كثير من المغاربة لا يعلمون أن أجدادهم جربوا الداعشية، قبل 9 قرون مضت، قبل ظهور داعش الحالية. ليس الأمر هزلا ولعبا بالكلمات، بل هو جد مبني على دراسة علمية وأكاديمية موثقة خرجت من رحاب الجامعة المغربية، قبل ظهور داعش بعقد من الزمن، وذالك سنة 2001 عنوانها : الدولة والمجتمع في العصر الموحدي، إن جل ما تقوم به داعش اليوم والأفكار التي تنطلق منها ليست جديدة وإنما تكرر، حرفيا، ما سبق أن قامت به كل حركة حاولت إحياء الخلافة ومنها حركة أجدادي الموحدية، وهي محاولة تمت مطلع، القرن 6هـ، انطلقت من قرية تفكيت بأرغن (هرغة) على السفح الشمالي للأطلس الصغير، غير بعيد عن قريتي ب20 كلم، وكان سكان هذه القرية التي أنحدر منها، في مقدمة المساندين لابن تومرت 515هـ. لهذا السبب اخترت البحث في تاريخ هذه الدولة التي يعدها المؤرخون أقوى دولة عرفها الغرب الإسلامي، خلال العصر الوسيط، وأكبرها مساحة، لذا نعتوها بالإمبراطورية الموحدية. لكن الهالة التي أحاطت بهذه الإمبراطورية كانت تزول تدريجيا مع تقدم البحث، خاصة حين اكتشافي لهشاشة أسس نظامها الاقتصادي والاجتماعي، كما أن ن خيبتي ازدادت عندما تبينت طبيعتها الداعشية، حسب التعبير السائد اليوم. إذ ليس بين الحركة الموحدية، قبل 9 قرون، والحركة الداعشية اليوم، إلا بعض الاختلافات البسيطة والتي تعود إلى خصوصية المجتمع المغربي آنذاك، مقارنة بخصوصية الثقافة المشرقية الآن. وفي ما يلي بعض الأفكار والأعمال المتشابهة والمشتركة بين الحركتين، وكأن التاريخ يكرر نفسه، بعد 9 قرون:
أولا، الأفكار المؤسسة لمشروع الخلافة الموحدية واستبدال دولة إمغارن:
اعتمد أجدادي الموحدين على أفكار كثيرة لبناء مشروعهم السياسي المتمثل في محاولة إحياء الخلافة الراشدة، مستقاة من كتب التراث الإسلامي، نقتصر على ذكر فكرتين.
1ـ فكرة تكفير المجتمع ، بدأ ابن تومرت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تماما كما يفعل المتأسلمون اليوم، انطلقت حركته السياسة من مذهب ديني يعتمد فكرة التكفير، كما لدى داعش اليوم، وذالك باتهام المرابطين بأنهم مجسمين أي أنهم يجسدون الصفات الإلهية كالسمع والبصر والساق …ويقولون إن الله يسمع ويبصر مثل البشر، أتى ابن تومرت بفكرة أبو الحسن الأشعري في العقائد التي لا تجسد الصفات الإلهية في عقيدة التوحيد، ومن هنا جاء اسم الدولة الموحدية، أي أنهم هم الوحيدين الذين يوحدون الله بالطريقة المثلى. المهم وجد ابن تومرت ذريعة لتكفير المجتمع في مسألة لا تخطر على بال أي مغربي مسلم عادي آنذاك، لتبرير شن الحرب عليه باسم الدين والسيطرة عليه وعلى خيراته. وجدير بالذكر الإشارة هنا إلى أن المذهب السلفي الوهابي، حاليا، يدعو إلى التجسيم لأن عدم تجسيد تلك صفات الله يجعل متلاشيا وغير موجود في نظره، فنحن الآن كفار في نظره. مهما فعلنا فنحن كفار لدى المتأسلمين، سواء جسدنا صفات الله أو لم نجسدها، لأن المهم لديهم أن يختلقوا ذريعة ليحكمونا ويسيطروا علينا أو يقتلونا باسم الدين.
