مقاطع من حكايات

أزول بريس – حسن السحاقي//
الحكاية الاولى :

ربّما تُعَدّ مغامرة بحياتنا حين خرجت وأسرتي في نزهة إلى الغابة ونحن ما زلنا نخضع لحالة الطوارئ بسبب وباء كورونا. لقد شارفْنا على إتمام سنة لم نبارح خلالها المدينة، ولذلك لم نصمد أمام سحر الخضرة الاستثنائية في موسم استثنائي في سوس. اكتظت الغابة بمتنزهين عطشى إلى خضرة الأرض. احتضنتنا أشجار الأركان، تعتمر تيجانا خضراء اتّخذ المتنزهون تحتها مكانا تحميهم أغصانُها من وطأة الحرّ عندما تثقل على الرؤوس، وافترشوا عشبا تزركشه أزهار جميلة.
بعد تناولنا فطورا عمادُه برّاد أتاي مشحّر، تقبَّعت كؤوسه رُزّات كزبد البحر بياضا، عطّر أريجُه الفضاءَ وأنعش الأرواح، قصدت ربوة خضراء. أخذت نفسا عميقا فملأت رئتيَّ بالنسيم العليل والهواء الصافي النقيّ، ثم تمددت على ظهري حاضنا رأسي بين كفيّ. السماء زرقاءُ صافية الأديم، أنظر إليها تارة، وأغمض عيني طورا، سرقني النعاس. وفجأة استفقت على ثغاء قطيع، عدّلت وضعي بأنِ اتّكأت على مرفقي، رأيت من علِ الربوة قطيعَ شياه يسوسه راع أكسى جسمه جلبابا بتِرا يقيه قرّ الصباح وقبَّع رأسه “ترازة” تحميه من أشعة الشمس عندما تزند، ذراعاه ملتويتان على عصاً مسنودةٍ على رقبته. أطلْت التحديق في الراعي فطفرت من ذاكرتي ذكريات سافرت بي عبر الزمن إلى أول يوم حيث حطَطْتُ الرحال بمنطقة جبليّة كانت منطلق حياتي المهنية في ميدان التعليم، معلِّما بإحدى الفرعيات لأكبر مجموعة مدرسية في الإقليم. وكنت تسلَّمت تعييني مباشرة بعد أحداث انتفاضة السبت الأسود يوم شهداء الكرامة.

كان الوصول إلى هذه المنطقة محفوفا بالمخاطر. على ارتفاع ألف متر، طريق جبلية وعرة كلها التواءات، متربة وضيقة. أحيانا لا تتسع إلا لسيارة واحدة مما يلزم التوقف مرات في أماكن معينة لمرور السيارة الآتية في الاتجاه المعاكس. تدِبّ سيارة “فورد ترانزيت”، السائق يقود بحذر شديد ونحن نتمايل ونهتز داخلها تبعا لتمايل واهتزازات السيارة نتيجة حفر ونتوءات صخرية من مخلفات سيول الأمطار. لا نستطيع النظر إلى الأسفل يأخذنا دوار الى حد الغثيان، جعل أحد الزملاء يقذف قيأه على جدار السيارة في الجزء الخلفي حيث لا توجد نوافذ جانبية. تقبَّضْتُ عن رائحة القيء التي غمرت المكان، جاش صدري واضطرب، كتمت أنفاسي ثم تبع ذلك شهيق وزفير لأمنع صعود القيء.

قطعت السيارة مسافة أربعين كيلومترا في ظرف سبع ساعات أو تزيد. وصلنا إلى المكان المقصود بعد غروب الشمس. ولجت السيارة سوقا بدون سور، فضاء مفتوح طولا على مستوصف حداء مجرى النهر من جهة، وعلى حقول زراعية من الجهة الأخرى، وعرضا على الدوار في جانب وحجرة دراسية تلاصق بقايا دار الكلاوي في الجانب الآخر. دون تنسيق وبفوضى ولا نظام تنتشر حوانيت على قِلَّتها متباعدة بعضها عن بعض. بعضها بُنِي بالآجور والإسمنت وأخرى بالطين والتبن والقصدير، تملأ الفراغات بينها نفايات الخضارين والعطارين والجزارين وروث وبعر الدواب، حيث أرتال من كلاب تتهارش لتفوز ببعض بقايا الذبائح، مخلوقات تسعى وراء البحث عن رزقها في هذا السوق، لتعود إلى الدوار الذي تعيش فيه بجوار البيوت، حرة طليقة. نشأت الألفة بينها وبين آهالي الدوار، تحرس الدوار وتنبِّه بنباحها إلى أي خطر قد يحدق به، لا تغادره إلا في مناسبة السوق الأسبوعي. أغلب الدكاكين أغلقت، والمفتوحة خالية من البضائع، وبذلك تعذَّر علينا شراء ما نحتاجه من طعام. آخر وجبة طعام، تناولناها صباحا.

