كل صباح تصدح أفنية مدرستنا بأصوات بريئة،وسط مزارع أشجار النخل الباسقات وأشجار الزيتون الشامخات ، بوجوه مستبشرة نصبح في حضرة المعلم ، نحييه بكل إجلال ، امرؤ به نسعد ويسعد بنا ، قل أن نصادفه غاضبا ، كل يوم تسطع شمسه ، وينبثق صباحه بضياء نوره الجميل ، تراه معتكفا في محرابه يؤدي رسالته بصدق داخل غرفة رحبة عتيقة شيدت على ربوة تطل على المسلك العمومي ، بناية متواضعة ، متناسقة أركانها مبنية من الطين ، وللبناء الطيني أهمية كبرى ، برع الأجداد في مجاله ، كنز معماري وإرث ثقافي ومادي انتشر كثيرا، وقتئذ ، يعتمد مواد محلية وأساليب تقليدية أو ما يسمى تقنية “التابوت ” أداة مهمة عبارة عن ألواح خشبية مستطيلة الشكل ،تتبث بست أعمدة تسمى ” القوام ” تملأ بالطين و يدك جيدا بأداة تسمى “المركز ” تشد جميعها بالحبال لضمان التماسك وصلابة الطين بداخلها ، إنجاز معماري ينسجم والمناخ السائد ، يوفر الدفء في فصل الشتاء ، ويكون باردا في الصيف.
تكتم جدرانه عن المارة من الناس صياحنا ، أثناء قراءة جماعية ، و لا تبوح بأسرارنا ولا تشي بها إذا بقيت نوافذها مغلقة، فإذا فتحت أبوابها، ودخلها زائر أو ضيف، أظهرت مزايا أصوات الترحيب به ،
سقف غرفتنا أعمدة أخشاب متراصة، تعلو موادها ألواح من البلاط المعدني غطاء يحمي من السقوط المباشر لهطول الأمطار ويحول دون تسرب المياه إلى أجوافها ، على جدارها الأمامي سبورة أو لوح تابث بجناحين ، له متحركين بفصالات متبثة على الجانبين بمسمارين في منتصف عرضه ليسهل قلبه لاستخدام الوجه الأخر ، لونه الأسود يمتص الضوء ويعتم غرفة الصف، صغارا يذكرنا بالليل؛ وما قد يعتريه من خوف ، لكثرة الكتابة عليه بالطباشير الأبيض ومسحه يبهت سواده،وكثيرا ما يشكو من يجلس في مؤخرة الصف بضبابية الرؤية وعدم وضوح الكتابة.
معلمنا لا يتغيب أبدا ، مختلف في أدائه ، متميز في سلوكه ، في نظم وإتقان تخطط أنامله حروفا تزدان سواد السبورة روعة وأناقة ، يجزئها أثلاثا ، كل ثلث بما لديه فصل دراسي بذاته ، في تناغم وانسجام ، يلقي درسا على كل مستوى بلا كلة ، كان داعما للتلميذ ، يفتتح الموسم موزعا أدوات على المحتاج : كراسات من نوع “ترام ” على ظهر أغلفتها ، تحمل جداول عملية الضرب ، ريشات ، منشفات وألواح من المعدن الخفيف وقوالب من الطباشير الأبيض.