2ـ فكرة إحياء الخلافة الراشدة: الحركات والكيانات السياسية التي قامت في المغرب، قبل القرن 6هـ، لم تدع الخلافة أو نظام الاستبداد المشرقي، لأن البنية السوسيوـ ثقافية الأمازيغية، كانت مناقضة ومتعارضة مع النموذج الوافد مع الإسلام (ملاحظة: لفهم أفضل للتاريخ المغربي، في الفترة الإسلامية، ينبغي فهم الثقافة الأمازيغية والثقافة المشرقية التي وصلتنا عن طريق العربية الوريثة الشرعية لتلك الثقافة، لأن تفاعل هاتين الثقافتين هو ما رسم ملامح تاريخنا، حسب ما استخلصت من تجربتي المتواضعة في البحث التاريخي المغربي). فالكيانات السياسية المغربية ألأولى، كانت أقرب إلى دولة إمغارن أكثر من قربها من دولة الخلافة، حتى بداية القرن 6هـ. رغم تسميتها من طرف المصادر ب”الإمارات” كبني مدرار، برغواطة والأدارسة والإمارات الزناتية، كالمغراوين. وكان المرابطون أول من تلقب بلقب إمارة المؤمنين، ومع ذالك احتفظوا، ببعض التنظيمات الأمازيغية، منها عادة الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية. وبعد توطد الإسلام في المغرب وتقدمه، سيجرب المغاربة تطبيق المثل الأعلى والنموذج المثالي الذي تطمح إليه جل الحركات الإسلامية، وهو إحياء الخلافة الراشدة، وقد تمت المحاولة بقيادة الحركة الموحدية، مطلع القرن 6هـ، لكن الأسس التي قامت عليها لم تكن قوية، كما سبق الذكر، لذا انهارت بسرعة، مثلها مثل الحركات المشابهة لها، فعاد المغاربة بعد هذه التجربة إلى تقاليدهم السياسية القديمة. وفي ما يلي توضيح لكل هذه الأفكار.
لم يكن أجدادي المصامدة في حاجة لاقتباس، نموذج الخلافة من المشرق، بل وجدوه في كتب التراث الإسلامي من فقه وحديث والسيرة والشعر و كتب التاريخ التي تدرس مع تدريس الدين، فقد نهلوا من نفس المرجعية التراثية الذي استندت عليه داعش أيضا اليوم. لهذا لن نستغرب إذا لاحظنا تشابها تاما بين مبادئ وتصرفات كل من الحركة الموحدية قبل 9 قرون وحركة داعش اليوم.
ثانيا، تصرفات الموحدين وتنظيماتهم لا تختلف عن مثيلتها لدى داعش اليوم.
1ـ أحدث الموحدون تنظيمات سوسيوـ اقتصادية، حسب بعض المعايير الفقهية في باب الجهاد والغنائم من المدونات الفقهية ( انظر: الدولة والمجتمع…) أحدث البغدادي تنظيمات صورة طبق الأصل لتلك التي وضعها ابن تومرت حين نظم أنصاره اليوم، حسب نفس المعايير الفقهية، بدءا بأهل العشرة ثم بقية الطبقات حسب تاريخ الانضمام للحركة. وادعي كل منهما الشرف والانتماء لقبيلة قريش. وقام كذلك بتصنيف أتباعه إلى الأنصار والمهاجرين، وآخا بينهم… وسمى المنشقون بأهل الردة. لذا كنت أقول للطلبة لم يتغير شيء من الفكر الديني المغربي من عبد الله بن ياسين فقيه المرابطين إلى عبد السلام ياسين مؤسس جماعة العدل والإحسان، التي تدعو اليوم إحياء خلافة مغربية ثانية بعد الخلافة الموحدية والتي لن تختلف عن شكل خلافة البغدادي اليوم. انظر ردي على عبادي (بجريدة: نبض المجتمع في نسختها الإلكترونية عدد 23).
2ـ الفتوحات وتطبيق الحكم الفقهي “الأرض المفتوحة صلحا” والأرض “المفتوحة عنوة” أي بالسيف. إن فكرة اعتبار غير المنضمين لمذهب التوحيد كفارا، تقتضي بالضرورة إعلان الجهاد ضدهم وفتح أرضهم حتى يوحدوا، وتطبيق الأحكام الفقهية في هذا الشأن وهما الحالتين السابقتين: الصلح والعنوة. لكن في كلا الحالتين يستولي الحاكم الجديد على أملاك السكان، ويمكن للفاتح في حالة العنوة أن يستعبد السكان أو يقتلهم أو يطلقهم، ويسبي نسائهم وأولادهم، مثلا باع الموحدون الدكاليات ببضعة دراهم فقط ، كما يبيع داعش، اليوم، اليزيديات (انظر عبد الواحد المراكشي: المعجب في تاريخ المغرب وغيره). لكن في حالة الصلح يؤمنهم الفاتح على أرواحهم فقط. انظر باب الجهاد والغنائم في كتب الفقه. وهو نفس السيناريو الذي تطبقه داعش حاليا. هذه الحروب تسميها المصادر الموحدية “غزاوات” و”فتوحات”، كما قام ابن تومرت باستبدال الأسماء الأمازيغية بالكنى التي تستعملها داعش اليوم كأبي حفص عمر الذي سمى به ابن تومرت أحد أصحابه العشرة الذي كان يسمى من قبل إيلارزك ( المحظوظ)، وهو جد الحفصيين بتونس.
3ـ الطابع الدموي للحركة: لا حظ بعض المؤرخون القدماء والمعاصرين، الطابع الدموي والمتشدد للحركة الموحدية (ما نسميه اليوم التطرف) سواء في نوعية العقوبات التي فرضها ابن تومرت على أتباعه برباطه بهرغة وتنمل، إذ فرض القتل في 18 مخالفة بعضها لا توافق الفقه والشرع، بينما عبد الله بن ياسين فرضها فقط في مخالفة واحدة. كما تتجلى أيضا في تصفية المعارضين السياسيين (المرتدين) حيث اشتهرت عمليتين سميت الأولى ب”التمييز” والثانية ب“الاعتراف” أجبرت خلالها القبائل المشكلة لعصبيتهم بقتل من يشك في ولائهم للحركة الجديدة، وذبح عشرات الآلف من أبنائها. هذا هو تعامله مع أتباعه أما الآخرين فحدث ولا حرج. هذا مع العلم أن الحكم بالقتل شيء دخيل آنذاك، إذ لا وجود له في عقوبات الأمازيغ لأن أقصى عقوبة لديهم هي أزواك أي النفي ومنها “مزواك فيك” بالدارجة بمعنى أطلب اللجوء لديك. وهناك أمثلة أخرى يمكن الاطلاع في المصادر والمراجع التاريخية.
كان الهاجس الأكبر لدي، خلال إعداد دكتوراه الدولة عن الموحدين، ليس هو الأفكار الدينية التي استند عليها أجدادي، خلال تجربة إقامة النسخة المغربية للخلافة الراشدة، ولا الأعمال الوحشية التي ارتكبوها باسم هذه الأفكار في حق سكان الغرب الإسلامي، بل كان الهدف الرئيسي هو فهم طبيعة هذا النظام الذي أقاموه على الشكل الذي تحاول داعش إقامته الآن، وما يحلم به شيخ جماعة العدل والإحسان المغربية والذي دعا إلي ضرورة إحيائه مؤخرا، ولو بضرب الأعناق، وبعبارة أخرى، محاولة فهم لماذا انهار مشروع أجدادي بسرعة كبرى؟
ثالثا، فشل التجربة الموحدية وانهيار مشروع الخلافة
فشل المشروع الموحدي، بعد قرن من إقامته، كغيره من المشاريع المشابهة السابقة واللاحقة والمبني على نموذج الخلافة الراشدة المعتبر النموذج الأمثل للمتأسلمين، لأنه نظام غير قابل للحياة بسبب ميكانيرماته وتناقضاته الخاصة، لكن انهياره كان أقل من السرعة القياسية لانهيار النموذج الأصلي (عمر الخلافة الراشدة هو 30 سنة فقط)، وهو أقصر عمر في تاريخ الكيانات السياسية الإسلامية والأكثر اضطرابا، بسبب اشتداد الحروب بين الصحابة من الأنصار والمهاجرين وبينهم وبين غيرهم من المسلمين، قتل خلالها 3 من 4 خلفاء، كما تمخضت عن المذاهب الكبرى المشهورة، من شيعة وخوارج وسنة.