انفضَّ السوق إلا من شاحنات وسيارات كبيرة تَكدَّس داخلها وفوقها خليط البشر والحيوان والبضائع، تستعد لمغادرة السوق لتأخذ طريقها إلى المدينة، وكأنه مشهد سينمائي هندي.
كنا سبعة معلمين جدد، أما ثامننا كان قد قضى سنة هنا والآن سينتقل إلى “فرعية” قريبة من المدرسة المركزية، فقد رافقنا ليأخذ ما تبقى من حوائجه وأغراضه. تسلَّمنا مفاتيح المدرسة الفرعية من عند الشيخ.

للشيخ دكان أيضا، يزاوج بين التجارة ووظيفته، عيْن السلطة لمراقبة السوق والمدرسة. عين مفتحة على كل شيء. كما هو الحال بالمدينة، الشيخ والمقدم مهمتهما خطيرة لرصد كل كبيرة وصغيرة. بعد تسلّم المفاتيح تفرّقتْ بنا السبل، والتحق كل منا بمقر عمله.

غادرنا السوق على الأقدام في اتجاه الدوار هبوطا، عبرنا الوادي، ثم صعودا أخذنا مسلكا ملتويا لتفادي أحجار ناتئة ومدببة، ومع ذلك لم أنجُ من وخز بعض هذه الأحجار تحت باطن قدمي. بعد أكثر من ساعة زمنية بلغنا الدوار وكان الليل أرخى سدوله.

أنهكنا المسير وبلغ منا التعب مبلغه. ملك علينا قوانا. دخلنا حجرة دراسية من النوع المفكك على ضوء البطاريات، افترش كل واحد طاولة وغططنا في نوم عميق.
استيقظنا باكرا جدا ولمّا يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. عضّنا الجوع. انتظرنا بفارغ الصبر انبلاج الصبح لننزل إلى الدوار لعلَّ أحدا من أهاليه يستضيفنا عنده.

