أزول بريس – الدكتور محمد همام * //
لا أودع اليوم مفكرا قرأت كتبه وتأثرت بأفكاره، أو استهواني مشروعه العلمي، وغير الكثير من خطوطي الفكرية، ورسم لي قناعات جديدة. بل أودع شخصا أقر بأنه غير الكثير من ملامح شخصيتي. يكاد يكون مدرسة تربيت فيها في شبابي. هي مدرسة مارادونا ( رحمه الله).
أعرف أن الكثيرين لم يعايشوا مارادونا وهو يلعب فوق المستطيل الأخضر. والكثيرون أيضا يحملون صورا إعلامية متحيزة و نمطية سلبية عن مارادونا: إدمان المخدرات، والعلاقة مع المافيا الإيطالية، والوزن الزائد، والمغامرات الجنسية… وآخرون يعيشون زمن كريستيانو وميسي، والجيل الجديد من ممارسي كرة القدم المحترفين، وكثيرون، ربما، سيستكثرون على أستاذ جامعي أن يكتب على لاعب كرة قدم، كما استكثروا عليه أن يكتب عن فنان موسيقي شعبي، وعن ٱخرين من الهامش. وهذا إشكال في التصور و في المعرفة وفي المنهج، ليس مجال مناقشته ههنا . ألتمس الأعذار لكل أولئك، وأقدر كل السياقات التي تنشأ فيها المعارف، وتصاغ فيها الأحكام، وتبنى فيها القناعات، لتتحول إلى رؤى عقائدية، ودوغمائية.
وأما بالنسبة لي، فمارادونا ملهم ، مثله مثل كثيرين ممن ألهموني في حياتي؛ من والدي، ومن أساتذتي ومن شيوخي، وممن تربيت بين أيديهم، من المعلمين والوعاظ والحكواتيين في ( الحلاقي) والفنانين والموسيقيين. وعليه، فكل ماروج عن مارادونا، ملهمي، لم أصدق الكثير الكثير منه، ولم يزعزع ثقتي به ملهما ومربيا للشباب الكروي في جيلي. وكنت أعرف، وعندي أدلة على ذلك، أن دييغو تعرض لحملة غير أخلاقية وغير إنسانية، لتشويه صورته، ولجره إلى دوائر سلوكية، غير مسؤول عنها، كما تم جر الكثير من المثقفين والعلماء والمناضلين في العالم الثالث، من خلال آلة دعائية، وأجهزة استعلاماتية قذرة. ويمكن الرجوع لكتاب فرانسيس ستونر سوندرز Frances Stonor Saunders : ( من الذي دفع للزمار؟ الحرب الباردة الثقافية: المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والٱدابThe culture Cold War:The CIA and the World of Arts and Letters)،(2000)، للوقوف على مخططات إفساد نخبة العالم الثالث، من الموهوبين في كل المجالات، ومارادونا واحد من أولئك.
إن الحديث عن مارادونا، في لحظة الوداع القاسية جدا على قلبي، هو حديث عن أيقونة عالمثالثية؛ تجسد القساوة والتحدي؛ من نظراته الحادة، التي كانت تشعرني بالرهبة، وهو يستمع إلى نشيد بلده قبل بداية المباراة، أو عند تركيزه لتسديد ضربة خطأ مباشرة، أو عند تسديد ضربة جزاء. عودوا إلى الفيديوهات، لتروأ، أية نظرات، وأي تركيز، وأية حدة!! كما تجسد أيقونة مارادونا معاني التحدي؛ قامة قصيرة، وجسد ضخم، نسبيا بالنسبة للاعب كرة قدم، وهو بالمناسبة من اللاعبين القلائل بهذه المواصفات البدنية. وبرغم ذلك تحدى هذا العائق وحوله إلى طاقة خارقة، تجسدها سرعته الفائقة، واختراقاته لغابات من الأرجل، وتجاوزه لأشجار عالية من الأجساد، في غياب حماية كافية من الحكام، وكذا من التشريعات والقوانين الكروية الزجرية كما هو الأمر اليوم. لذلك كانت كل مباريات مارادونا معارك ضد لاعبين عنيفين، وضد خطط( طاكطيكية) تقوم على كسر الخصم، والاعتداء على نجومه ومواهبه، ومارادونا من الموهوبين. ويتذكر المهتمون مواجهة إيطاليا والأرجنتين في الدور الثاني من كأس العالم1982، وماتعرض له مارادونا من المدافع الإيطالي العنيف جانتيلي( لاعب اليوفي أنذاك) الذي كان يرافقه في الملعب مثل ظله. و كانت المدرسة الإيطالية في كرة القدم، ومازالت بنظري، من أعنف المدارس، مما يسميه الإيطاليون واقعية، وأسميه أنا برغماتية قائمة على العنف. مدرسة أهدرت الفرجة، وأخرجت كرة القدم من مجال المتعة إلى حساب عدم الخسارة أولا وأخيرا، وكانت هذه المدرسة الإيطالية السيئة ممهدة لتدخل لعبة كرة القدم إلى منطقة حساب الربح أولا وأخيرا، الربح بمفهومه التجاري وليس التنافسي. وقد وصل هذا النموذج الايطالي إلى نهايته كما نلحظ اليوم. ولكن روح التحدي التي تسكن مارادونا، جعلته يغادر برشلونة ويحترف في جنوب إيطاليا، مع فريق نابولي. وقد حقق فتوحات كروية غير مسبوقة، وسط مدرسة كروية دفاعية ومحافظة جدا. وقاد فريقا مغمورا في الجنوب الإيطالي ليبسط سيطرته على المنافسات الكروية الإيطالية والأوروبية. وفي هذه الفترة ( الثمانينيات) لاتتكلم الأرض الكروية إلا مارادونا.
*أستاذ جامعي وباحث مغربي
التعليقات مغلقة.