لا ينال العلى من لم يركب الصعبَ

دكتور-حسن-اوريد
حسن أوريد*

حضرني شطر هذا البيت وأنا أعاود في ذهني حوارا جرى في قناة فرانس 24 يوم 20 نونبر الحالي، كنت طرفا فيه، مع ثلة من مثقفي العالم العربي جراء الأحداث الإرهابية التي ضربت باريس جمعة 13 نونبر. شجب المثقفون ما جرى، وعبروا عن مواساتهم لأسر الضحايا ولفرنسا… كان ذلك موقفا مبدئيا مشتركا لا غبار عليه. أما عن أسباب الإرهاب فقد اختلفوا حيالها. حذر البعض، عن صواب في اعتقادي،  من الربط بين العنف ودين معين، وراغوا إلى تحليل تاريخي حول تطور ممارسات الأديان وفهمها، وعزا البعض الإرهاب إلى أسباب سياسية بالأساس، يتم توظيف الدين فيها، مثلما ربطوا العنف بالوضعية الاجتماعية التي تعيشها عناصر من الفرنسيين ذات جذور من بلاد المسلمين، تكتشف الإسلام أثناء ما يعترضها من تمزق، وما يبدر منها من أزمات هوية، ومشاكل اندماج، مما يتم توظفيه من قبل محترفين مغرضين، وأصحاب أجندات سياسية، تملؤها الضغينة والكراهية والذحل (الكلمة التي يستعملها أبو حيان التوحيدي مقابل Ressentiment).

وقف آخرون عند أخطاء الغرب، وسوء تقييمه، وصممه، واستهانته بالأخطار، ولربما بكلبيته. في جميع الأحوال، مهما كانت أخطاؤه، فذلك لا يبرر الإرهاب، أو يسيغ العنف. لا يمكن أن نضع على قدم المساواة الكلبية أو النفاق من جهة والهمجية. تواجَه الكلبية بالذكاء، وبالمبادئ، أما الهمجية فلا تعامل معها.

لا حوار مع أصحابها، ولا تبرير لأفعالها. أما آخرون فقد وقفوا عند النصوص وضرورة قراءة نقدية لها. وكان سؤالي، هل هذا يكفي، هل يوجد دين بمعزل عمن يحملونه ويؤمنون به، ألا يؤثرون فيه بقدر ما يؤثر فيهم؟ ليست النصوص صماء، طبعا، ولكن المجتمعات ليست ورقة عذراء، هي كذلك، في فهمها وسلوكها تصوغ فهما جديدا للدين.

لعل من الضروري قراءة ماكس فيبر، ودراسته لسوسيولوجية الأديان، هو من فتح فصلا غير مسبوق، في اهتمامه بالدين، خلافا لمدرسة الأنوار التي نصبت الدين خصما لها، مع ديدرو خاصة وأولباك Holbach، وإلى حد ما، فولتير، وخلافا للماركسية التي رأت في الدين زفرة الموتور لعالم بلا معنى، وأفيونا، مثلما هو متواتر. اعتبر ماكس فيبير أن الدين ليس بنية فوقية، بل هو الأساس للنظر للعالم Weltschauung، وهذه النظرة هي التي تحدد السلوك وتؤثر في الفعل. ومن ثمة ربط ماكس فيبير بين الأخلاقية البروتستانية وبين الرأسمالية. الفردانية المرتبطة بالبروتسانية والميل إلى الادخار، على خلاف الكاثوليكية التي كانت تزدري المال، الذي هو من هيأ لنشأة الرأسمالية. قلب ماكس فيبر بناء ماركس، واعتبر الاعتبارات الثقافية، أو الروحية هي المحدد للعالم المادي أو الاقتصادي، وليس العكس كما عند ماركس.

نعم يضع ماكس فيبير، في كتاب “سوسيولوجية الأديان” ما يسميه النموذج الأسمى، L’idéal Type، ولكنه بذات الوقت يحذر مما يسمه الغلاف الثيوقراطي، أي المتن. المتن وحده لا يفسر دينا ما.

ليس المطلوب من المسلمين أن ينسلخوا عن دينهم، أو يضحوا به، ليس ذلك ممكنا ولا مرغوبا فيه، ولكنهم مطالبون أن يلائموا ما بين دينهم وروح العصر، مطالبون، أن يعصرنوا فهمهم للدين، أو بتعبير متداول أن يجددوا أمره، وهذه مسؤولية من يتحمل عبء الحديث باسم الدين، أي علماء الدين. لا يجوز أن يزحزحهم مزحزح عما هو من صميم اهتمامهم، ولكن ذلك لا يعفيهم من التفكير والتحيين، والاستماع إلى خلجات المجتمع والوقوف على أدوائه و أعطابه، وما يعتور العالم وما يتوزعه. التجديد ليس قراءة للنصوص، وحدها، وشرح لها، وشرح الشروح، وهلم جراء، ولا جلسات مغلقة مع علماء الدين وعالماته، ولا بين المتدينين وحدهم. التجديد يفترض قراءة الواقع، ويستحسن أن يكون ذلك بالأدوات العلمية، بعيدا عن الانطباعات وأحكام القيمة، أو الإقناع الذاتي.

ولكن العلماء مع تقديرنا لهم، ومنهم ذوو الفضل والروية والتبصر والحلم، غير قادرين لوحدهم، لا بد أن ينفتحوا على المثقفين الذي لا يصدرون من نفس المرجعية، ولكنهم يلتقون والعلماء في الأهداف، يهمهم تطور مجتمعاتهم تطورا هادئا يعصمهم من الاضطرابات، ويجنبهم شرور الفتن والأهواء، ودعاة القتل و إراقة الدماء. يلتقون وإياهم في الغيرة على حضارتهم. نعم لم يدرسوا النصوص الشرعية دراسة متأنية، ولم يحفظوا المتون، ولم ينطلقوا من الإيمان بتميز لجماعة، أو تفردها، لكنهم يؤمنون بمد الجسور مع المتنورين من العلماء، ويشهد التاريخ، أن المتنورين من العلماء وُجدوا، وبزغوا من رحم مؤسسات تقليدية، ورعوا دعوات تحريرية وإنسانية، مثل محمد عبده خريج الأزهر، أو محمد بلعربي العلوي وعلال الفاسي خريجَي القرويين…

نعم نحن في صميم معركة فكرية، ويمكن أن نكسبها، متى ما تضافرت جهود الخيرين من ذوي الرأي، أيا كانت مشاربهم. ليس الطريق بالهين، ولكن مثلما صدّرت مقالي بشطر هذا البيت الذي ذهب مذهب الأمثال “لا ينال العُلى من لم يركب الصعب”.

 عن زمان 

*مستشار علمي بهيئة التحرير


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading