درس ليس كباقي الدروس. ذلك الذي يلقنه لنا مجهري في الطبيعة، لا يعترف بفوارقنا الطبقية، ولا بانتماءاتنا الفكرية والإيدلوجية ولا بهوياتنا الضيقة أو الواسعة، ولا المنفتحة او المتعصبة. كائن مجهري فيروسي يهاجم دون تمييز بين عبدة الله وعبدة الابقار والأشجار ولا بين المؤمن وغير المؤمن. كل الأمكنة وكل الأزمنة عنده سواء. هذا المجهري الذي لا نعرف له شكلا ولا لونا لكننا نعلم علم اليقين انه يضربنا في مقتل يواجهنا من حيث لا نعلم ولا ندري، يحاصرنا من كل حدب وصوب ونحن حيارى نتحسس جوانحنا ترتعد فوارسنا من شدة الهول وجسامة الموقف، ليس خوفا من الموت لكن خشية الهزيمة التي تعني بداية نهاية هذا النوع الذي هو الانسان. فيروس هويته الاصيلة والوحيدة تكمن في سلب الحياة. هكذا فرضت علينا حرب على عدو يدركنا ولا ندركه بل نحمله في دواخلنا يخترقنا في لحظة مودة يستقر فينا ليطلق العنان لشراهته وشراسته، يفرض علينا الحجر والعزل. يقحمنا مكرهين في حرب ليست كباقي الحروب.
حرب شاملة افقية وعمودية لا تنفع فيها أسلحة الدمار الشامل التي يذخرها من يعتبرون انفسهم أسيادا لهذا العالم يتباهون بها ويمارسون ساديتهم على الحفاة والعراة من بني جلدتهم، يحتكرون كل شيء، يفرضون شرائعهم علينا و يتحكمون في اهل الحل والعقد فينا يحركونهم كقطع الشطرنج. لانهم يملكون ويذخرون أسلحة يعتقد الجميع انها قادرة على ردع كل أنواع الأعداء ما ظهر منها وما بطن. إلا أن هذا المجهري الذي انقض علينا من حيث لا ندري أسقط كل الاقنعة خلال هنيهة من الزمن.
المفارقة هنا أننا أبدعنا بشكل غير مسبوق في التاريخ، في ابتكار أسلحة الدمار الشامل لتذمير الإنسان باعتباره عدوا. الحرب عبر التاريخ وبمفهومها التقليدي هي مواجهة وقتل جماعي وفردي للإنسان من طرف الإنسان هي خراب العمران، و الدوافع لذلك متعددة وترتبط في العمق بهوية السيطرة والتحكم في الثروات المادية والخوف من الاخر باعتباره يشكل تهديدا دائما، الامر الذي يسهل عملية البروباكوندا لإيجاد المبررات الأخلاقية والقيمية لفعله الشنيع في القتل ومصادرة الحياة للآخر الذي يخالفه. كل الحروب تشرعن القتل، والمنتصر ينتشي ويرقص على جثث المنهزم، هكذا هي الحرب، هكذا ننخرط فرادى وجماعات في شرعنة بشاعة القتل. لم نستطع إدراك تلك البشاعة لان كل واحد منا مسكون بهوية قاتلة تعتقد بان هوية الآخر هدفها هو القضاء على باقي الهويات.لكن هذه الحرب الجديدة العدو فيها لا يرتكن الى تبرير قتله بهوية فكرية او ايديولوجية او مرجعية متطرفة ارهابية تستمد شرعيتها من ملة من الملل، او الرغبة في السيطرة على مصادر الثروة. إن العدو في هذه اللحظة التاريخية قاتل وهويته بكل بساطة هي قتل من يتربع على عرش الكائنات الحية في الطبيعة.
لا أحد قبل الجائحة كان يدرك حجم هشاشة النظام الصحي العالمي، بل حجم هشاشة أقوى الأنظمة السياسية والاقتصادية والإجتماعية، ومدى هشاشة النظام الاقتصادي النيوليبرالي الذي لا يؤمن إلا بمنطق السوق وما يفرضه من علاقات اجتماعية وأخلاقية أفقيا وعموديا. ولا يعترف بمنظومة القيم النبيلة للإنسان، كل شيء مشروع –حتى القتل- تلبية لجشع الأشخاص كانوا ماديين لو معنويين.
نظام يقوم على منظومة قيمية أخلاقية فردانية استهلاكية، تحارب بلا هوادة ما تبقى من القيم الاجتماعية التي تعتبر من منظور النظام الرأسمالي المتوحش تقويض لتطوره و معيق لبسط هيمنته على كافة شعوب العالم. إلا أنه اصيب بشبه انهيار امام هذا العدو الذي يقاسمه الى حد ما مفهومه للأخلاق.
وإذا كان الأمر على هذا الشكل بالنسبة لأقوى الأنظمة، فما بالك بأنظمة مازالت تئن تحت وطأة التخلف على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وتعاني بشكل خطير من تدني مستوى الوعي العام لأسباب متعددة أهمها الجهل والأزمة الهيكلية المزمنة لأنظمتها الصحية والتعليمية. ناهيك عن الضعف المزمن لأنظمتها الاقتصادية وما ينتج عنها من أوضاع اجتماعية قابلة للإنفجار في أي وقت وحين.