اتبعت الخلافة الموحدينة نفس السيناريو السياسي والعسكري الذي نفذته الخلافة الراشدة وكل دول السابقة لهم واللاحقة التي تحاول إحياء نموذج الخلافة (الخلافة الأموية في نسختها المشرقية أو في نسختها الأندلسية، أو الخلافة العباسية، مع بعض الاختلافات، ثم الخلافة الفاطمية بإفريقية. وهو مسار يتكون من أربع مراحل، وكل مرحلة تستغرق مدة جيل تقريبا، (الجيل في عرف المؤرخين يتراوح بين 25ـ35 سنة في المعدل). يقوم الحاكم، في كل فترة من عمر الدولة، بأعمال وأنشطة نجدها مستنسخة، حرفيا، من حكام جل الكيانات السياسية الأخرى، بغض النظر عن زمان ومكان تواجدهم. بل إن المؤرخين، رغم تباعدهم عن بعضهم البعض، في الزمان والمكان، يصفون بنفس الكلام تقريبا، نفس الظواهر المرتبطة بعمر معين للدولة التي يؤرخون لها، مثلا يتحدث ابن خلدون نقلا الطبري، عن اغتناء الصحابة في عهد الخليفة عثمان (22ـ36هـ) ويذكر نماذج لثروات بعضهم، ويتحدث ابن صاحب الصلاة عن اغتناء الموحدين بمراكش بين سنوات 558ـ 580 هـ. كما نجد أيضا، عادة لدي حكام الدول المغربية، تتمثل في إصدار رسائل النهي والأمر بالمعروف موجهة للعصبية الحاكمة وليس للرعية، وردت نماذج كثيرة في المصادر التاريخية المغربية، منذ عبد المومن الموحدي إلى الحسن الأول على الأقل، كما نجد نفس التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسة، التي قد تتخذ أسماء مختلفة، لكنها تبقى صورة طبق الأصل لبعضها البعض، كأننا نشاهد مسرحية واحدة يمثلها ممثلون مختلفون ( الصحابة، الأمويون، الموحدون…) في أزمنة وأمكنة مختلفة: لقد اعتمدوا نفس المعايير التي اعتمدها الخليفة عمر في تقسيم أموال بيت المال المشكلة من خمس غنائم الفتوحات، بين الأنصار والمهاجرين وحدهم دون غيرهم بالمدينة، سنة 15هـ، عندما أنشأ ديوان العطاء، أهمها القرابة الدموية من الحاكم، وتاريخ الانضمام للحركة الدينية (أي بلغتنا الحالية الأعضاء المؤسسون للحركة، حسب، تاريخ الانخراط، ثم القرابة الدموية من المؤسس وهو الذي يصبح حاكما في الغالب، أو ورثته). هذه المعايير هي التي تحدد مقدار ونصيب استفادة الأفراد والجماعات المنضوية في الحركة من الأموال المنهوبة من سكان المناطق المفتوحة، يأتي في القمة الأعضاء المؤسسون ثم التابعين لهم، حسب تاريخ الانخراط في الحزب لكل عضو، دون غيرهم من المسلمين الآخرين.
مثلا في حالة الخلافة الراشدة قسم العطاء على الأنصار والمهاجرين فقط بالمدينة وحدها ( وكان مقدار العطاء في ديوان عمر، يتراوح بين 25000 و200 درهم سنويا، أي بنسبة 8 إلى 1000، حسب طبقة كل شخص، من أسلم قبل بدر 2هـ طبقة، من اسلم بعد بدر إلى فتح مكة 8 هـ كطبقة ثانية، والطبقة الثالثة من أسلم بعد ذالك، مع مراعاة درجة القرابة الدموية للشخص من بيت الرسول).
بعد 500 سنة، اعتمد ابن تومرت سنة 515 هـ، نفس المعايير في تصنيف أتباعه إلى طبقات، وقام خليفته عبد المومن بتحديثها سنة 539 هـ. واقتصرت الاستفادة من بيت المال على الموحدين وحدهم، مثل المهاجرين والأنصار بالمدينة، بينما الرعية لا تستفيد، من بيت المال، بأية مصلحة أو خدمات. أما المقاتلون فيحصلون أربعة أخماس الغنائم وتقسم بينهم حسب نفس المعايير باضافة معايير تتعلق بدرجة تسليح المقاتل المشاة يحلون على نصف نصيب الفرسان مثلا.
بدأت المرحلة الأولى من تاريخ الدولة الموحدية بالفتوحات وأخضعت بالقوة كل شمال إفريقيا وجزء كبير من الأندلس من 518هـ إلى 558هـ و تقابلها فترة 10 ـ12هـ، في عهد الخلافة الراشدة أي حروب الردة، وجزء من عهد الخليفة عمر تقريبا. في هذه المرحلة يهدم جزء من أسوار المدن المفتوحة كما فعل عبد المومن عندما استولى على فاس سنة 541 هـ، ولما سئل عن سبب ذالك أجاب: “سيوفنا وعدلنا سور لها”. وكانت جل الموارد المالية في هذه المرحلة هي الغنائم (أي نهب أموال وممتلكات سكان الغرب الإسلامي)، هي فترة أكثر من نصف قرن، جلها حروب بدون انقطاع، واستطعت العصبية أن تحق انتصارات متتالية، وقلما تعرضت للهزيمة، لأن قوة سيف العصبية ما زال قويا.
