إلى تأسيس دولة.. و هو الآن سلطان علينا.
ابتسم الثعلب بتقهقر و قال:
و هل سمعت يوما عن ثعلب يحكم الجرذان. لقد كنت المساعد الأول للحاكم “حبشلا” في بلاد الثعالب، كنا نكبح دوافعنا الغريزية للحكم بالعدل، لكن الثعلب يبقى دائما ثعلبا، فالمكر و الخداع الذي يميز نوعنا لم يدع حكم “حبشلا” يستمر.
رفع رأسه للسماء، وقال:
دعني أيها الجرد في سبيل حالي، فلم يعد لي شأن في السياسة. أريد أن أموت في صمت.
انصرف الجرد، و هو يحمل معه سر سلطانهم، عاد إلى “بلاده”، و أخبر الجرذان بأن “حبشلا” كان حاكما في بلاد أخرى على الثعالب، يحكم وفق مبادئ الحق و العدالة، يتميز بالرحمة و الرأفة، فقد كان يصارع طبيعته ليحقق ذلك، لكن هذا أدى بجماعات إلى الانقلاب عليه و محاولة اغتياله، و بعد نجاح الانقلاب هرب كي لا يقتل.
هذا كان بمثابة درس ل”حبشلا”، فقرر أن يعتمد أساليب جديدة في الحكم إذا ما أصبح حاكما، الأساليب التي تميز نوعه، التبرير اللاعقلي و المشروعية المزورة، توهيم الرعية بأنه صالح، و لكنه في الأصل ماكر و مخادع… هذه هي الطريقة الوحيدة لاستمراره في السلطة و حكم الجرذان، و إن كانت طبيعتهم تختلف عن الثعالب.
لم يكترث الجرذان لكلام الجرد اليافع، خصوصا بعد أن استقرت أحوالهم و هدأت مخاوفهم، فعلم “حبشلا” بالأمر، فكان مصير بطلنا الإعدام رميا في بئر الأفاعي، بتهمة إفساد عقول الرعية و تهديد سلمها و أمنها.
مات “السلطان حبشلا” بعد قضاء مدة طويلة في الحكم، لكنه جعل بقوانينه من السلطة تركة تورث للأبناء، فأصبح كل حكام البلدان التي غزاها “حبشلا” من جنس الثعالب، ويقال أن الأمر لازال على حاله إلى الآن.
مرتبط
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.