لماذا يحب المغاربة الأمازيغية؟
//رشيد الحاحي //
توقفت في المقال السابق عند سؤال: لماذا يحب المغاربة الأمازيغية؟ وحاولت توضيح أبعاد هذه العلاقة ومختلف أشكال التحريف والتوظيف الإيديولوجي التي منعت المغاربة من الوعي بذاتهم وتاريخهم ووجودهم الاجتماعي والثقافي العميق، ومنها التضييق على الأمازيغية ومحاصرة تداوليتها وانتشارها في الفضاء العام ومجالات التنشئة العصرية الذي هو من مسؤولية الدولة وسياساتها اللغوية والتربوية. كما حاولت توضيح أن الأمازيغية لا تختزل في جانبها اللساني رغم أهميته الأساسية حيث أنها مرادف وأساس الانتماء المغربي في عمقه التاريخي والمجالي والثقافي العميق، فهي تشكل عمق وأساس الوجدان الفردي والجمعي، ورغم كل أشكال تحريف الوعي والوجدان، وباستثناء بعض الحالات الشاذة، فالعديد من الصور والمواقف تفصح عن حب المغاربة لها رغم اختلافاتهم الطفيفة وتنوعاتهم اللسنية والجهوية.
فالمؤكد أن الأمازيغية استطاعت أن تزود الوجود الاجتماعي المغربي بمناعة ذاتية انطلاقا من تجدرها الثقافي والإنسي، هذه المناعة التي لولاها لاندثرت الأمازيغية وحامليها، ولأفضت سياسة الاستيعاب القسري والدونية وإذكاء النعرات إلى صراعات عرقية واجتماعية في فضاء المجتمع، وعلى عكس ذلك، فهذه المناعة الثقافية هي التي تغدي علاقة الانجذاب والتقدير الوجداني والثقافي التي تصل المغاربة بأمازيغيتهم على اختلاف مناطقهم وشرائحهم باعتبارها وسم موطنهم وانتمائهم المجالي وإطار وجودهم الهوياتي الدينامي والمنفتح.
واستمرارا في هذا النقاش الذي يروم تجاوز الحدود الضيقة لكتابات جزء من النخبة الثقافية والسياسية التي طالما حاولت الحديث باسم المغاربة فخاضت في هذه المواضيع من منظورات إيديولوجية واستعلائية لا يخفى مستوى تكلسها ورهانها السياسي رغم محاولاتهم إخفاءه تحت يافطات العالمة والعلمية والأكاديمية، استمرارا في ذلك سنحاول فهم لماذا يريد المغاربة تعلم الأمازيغية وتدريسها في المدرسة المغربية، حيث كثيرا ما نصادف في فضاء المجتمع وخلال الندوات والنقاشات الثقافية والتربوية، وفي المدارس والمراكز والمعاهد العليا، وحتى خلال لقاءات ونقاشات عابرة، نصادف مواطنين ومواطنات، من فئات عمرية وشرائح اجتماعية مختلفة، يطرحون موضوع حرمانهم من تعلم اللغة الأمازيغية وتعرف ثقافتهم الوطنية، مطالبين بضرورة اضطلاع الدولة بوظائفها المؤسساتية وواجبها السياسي والحقوقي في إتاحة المغاربة كافة فرص تعلم الأمازيغية والتمكن من التواصل والإنتاج الكتابي بها، وإدراك غنى الثقافة والأدب والفنون الأمازيغية سواء في أشكالها التراثية أو في صيغها وتعابيرها المعاصرة.
“الأمازيغية لغتنا بغينا نتعلموها”، “ما غديش نقبلو أولادنا إكونو ضحايا بحالنا، جاهلين بلغتهم وثقافتهم، خص إتعلموها فالمدرسة والثانوية”، ” واخا أستاذة، أنا كنغير من ولدي ملي كانشوفو كيتكب بتفيناغ وكيقرا نصوص بالأمازيغية، فالحقيقة حنا واحد الجيل ضيعونا فلغتنا”، “بنتي كتقرا الأمازيغية وكتكتبها كيما كتقرا وكتكتب العربية والفرنسية والانجليزية، فين المشكيل؟ هادوك لي كا يكولو ثلاتة د اللغات بزاف على التلاميذ إما ما عندهم دراري أو لا ما كايقريوهم أولا ما جربو. ” هذه بعض الشهادات والآراء التي تحتفظ بها ذاكرتي من لقاءات سابقة، ومضمونها يؤكد تزايد الوعي والاهتمام بتعليم وتعلم الأمازيغية في صفوف المواطنين والمواطنات، مما حوله إلى مطلب وطني مؤكد.
أتذكر خلال بعض السنوات التي قضيتها في التكوين في مصوغات اللغة الأمازيغية وديداكتيكها بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، كيف أثار هذا المستجد التربوي والثقافي في بدايته اهتمام وتتبع وترقب العديد من الزملاء والأصدقاء الباحثين والمؤطرين والمكونين والإداريين سواء من داخل مراكز التأطير والمؤسسات التعليمية أو من خارجها، حتى أن بعضهم كان يعتبر ولوج الأمازيغية فضاء الحياة التربوية ومنظومة التكوين بالمغرب حدثا كبيرا جعلهم يدركون علاقتهم بهذه اللغة والثقافة التي طالما حجبت عنهم أو عودوا على النظر إليها نظرة دونية، وهم يعبرون عن امتعاضهم من حرمانهم والأجيال السابقة من تعلم لغتهم الوطنية وثقافتهم الغنية، بل أنهم كانوا يلتمسون تخصيص برنامج تكويني للكبار يمكنهم من امتلاك مبادئ اللغة وتعرف بعض جوانب الثقافة والفنون الأمازيغية، وتدارك هذا الإخفاق والإحساس بالحرمان الذي يعانون منه نتيجة سياسات الدولة واختياراتها السابقة في المجالات اللغوية والثقافية والتربوية.
وخلال بداية التدريس بالفصول الدراسية، كان الطقس التربوي المفعم بالانخراط الوجداني للأطفال هو الملاحظة البارزة التي تثير انتباه الأساتذة والمؤطرين خلال حصص تدريس مواد اللغة الأمازيغية، بما في ذلك AmsawaD التواصل، Tajrromt d Usfti النحو والصرف،Tirra الكتابة،Tighri القرأة، Awrar أنشطة الترفيه، كما كان انخراط الأطفال غير الناطقين بالأمازيغية بدورهم، وسرعة الاكتساب والتعلم والكتابة بحرف تيفيناغ، من الملاحظات الكبيرة التي كنا نسجلها خلال تأطير الطلبة الأساتذة بالمدارس التطبيقية، مما يؤكد أهمية اللغة الأم ولغة التنشئة الأسرية في التعليم الأساس، ومما يبرز ذلك الامتداد الوجداني الذي يحس به الأطفال المغاربة في علاقتهم بالأمازيغية خلال أنشطة تعلمها.
في الحقيقة، إذا استثنينا بعض الباحثين والكتاب والساسة، وهم معدودون على رؤوس الأصابع، الذين يمنعهم تكوينهم وتشكل مواقفهم وفهمهم في ظل الخطاب والإنتاج المعرفي والثقافي المهيمن الذي ورثوه عن السياقات السابقة، من تغيير ومراجعة رؤاهم وأفكارهم وأحيانا أوهامهم، التي أملتها المرجعيات السائدة سابقا، والتكيف الثقافي والمعرفي والنفسي مع الوضع والسياق الجديد المستند إلى قيم الأنسنة وتحطيم الأساطير وتحرير العقل والوجدان، والتعدد الثقافي والعدالة اللغوية والانفتاح الهوياتي…، إذا استثنينا هذه المجموعة التي تقاوم هذا التحول وتجتهد في إيجاد مصوغات لاحتوائه ولمحاولة تفريغه من محتواه، يمكن القول بأن جل المغاربة والمغربيات فطنوا وأدركوا أن حرمانهم من تعلم لغتهم وثقافتهم الوطنية الأمازيغية هو مس بإحدى حقوقهم الأساسية وتكريس للميز وللوصاية على اختياراتهم، مما يطرح لديهم سؤال المستقبل وضرورة تعليم بناتهم وأبنائهم لغتهم وثقافتهم الوطنية الأمازيغية، حتى لا يستمر جهلهم بها كما بعض أمهاتهم وآباؤهم.
فمستوى التعالق الذي يجمع المواطنين بمجالهم الوطني وتاريخهم الحضاري ووجودهم الاجتماعي والثقافي العميق، رغم كل ما تعرض له وعيهم وتمثلهم من تدليس وتحريف إيديولوجي، يفصح بأشكال مختلفة عن عمقه الأمازيغي الذي يتمظهر على عدة مستويات لعل أكثرها دلالة بداية التخلص من الأغلفة والأغلال المكبلة لهذا الانتماء الوجداني والثقافي، ومن بعض الخطابات والآراء الشاذة التي تمارس الوصاية عليهم، ومن تم بروز الإحساس بالحاجة إلى التصالح مع الذات وتصحيح مختلف مظاهر وعناصر التزييف التي لحقت وجودهم الحضاري والتاريخي، مما أفضى إلى تزايد الوعي بالأمازيغية سواء باعتبارها إطار هوياتي عميق، دينامي ومتطور، أو باعتبارها لغة وثقافة وطنية قائمة الذات، تتطلب تمكينها من كافة الشروط المادية والقانونية والمؤسساتية للنهوض بها وتعليمها للمغاربة كافة.
التعليقات مغلقة.