ثم تأتي مرحلة ثانية، تتميز بالاستقرار النسبي 558ـ580هـ أيام يوسف بن عبد المومن، وتقابلها فترة بعض السنوات من عهد عمر ثم 6 سنوات الأولى من عهد الحليفة عثمان بالتقريب، تتميز المرحلة بتراكم الثروة في يد العصبية الحاكمة وتزايد مواردها المالية، وقد تحدثت المصادر عن اغتناء الصحابة أيام عثمان (بلغ مدخول طلحة السنوي، أحد العشرة المبشرين بالجنة، بحسب سعر الذهب اليوم 390 درهم مغربي، من العراق 1000 دينار وفي ناحية السراة (وهي الجبال الغربية من السعودية واليمن) أكثر من ذالك، أي أن مجموع إيراداته السنوية من إقليمين فقط، من أصل 5 ولايات (1000×2 × 4,25غ × 29000سنتم) = أكثر من 246.500.000 سنتم سنويا. سأرجع لتناول هذه المسألة لا حقا.
ولوحظت نفس ظاهرة الاغتناء لدى الموحدين بمراكش في عهد يوسف بن عبد المومن بمراكش. في هذه المرحلة المتسمة بالأمن النسبي وتدفق ثروات المناطق الخاضعة لها، يطغى ما يسمي “بالجباية” التي حلت محل الغنائم السابقة، على الموارد المالية لبيت المال. ينصرف اهتمام العصبية الحاكمة، بسبب هذا الثراء الفاحش، إلى الانغماس في البذخ وبناء القصور والرياضات وإلى العناية بالثقافة والفنون، وهنا يستدعى الأدباء والفلاسفة والمغنون (إلى شعبت لكرش كاتكول الرأس غني) ومن أشهر الفلاسفة ابن طفيل وابن رشد…نفس الشيء ينطبق على عهد هارون الرشيد لدى العباسيين، كما ينطبق على تاريخ الأندلس. وتتزامن مع ظاهرة أخرى هي ازدهار العلوم المختلفة وخاصة العقلية منها، التي تنشط تحت راعية البيت الحاكم في هذه المرحلة من عمر الدولة، لكن سرعان ما تتخلى عنها هي بنفسها، كما سنرى. ولم تكن العلوم أبدا مسألة عطاء أو إنتاج طبقة اجتماعية، كما يظن أغلب الباحثين.
ثم تأتي المرحلة الثالثة، وهي مرحلة بداية الشعور بالضعف العسكري، بسبب انغماس العصبية المصمودية في النعيم والرخاء الناتج عن الغنائم والاغتناء، عكس أجداهم الفقراء الذين ليس لديهم ما يخسرونه، هذا الجيل الثالث يصبح متخاذلا ومتواكلا، في الدفاع عن دولته ويصبح سيف الدولة ضعيفا بينما يتزايد ظلمه للرعية بجشعه وبطلب المزيد من المال، وبالتالي لن يستطيع تحقيق الانتصارات كالجيل الأول. ومن المؤشرات الأولى على ذالك، الشروع في إعادة بناء أسوار المدن التي سبق هدمها في المرحلة الأولى، كما فعل الخليفة يعقوب المنصور 582هـ، حين شيد ما هدمه جده من أسوار مدينة فاس، وأكمل ابنه الناصر المهمة. وفي محاولة من البيت الحاكم معالجة هذا الخلل من حالة التخاذل والتقاعس الذي ميز العصبية الحاكمة في هذا الجيل الثالث والذي يهدد أمن الدولة الخارجي والداخلي على السواء، اتخذ حكام، هذه المرحلة، إجراءات وتدابير عديدة تهدف لشيئين: تدابير لكبح ميل العصبية نحو التخاذل والتواكل، ثم القيام بإجراءات للتخفيف من ظلمها للرعية. وبسبب هذه الإجراءات اشتهر حكام هذه الدول الذين يأتون في هذه المرحلة، بالعدل كالخليفة عمر وعمر بن عبد العزيز لدى الأمويين في الشرق الذي سمي الخليفة الخامس، وأبو الحسن المريني، ويعقوب المنصور في العصر الموحدي الذي سيتخذ نفس الإجراءات التي اتخذها نظراؤه بالدول الأخرى، دون علم أو اطلاع مسبق على التجارب السابقة لهم: منها منع الخمر والموسيقى والرقص (منع الطبل في إشارة لأحواش) ولباس الحرير…وجلس يعقوب المنصور للمظالم بنفسه، و معلوم أن قضاء المظالم قضاء خاص بمحاكمة العصبية الحاكمة وحدها والتي لها شرطتها وسجنها الخاصين بها وغير ذالك (انظر التفاصيل في أطروحتنا السابقة)
وبما أن سيف العصبية الحاكمة أصبح مفلولا غير حاد كالمرحلة الأولى، فإن حكام هذه المرحلة سيبحثون عن بدليل له، بعد فشل محاولة معالجة ظاهرة التخاذل والتقاعس، وذالك باللجوء لسيف أكثر حدة وفعالية من السيف العادي وهو سيف الدين الذي يسمح بالتعبئة الدينية للمجاهدين من الرعية عن طريق تقريب الأولياء والصالحين لمواجهة الخطر المسيحي الخارجي، وجعلهم في مقدمة جيشهم في طريقه لأندلس ويقول في حقهم “هؤلاء الجنود لا هؤلاء” وهو يشير لعسكره، وعلق المؤرخ عبد الواحد المراكشي، على هذه القول بقول مشابه منسوب لوالي الأمويين على خراسان قتيبة بن مسلم، في حق المتصوف وزاهد البصرة الشهير عبد الله بن واسع الذي كان في جيشه ينضنض إصبعه بالذكر: “لإصبعه تلك أحب إلى من عشرة الآلف سيف”. وبالفعل حقق يعقوب المنصور، بفضل هذا السيف الديني، أخر انتصار للموحدين في معركة الأرك بالأندلس 591هـ، وبما أن الفلاسفة الذين كانوا في بلاطه لا يمكن أن يتعايشوا، مع رجال الدين، تحت مظلة واحدة، فقد اضطر يعقوب المنصور أن يضحي بالفلاسفة كابن رشد ويمنع الفلسفة ويحرق كتبها، لأنه كان في أمس الحاجة لسيف الدين الفعال في مثل هذه الحالة الخطرة (انظر تفاصيل وحيثيات محنة هذا الفيلسوف والفلسفة في عملنا).
المرحلة الرابعة والأخيرة، مرحلة التدهور والانهيار:
بما أن أصل المشكل يستحيل معالجته بالإجراءات الدينية والأخلاقية وحدها، سيستمر سيف الدولة في الضعف (انظر رسالة ابن القصيرة يصف نفس الحالة عند المرابطين). ستشرع الدولة في الانهيار التدريجي، كلما ضعفت قوتها تثور عليها الرعية التي كانت قد أخضعت بالسيف لا بالإقناع، فتقل الجباية ومواردها المالية مما يتفاقم معه ضعف الدولة وقوتها العسكرية، في هذه المرحلة تتخلى بعض الدول عن مذهبها الذي تبنته في البداية، وتلجأ إلى جيش مرتزق لتعويض جيش عصبيتها المتخاذل (استقدام العرب)، مما يدفع العصبية المؤسسة إلى عرقلة دواليب الدولة والدخول في صراع مع البيت الحاكم، فتأتي عصبية قبلية أخرى وتنقض عليها وتخرجها من دار الملك بمراكش كما فعل المرينيون.
هذه الخطاطة العامة نجدها واضحة، بهذه الدرجة أو تلك، في المصادر التاريخية لكل دولة من الدول الإسلامية، رغم البعد الزمني والمكاني بين كتاب تلك المصادر، وتتضح هذه الخطاطة في كل المجالات التي تدخلت فيها تلك الدول، وتبدو كأن لكل مرحلة عاداتها الراسخة يجبر الحاكم في كل جيل على إتباعها، كما يجبر الممثل على إتقان الدور المسند له في سيناريو نفس المسرحية.
يمكن أن يستنتج من هذه الخطاطة للمراحل الأربعة بعض الخصائص المميزة لهذا النسق السياسي:
1ـ الظلم الاجتماعي وانفصال الدولة عن المجتمع تولد الظلم عن الطريقة المشرقية في توزيع الثروة الذي يخلق فوارق اجتماعية كبيرة بسبب المعايير المعتمدة في ديوان العطاء لدى الخليفة عمر، أكبر رمز للعدل في نموذج الخلافة الراشدة، تلك الفوارق الكبرى لا تسمح بتحقيق هامش من العدالة والكرامة والحرية بين أفراد العصبية الحاكمة نفسها، أما الرعية فدورها مقتصر على تمويل هذا البيت بدون مقابل يذكر، إذ كان المحكومون في خدمة الحكام. من المنطقي، أن لا يصمد مثل هذا النظام طويلا، ما دام لا يحقق الاستقرار والأمن والسلم الاجتماعي، حتى بين أفراد العصبية الحاكمة نفسها. فالمدة التي عرف فيها الموحدون نوعا من الاستقرار النسبي، هي أقل من 20 سنة فقط، من مجموع 150 سنة (515ـ669 هـ) التي استغرقها قيام الحركة أما استتباب الأمر لها نسبيا فهو أقل من 120 سنة الذي يبدأ من احتلال مراكش 541هـ إلى 612سنة هزيمة معركة العقاب المدوية، والتي بدأ معها انهيارها حتى سقوطها 669هـ). لقد لاحظ المؤرخون المعاصرون انفصال الدولة عن المجتمع الذي أحكمت سيطرتها عليه. فالدولة هي دولة لصالح العصبية وليست دولة لصالح الرعية.
2ـ الخلافة نسق سياسي يدور في حلقة مفرغة من العنف
نظام الخلافة يعيد إنتاج ذاته كل 100 سنة تقريبا، في كل منطقة، حتى كسرها النسق الغربي بإرساء نموذج الدولة الحديثة التي تعيش جل شعوب العالم في ظلها اليوم، ومهما كانت تجاوزات هذا النموذج الأخير فإنه حقق نوعا من العدالة والحرية والكرامة ما لم تستطع الخلافة أن تحقق ولو جزءا بسيطا منه، رغم أن المتأسلمين يدعون أن الصحابة أحسن من مشى على وجه الأرض ويصورنهم على أنهم ليسوا بشرا عاديين، يعيشون في المدينة الفاضلة، وأحاطوهم بهالة من القدسية، من أجل النصب على المؤمنين الأبرياء، ويجهلون أو يتو يتيتجاهلون طبيعة نسق نموذجهم القانونية والاجتماعية والاقتصادية… فهو نظام يكرر نفس النسق ويؤدي إلي نفس النتائج ولا يؤدي إلا إلى النفق المسدود والاستبداد والظلم والاقتتال المتواصل “أهل الشقاق والنفاق” والرؤوس اليانعة، التي تعلق على أسوار المدن، وهو نظام ورث عن العصر البابلي على الأقل، كما أوضحنا في مقال أخر وكما تبين الآية 34 من سورة النمل في القرآن في سياق الحديث عن عهد ملكة سبأ: “إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ”.
وقد تنبه الأقدمون إلى هذه الخصائص ولاحظوا أن العمر الطبيعي للدول المشرقية (الإسلامية) كان يقدر ب 100 سنة أو 4 أجيال، في المعدل. أخذ ابن خلدون هذه الملاحظة، عن شيوخ زمانه، وأسس عليها نظريته المعروفة في التاريخ وعمر الدول. هذه هي الميكانيزمات التي تجعل هذا النظام يدور في حلقة مفرغة من الظلم والعنف، ويكرر نفسه كل مائة سنة، حسب ما يمكن فهمه من الحديث: (ِإنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَها). هذه الخطاطة العامة والتقريبية تنطبق على المرابطين الذين عمروا 70 سنة، وعلى الموحدين حوالي 120 سنة…وتنطبق على غيرهما من الدول الإسلامية. وإذا تجاوزت أسرة حاكمة هذا المعدل، فإن ذلك يعود إلى استبدال العصبيات القبلية المكونة لجيشها، مثل البيت العباسي (عمر حوالي 5 قرون) الذي اعتمد على عصبية الفرس 100 سنة الأولى، ثم على البويهين، ثم على الحمدانيين، وأخيرا على السلاجقة. فنحن أمام نظام سياسي فاشل غير قادر على الصمود وتحقيق الاستقرار لنفسه مدة طويلة. فماذا كان رد فعل المغاربة بعد تجربة هذا النظام البابلي ـ الداعشي الذي أقامه أجدادي ليستبدلوا به نسقهم السياسي الذي سماه ابن خلدون “دولة إمغارن”.
3ـ عودة المغاربة إلى دولة إمغارن بعد فشل تجربة جدي الداعشي:
انتقد كثير من القدماء التجربة الموحدية لطابعها الدموي الوحشي ولمذهبها (خاصة في مسألة عصمة الإمام المهدي، وفي أشياء أخرى كالأذان، وفي تفضيل المذهب الظاهري على المذهب المالكي)، وانتقدوا كذالك اعتبار الرعية عبيدا، إذ كان الأمراء الموحدون يسمون الأسياد، ومن هنا دخلت كلمة سيدي للدارجة المغربية…وخذا مظهر آخر على أن الدولة في واد والرعية في واد.
وهذا ما لاحظته الدراسات التاريخية الحديثة، واستنتجت أن الدولة الموحدية كانت منفصلة عن المجتمع، منها استنتاج عبدالله العروي، في ختام حديثه عن الموحدين، وقد أوضحت، في أطروحتي، بالاعتماد على أمثلة ملموسة في شتى المجالات عن مظاهر هذا الانفصال (في اللباس، السكن من خلال التحصن في قصبات مسورة حتى داخل دار الملك المحصنة بدورها، الشرطة، السجن، القضاء، المذهب…) ما يؤكد هذا الشرخ الاجتماعي بين الرعية والحكام. هل يقبل اليوم أن تكون الحكومة في واد والشعب في واد؟
كان رد فعل جل المغاربة، أمام فشل هذا النموذج والمظالم المترتبة عليه، هو العودة إلى نظامهم السابق لهذه التجربة: دولة إمغارن والتخلي عن فكرة الخلافة جزئيا لأنها لم تحقق لهم من العدالة ما صور لهم على أنه هو الحكم الرشيد في المدينة الفاضلة الخيالية، وربما يعود ظهور المقولة الأمازيغية: “إرت ستحيات” التي تقال لكل من يريد أن يحقق انجازا معينا بطرق ملتوية، كالكذب والخداع بدون عمل أو حق قانوني، أو النصب باسم الدين، والتي تقال بالدراجة “بغها بالتحيات لله” (المقصود بتحيات التحية لله الزكيات لله التي تقال قبل ختم الصلاة، أي التشهد) ربما يعود إلى هذه الفترة. لأن الثقافة الأمازيغية كانت تفصل بين السلطة الدينية والمدنية، إذ لا يتدخل أكرام أو الفقيه في الشؤون المدنية لأمغار صاحب السلطة المدنية. وقد ظل المغاربة يزاوجون، منذ نهاية الخلافة الموحدية، بين استعمال العربية والأمازيعية وبين العرف والشرع، وبين الخضوع للمخزن (الصيغة المغربية لنظام الخلافة المشرقية) والثورة عليه والعودة إلى دولة إمغارن، أي إلى ما يسميه المخزن والفقهاء، بالسيبة. وظلت هذه الازدواجية مستمرة حتى أقامت الحماية الفرنسية الدولة الحديثة، على أسس الثقافة الغربية العقلانية والحقوقية، التي نستظل، اليوم، بمزاياها جميعا رغم بعض عيوبها. ورغم هذا يأبى الإسلاميون إلا أن يعيدونا إلى دولة الظلم والاستبداد والقهر والاستغلال، لمجرد إرضاء طموحاتهم السياسية للحكم وهلوستهم الفكرية حول نظام أتبث فشله. لقد ولى زمن الجمل والسيف والنصب على البشر، نحن في عصر آخر لا حاجة للحديث عنه، لأن أي عاقل يعرف مزاياه ونواقصه. لكن مثل هذه الأحلام غير مستغربة لدى من يعرف جيدا هذه الثقافة البدوية كابن خلدون، والمتميزة بكونها لا تستطيع الوصول للحكم إلا بالدين، لهذا خصص فصلا في مقدمته، لهذه المسألة، وهو الفصل 27 : “في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية أو ولاية أو أثر من الدين على الجملة”.
المقال القادم، سيخصص، انطلاقا من هذا الفصل من المقدمة، للإجابة على التساؤل: لماذا يصعب فصل المجال الديني عن المجال السياسي في الثقافة العربية ـ الإسلامية؟ تحت عنوان الثقافة العربية لا تسمح للإسلاميين بفصل الدين عن الدولة.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.