مُعوّقات تفتق النخبة في العالم العربي
كنت إلى فترة قريبة أتبنى طرح السياسي والأكاديمي الأردني مروان معشر المتضمَّن في كتابه «اليقظة العربية الثانية» (بالإنكليزية) من أن اليقظة العربية التي بزغت مع بداية القرن الماضي، كانت شأن نخبة من دون جماهير، وأن ما اعتمل في ما سمي بالربيع العربي هو فعل جماهير من دون نخبة.
لا جدال في دور النخبة، سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو فكرية، في رسم السبيل وتعبيد الطريق، وتعبئة الجماهير وتأطيرها. والنخبة ليست هي الفئة المتميزة في مجال اختصاصها، بل هي تلك التي تحمل تصورا بالنسبة لمجتمعها، وتسعى أن تبلوه على أرض الواقع، من خلال التنظير والفعل والتنظيم والتأثير.
وهي نوعان حسب التمييز الذي وضعه باريتو، نخبة محافظة تدبر الحاضر وإكراهاته، وتسير على السُّنن المتواضع بشأنها، وأخرى تقدمية أو مقدامة تتجاوز تناقضات الواقع، من خلال استشراف ما لا يظهر للعيان، أو تضع بارديغمات جديدة لحل معضلات الحاضرخارج ما تم التواضع بشأنه.
هل يمكن الزعم بأن العالم العربي خُلْوٌ من نخبة من شأنها أن ترسم السبيل لتجاوز معضلات الحاضر واستشراف المستقبل؟ هل أصيب العالم العربي حقا بالعقم، ولم يعد ينجب من يأخذ بيده في سراديب الظلام، سياسيا واقتصاديا وثقافيا؟ هل النخبة في العالم العربي أقل تكوينا وانخراطا ووعيا من مثيلتها في تركيا أو إيران؟
والجواب ألاّ. ما أتيح لي من تتبع وقراءات ولقاءات، يفند الطرح القاضي بغياب النخبة في العالم العربي. الفرق مع مجتمعات قريبة، ليس وجودها من عدم وجودها، وإنما حضورها أو غيابها في ميكانزمات القرار أو التأثير. هناك تماثل في ما يخص الأسس العامة الناظمة للدولة، ما بين توجهات كل من إيران وتركيا، ونخبتيهما السياسية والفكرية، على خلاف العالم العربي، حيث تقوم قطيعة أو جفاء، بدرجات متفاوتة، بين مركز القرار والنخبة، ما يدفع هذه الأخيرة إلى المهادنة والصمت في أحسن الأحوال، وإلى المنفى والاعتقال والتضييق في أسوئها.
نعم لا تستنكف السلطة في العالم العربي من استعمال نخبة تقنية، حيث لا مندوحة عنها، في قطاعات تقنية مرتبطة بالتوزيع العالمي للإنتاج، كما في ميدان البترول والخدمات، أو الميدان الأمني. ولكن النخبة التقنية أداة، شأنها شأن عناصر من النخبة التقنية في العهد القديم بفرنسا، حيث لم تكن لا المَلكية ولا الكنيسة تستنكفان من استعمال أدوات تقنية وعلماء في دوائر محدودة، وترفض أن يصبح العقل قيمة. طبيعة الأنظمة السياسية في العالم العربي أنها لا تقبل إلا نخبة مؤتمِرة أو أداة. بتعبير آخر، ليس المشكل وجود نخبة أو عدمها، ولكن طبيعة النظام الذي من شأنه أن يفرز نخبة أو يعجز عن ذلك، أي أن أصل المشكل سياسي بدرجة أولى. من الممكن فرز نخبة تقنية أو توظيفها في ظل أنظمة مطلقة. من الوارد استخدام نخبة محافظة، تلتقي مصالحها والطغمة الحاكمة، ولكن من العسير إفراز نخبة مقدامة تستطيع أن تتجاوز وضعا معضلا، في ظل الحكم المطلق، وإن وجدت عناصر منها هُمشت أو تم التضييق عليها.
يكفي أن يُلقي المرء النَّظَر على الحالات في العالم العربي ـ وما أكثرها – التي دُفعت للصمت أو المنفى أو التضييق أو المتابعة، لا لشيء إلا أنها لا تساير الاتجاه الذي تفرضه أوليغارشيات أو طغمات حاكمة.
في الكتاب الثامن من الجمهورية، يحلل أفلاطون طبيعة الحكم المطلق، إذ على خلاف الطبيب الذي يبتر العضو المريض من أجل الحفاظ على الجسد، فإن المستبد يعمد إلى بتر العضو السليم ويُبقي على العضو المتعفن. وبتعبير آخر، لا يتيح الحكم المطلق نخبة، وإن وجدت لم يتورع عن بترها. عامل آخر، يشرح صعوبة تفتق النخبة في العالم العربي، هو ضعف استقلالية الأنظمة، سياسيا واقتصاديا، بل ارتهانها عسكريا لقوى دولية. من سمات الحكم المطلق فعاليته، ولكن إلى حين. امتلاكه لكل الأوراق يُمكّنه من ضبط الإيقاع، والتحكم في أوجه الحياة العامة، ولكنه في غياب طموح جماعي وعقد اجتماعي ناظم، سوى البقاء، يجد نفسه أمام تراكم المشاكل المتشعبة، ما يضعه وجها لوجه مع الشارع، ويدفعه بالتالي إلى مزيد من التضييق والقمع، بفرز دينامية سلبية، تشل الدينامية الإيجابية الثاوية في ثنايا المجتمع.
ليس المشكل إذن غياب النخبة كما يُروّج، ولكن طبيعة الأنظمة التي لا تتيح تفتقها. ومن المؤسف حقا، أن نُضطر مرة أخرى لفتح كتاب «طبائع الاستبداد» لعبد الرحمن الكواكبي، لفهم ما يجري، ومن المحزن أن نُدفع لترديد ما قاله غسان تويني في كتابِ محاورات (باللغة الفرنسية)، «قرن من أجل لا شيء».
*كاتب مغربي
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.