في ظل هذا الوضع يباغتنا هذا الكائن المجهري ليسقط كل الأقنعة وليفرض علينا جميعا العودة للنبش في منظومتنا الاجتماعية والأخلاقية. لعلنا نجد سلاحا اجتماعيا وأخلاقيا قادرا على مواجهة هذا العدو الخفي الذي فرض علينا ولو مؤقتا أن نرصص صفوفنا في خندق واحد وبروح وقيم اجتماعية تمكننا من القضاء على ارتباكنا وحيرتنا ودهشتنا لإنجاح استراتيجيات المواجهة وضمان نجاعتها.
إن واقع المواجهة المباشرة للجائحة يستلزم الانخراط الكلي للدولة والمجتمع في خطة شاملة تقع المسؤولية الكبرى فيها على عاتق المجتمع كأفراد وجماعات لأن العدو يحيي ويتمدد وينتشر عبر ذواتنا وبذواتنا ولا يمكن محاصرته والحد من انتشاره وممارسة قتله العشوائي إلا إذا تشكل الوعي الجماعي والمجتمعي بضرورة الوقاية وهي أقوى أسلحة المواجهة، ولن تتأتى إلا بالحد من المخالطة والاختلاط بمعنى الانضباط التام للاستراتيجية الحجر الصحي الشامل. لان نظامنا الصحي شديد الهشاشة ، ولأن قدراتنا الاقتصادية والمادية متواضعة وغير قادرة على رفع التحدي. ولأن الوضع العالمي يفرض علينا موضوعيا أن نواجه مصيرنا كدولة ومجتمع في عزلة شبه تامة، وهو مصير كل دولة ومجتمع. ربما لأول مرة تجد كل دول وشعوب العالم نفسها في خندق واحد وفي حرب موحدة لمواجهة عدو واحد يهدد الجميع دون استثناء لا يهاب حق الفيتو ولا امتلاك القنبلة النووية واحتكار العلم والتكنولوجية وتكديس الثروات واكتنازها. اليوم لا مفر من المواجهة وأن العامل الحاسم فيها هو تفعيل مبدأ وقيمة التضامن بمفهومه الشامل الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي إنه في طليعة منظومة القيم ذات العمق الاجتماعي التي يجب الايمان بأهميتها الحيوية في المواجهة والسيطرة على الفيروس.
اننا لا نملك إلا خيار الوحدة والتضامن في ظل هذا الوضع الخطير والغير متحكم فيه ان العدو كما يقول محمود درويش :
حاصرحصارك لا مفر …
اضرب عدوك لا مفر …
سقطت ذراعك فالتقطها
وسقطت قربك فالتقطني
واضرب عدوك بي
فأنت الآن حرٌّ وحرٌّ وحرٌّ
الحرية هناك هي الحرية هنا والانتصار هنا انتصار هناك، وان كان جزئيا ومؤقتا. لان الانتصار الحقيقي يتجسد في تمكين المجتمع من الأسلحة الحقة والدائمة في الزمان والمكان من خلا نظام صحي وتعليمي قويين لاحتضان مقومات المناعة الذاتية بتملك المعرفة العلمية لان العلم نور قادر على كشف العدو مهما كان حجمه وشكله نور يمكننا من رصد وضبط تحركاته وبالتالي السيطرة عليه. ان أخطر ما نواجه الآن هو التحاف الموضوعي بين هذا العدو والجهل المركب المتمكن من فئات واسعة من افراد المجتمع. ولعل ما وقع في بعض المدن لخير دليل على شساعة رقعة الجهل والتي تستغل من طرف البعض لخلق نوع من الارتباك بدوافع ظلامية تعكس بنية ذهنية وثقافية معادية لمنطق العقل والعلم. وبالتالي فإن اخطر شيء في هذه المواجهة هي الجهل المغلف بالدين. معادلة وتركيبة قاتلة ومميتة التعامل معها يتطلب حكمة وحنكة وطول النفس.
إن الحرب معارك وعلى عدة واجهات وجبهات ولا مجال للخطأ لذا أصبح وضع كل التناقضات والاختلافات في حالة كمون كضرورة موضوعية تفرضها طبيعة المواجهة من اجل صيانة الحياة أولا.مسؤوليات الدولة ومؤسساتها كبيرة وتاريخية في خلق الاجواء السياسية المناسبة لبناء الثقة في المستقبل.
إن ادارة الحرب بنجاعة يقوم اساسا على مبدأ التضامن على كافة المستوىات حيث يجب التعامل مع هذه القيمة بمبدئية كاملة في الازمة كما في الرخاء لأنه لا مفر للجميع من اعادة النظر في طبيعة المقاربات والسياسات العمومية التي أنتجت الهشاشة والضعف في كل شيء، وفي الفعل الميداني على مستوى كل القضايا المجتمعية. هذه الجائحة التي لا تستثني احدا ولا يمكن الهروب من مواجهتها. وأن الانتصار عليها يتطلب أسلحة غير عادية تختلف تماما عن الاسلحة التقليدية. جنودها لاعلاقة لهم بالثكنات العسكرية و انضباطها وقوانينها الخاصة. كل افراد المجتمع بدون استثناء يجدون انفسهم محاربين مرابطين كل من موقعه في خطوط المعركة بأبعادها العالمية والوطنية. من بلاد الصين وفارس الى روما وبلاد الانوار مرورا بمدريد الى الرباط وما بعدها في اتجاه الجنوب و الشرق الحرب واحدة والعدو واحد والمصير واحد.
الآن وبعد أن توقفت كل الدروس والمحاضرات وأقفلت المدارس والجامعات والمساجد والكنائس والملاعب والمسارح… أبوابها حان الوقت لاستيعاب الدرس الذي يلقنه لنا هذا المجهري القاتل.
يوسف مكوري
الرباط في 23 مارس 202.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.