كان يدعم إبداعاتنا ، يحذرنا من الآفات ، وينبهنا من نوائب الدهر ويحذرنا من فخاخ الزمان ، معلم متواضع ويكأنه ألأب الحنون والأخ الكبير يرعانا صغاراً ، بين صخب ضجيجنا يتألم ، رجل هادئ الطباع
لين المعشر ، ودود ، ثمة عامل جذب يربط بينه وبين محيطه لسلاسة معاملته ودماثة خلقه فكان الإعجاب به أحرى والانجذاب إليه أقوى ، بدرت منا أخطاء في حقه ، وهو يتعب لأجلنا يسعى للرقي بنا ..كلمة بسيطة طيبة ، تكريما واعترافا بالجهد المتواصل الممتد عبر عقود من الزمن لأزيد من أربعين عاما ، كرس حياته لخدمة المدرسة دون ملل ولا كلل ،معلم وأستاذ الأجيال ، درس على يد الفرنسيين الأجانب ، واشتهر منذ صباه بالجد والاجتهاد، ليقدم حياته خدمة للبسطاء ،منذ نعومة أحلامه يحمل هموماً أكبر من مساحة أمانيه التي رافقته زمنا يتنقل بين المؤسسات، كانت نشأته الأولى بدوار بسيط بنفوذ قيادة تافنكولت مهبط الاحتلال الفرنسي ، هنالك ولد المعلم القامة المعطاء ذ.عمر بن احمد نايت ناصر من عائلة ايت حميدوش سنة 1942 وترعرع بايت معلا ،انخرط في صفوف المعلمين الأوائل ، عين سنة 1959 مدرسا بالمدرسة الأهلية بتاركة ، ليضيء دروب أبناء سفوح جبال درن الأطلسي معرفة وإدراكا ، كان همه العلم فاجتهد رغم قساوة الحياة التي أحيطت به، بعدما استكمل تعليمه بدأ رسالة التربية فسار في بساتينها ليغرس فسائل حروف العرفان لتكون رائدات خالدات تخطها أنامل البراءة على لوحات عبر الأزمان تنطق جمالا ومهابة ، إبان الحماية الفرنسية تم توسيع هذه المؤسسة بخلق وحدات فرعية أولاها ” فرعية ايت معلا” سنة 1958، وخلال سنة 1964 عملت سواعد أهل القرية بإعادة بنائها، جراء ما تعرض له قسمها الوحيد من دمار اثر تساقطات مطرية عرفها البلد برمته حينئذ.
المعلم ،العاشق ، الفنان، الورع،الأنيق،الخطاط الماهر يدعى إلى مؤسسات محلية وإقليمية، وقتئذ ، ليخطط يافطات المناسبات ولافتات الأعياد، دأبه فنون الخط الجميل ، فهي تبعث في النفوس راحة وميلًا إلى قراءة ما كتب فيه، وهي من مظاهر التأنق والترتيب والتنظيم، والخط في نظره فن بحد ذاته،لا يقل مرتبة عن الرسم والتصوير…له أصوله وقواعده، خلال موسم سنة 1991 انتقل ارتقاء فعين مديرا لمجموعة مدارس تجكالت ، مؤسسة جعلها صومعته المهيبة ، يعمل بصدق ويقدم ما لديه بنفس طيبة وروح معطاءة، فهؤلاء حقاً هم من يجعلون العالم مكاناً أفضل للعيش…!
مسعاي من خلال هذه العبارات أن ابلِّغ من رسالة الحق ولو آية ، فأذكر بدرب الرجل أجيالا حملت على عاتقها ثورةً جبارةً ،رجل أتى ليتم غاياته ،متحملا أمانة العمل الاجتماعي بعد أن أحيل على التقاعد واختير مسيرا لجمعية التضامن لفترات متتالية ، هدفه الأسمى منها تسهيل الولوج إلى الخدمة الاجتماعية ، قاد تدبيرها بإحكام إلى أن سلم مشعل الريادة إلى تلامذته الأوفياء…
إنها رسالة الشاكر لصنع هذا الرجل ،أرجو من خلالها أن أبلغ كلمة المعترف بجميله، الناطق بلسان الذين عرَفوا فضله، وقدروا جهده، ثم حاولوا أن يوفوه بعض حقه، وأن يؤدوا إليه بعض واجبه، فعجزوا فكان عجزهم ألحن من حجة، وكان سكوتهم أبين من خطاب.
فالاعتراف بالفضل لأهله آية الوفاء ، والإقرار بالأيادي لأربابها سمة الكرم ، أمر لم تدركه إلا الأمم الراقية النابهة ، وجعلت العرفان فلسفتها ، ولم تؤجل مزايا أهل الفضل حتى يستقروا تحت الثرى ! فقدرت رجالاتها حق التقدير، وكرمت فضلاءها ما استحقت من التكريم، فجنَت ثمرات النبوغ يانعة شهية.
–أبو أمين—
الصورة : الاستاذ عمر حميدوش
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.