مع بروز بعض ملامح ضوء النهار فتحت باب الحجرة الدراسية، وقفت على عتبة الباب أتمطط وأنا أتثاءب. داعبت وجهي نسمات خفيفة. بدأت تظهر الأشعة الأولى للشمس. خطوت متثاقلا، انعطفت جهة اليمين. فجأة جمدت في مكاني مشدوها أمام الخضرة والنباتات المنتشرة وأشجار الزيتون والأركان واللوز والجوز. نقلت إعجابي إلى باقي زملائي، هرول صالح وعبد الله واندفعا خارج الحجرة، تَسمّرا مكانهما وحصل لهما ما حصل لي. أما محمد، ظل ممددا في فراشه ولم يُعِر الأمر اهتماما. لقد أمضى سنة هنا وبالنسبة إليه الأمر طبيعي. علَّق وقال: – لا تفرطوا في الإعجاب، كل هذا الجمال سيُحجَب عنكم عمّا قريب، ولن تروا إلا القبح والحقارة.
صفعني تعليقه. زرع في نفسي خوفا. إنه قال هذا الكلام عن تجربة، عن واقع عاشه. غريب ما أشعر به الآن من أحاسيس محبطة في أول الطريق. لم أفهم ماذا يقصد بالقبح والحقارة. لم أرد أن أستفسره، حتى أمنع تغلغل تلك الأحاسيس السلبية في نفسي. كل ما عانيناه من مشاقّ وتعب للوصول إلى هنا لم يثبط من عزيمتي ولم يفتر حماسي في أن أبدأ حياتي المهنية وفق ما وضعته من تصورات لأنجح في مهمتي التعليمية.
ارتفعت الشمس فوق الجبل، انعكست أشعتها على الأحجار ورؤوس الأشجار المتلألئة المبللة بالندى. وكانت سحابات من الدخان ترتفع خلف الأشجار. عرفت من محمد أن الدوار يقع وسط هذا الحزام الأخضر.
أغلقنا باب الحجرة. ثم أخذنا طريقنا نحو الدوار الذي يبعد عن المدرسة الفرعية بضعة أمتار. اخترقنا الأشجار في منحدر خفيف ضيق، على جانبيه بيوت بلون التراب متلاصقة وأحيانا متفرقة تفصل بينها حقول مستطيلة صغيرة ما زالت فوقها مخلفات الحصاد، وأشجار اللوز والجوز والزيتون. تتنوع المساكن بين القصيرة والعالية. تشترك في أن جميعها استعملت الطابق الأرضي مبيتا للماشية. كسّر صمتَ الصباح ثغاءُ الشياه ونقنقةُ الدجاج ووشوشةُ العصافير. بدأت ترتسم على الأرض بقع مضيئة على إثر اختراق أشعة الشمس غابة كثيفة مثمرة يقع الدوار وسطها. غمرتني رائحة المكان؛ رائحة خليط بين النباتات والأرض وما يفوح من الأفران الطينية. شدّني المنظر شدّا، ملك علي جماع إحساساتي وقلبي. اجتاحتني نشوة عارمة وشعرت بهدوء وسكينة. انطبعت هذه الرائحة في ذاكرتي وقلبي، كلما تشمَّمْتها في مكان ما تدفّقت هذه الصور متتابعة بدقائقها وجزئياتها أمام ناظريّ. أخرجني من نشوتي ظهور شخص يصعد المنحدر في اتجاهنا يتوكأ عصا. يرتدي جلبابا بتِرا، يضع على رأسه ترازة. وهو يقترب منا. مبتسما رحّب بنا قائلا:
– عْلَى سْلامْتكم.. عْلَى سْلامْتكم.. عْلَى سْلامْتكم..
أجبناه جماعة:
– اللهِ سلّْمك.
كان متوسط القامة. الترارازة الكبيرة جعلت وجهه الأمرد يبدو صغيرا. مغضّن الجبين. توجّه إلينا الواحد تلو الآخر مستفسرا عن المدن التي جئنا منها. عندما وصل دوري أجبته:
– الدار البيضاء.
علّق مقهقها:
-آح عليكم يا شفّارة !!!!
أغاظني الراعي. شعرت بالدم يغلي في رأسي، لكنني تمالكت نفسي وكظمت غيظي. طلبت من صالح سيجارة. ناولني الولاعة، أشعلت السيجارة بعصبية وتوتر. اجتذبت نفسا عميقا المرة تلو الأخرى بشكل متتابع حتى استحالت السيجارة جمرة بين شفتي. هكذا أنهيت محاولة الإقلاع عن التدخين بعد أسبوع من الصمود والمقاومة. صعدت المنحدر ورجعت إلى الحجرة. بعد برهة التحق بي الآخرون. خيم صمت ثقيل على الحجرة. داخلي يغلي. لم أستطع طرد موقف الراعي من رأسي، قهقهاته وعبارته المستفزة الخارجة عن اللياقة والأدب. يتكرر المشهد في رأسي مرات ومرات دون توقف. يرتفع الضغط، ينتفخ رأسي فأخاله سينفجر. محمد كان على حق. إن ما رأيته جمالا استحال قبحا وفظاظة. لماذا هذه الخشونة والفظاظة في التعامل تصدر من هذا الإنسان الذي يعيش في أحضان هذه الطبيعة الجميلة المتناسقة. لماذا لا يتعلم من الطبيعة رقتها؟
توقفتُ عن السير داخل الحجرة جيئة وذهابا. سحبت قطعة الإسفنج المستطيلة التي كانت على الطاولة وطرحتها على الأرض في زاوية الحجرة ثم تمددت عليها لافّا قدما فوق أخرى. ناولني صالح علبة سجائر لورنس، كان قد اشترى (تَرْسَيْن) تحسُّبا أن تنفذ منه قبل موعد السوق. أشعلت السيجارة. جذبت نفسا عميقا ثم نفثت بقوة دخانا رماديا كثيفا كما لو أني أفرغ داخلي من حمل ثقيل. تكونت سحابة من الدخان تتبعتها وهي ترتفع ثم تتلاشى. انجلت أمام ناظري ألواح خشبية مرصوصة مشدودة بقطع خشبية مجوفة الجانبين تكوِّن سقف الحجرة ناصع البياض. شردت برهة في هذا البياض، ثم نزلت بعيني أتأمل الجدران، لوائح اسمنتية مركبة. كانت الطاولات مكدّسة في جانب من الحجرة التي تبدو بناية حديثة العهد.
هدأت أعصابي. استرجعت موقف الراعي. أطرقت في تفكير شديد وبدأت أتساءل إن كان يعني ما قاله، أو أن كلامه كان عفويا بريئا، لم يقصد أن يهينني. ربما تعرض للسرقة هناك أو أنه تأثر بما سمعه من الناس عن الدار البيضاء. أخرجني من تفكيري غرغرة أمعائي. جوع كثير إلى حد الألم. ليس عندنا طعام. أحسست بمرارة في لساني وجفاف في حلقي، دعكت السيجارة قبل أن تنتهي. أخرجت قنينة من حقيبة الظهر ثم أفرغت ما تبقى من ماء في جوفي. كسرت الصمت الذي غلّف الحجرة وسألت محمد:
– ألم تكن لك صداقات مع أهل الدوار؟


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading