تعيش بلادنا منذ أربعة أسابيع على وقع حركة احتجاجية غير مسبوقة، بدأت في الفضاء الإفتراضي كنداء لمقاطعة منتجات ثلاث شركات مؤثرة في مجالات نشاطها الإقتصادي، قبل أن تأخد أحجاما مثيرة وترخي بتأثيراتها على الواقع السياسي والإقتصادي والإجتماعي. فحملة المقاطعة كما هي منذ بدايتها إلى اليوم، تضاف إلى سجل الجيل الجديد من الاحتجاجات التي يتقن نشطائها توظيف الجيل الثالث من الثورة المعرفية، ونقصد هنا الثورة الرقمية وثورة تكنولوجيا الإتصال.
لقد اخترقت حملة المقاطعة كل الحساسيات السياسية والفكرية، وانخرط فيها اليساري واليميني والأمازيغي والإسلامي ومن لا انتماء له، كما شكك في أهدافها آخرون من نفس العائلات الفكرية؛ وقد ساهم في ذاك الإختراق المذهل انضباطها لهندسة التفاعلات الإجتماعية في العالم الرقمي، والتي تتسم بأفقيتها، حيث لا يخضع الفاعلون والمتفاعلون الرقميون لأية رقابة مباشرة أو ضبط أبوي أو سلطة قيادة أو كاريزما. وسعيا وراء كل ما من شأنه المساعدة على فهم أسباب وأساليب اختراق حملة المقاطعة لكل الحركات السياسية والإجتماعية والثقافية، سنقتصر في هذه المساهمة، على قراءة في تفاعل الحركة الإفتراضية الأمازيغية مع الحملة.
نقصد بالحركة الإفتراضية الأمازيغية ” مجموع الفعاليات الإفتراضية التي تساهم في الفضاء الرقمي، سواء بصفة فردية أوجماعية وبشكل مباشر أو غير مباشر في الدفاع عن الأمازيغية أو الإرتقاء بأحد أبعادها الأساسية من لغة وثقافة وهوية”؛ وتتميز تلك الحركة بهويتها السياسية الرقمية الخاصة بها والتي تستمدها من مضمون الخطاب السياسي التعبوي حول قضايا اللغة والثقافة والهوية الأمازيغية؛ كما يمكن أن نميز تنظيميا داخل الحركة الإفتراضية الأمازيغية، بين فعاليات موجودة في الواقع تمت فرضنتها “vertualisé ” وفعاليات بدأت نشاطها في العالم الإفتراضي قبل أن يمتد فعلها وتأثيرها إلى الحياة الواقعية. وبخصوص العلاقة بين الحركة الأمازيغية في الواقع والحركة الإفتراضية الأمازيغية، وجب القول بأن الحدود بينهما تتسم بالنفاذية ” Perméabilité” ، فجسور تواصل وتبادل تربطهما حيث يعطي أحدهما للآخر ويأخذ منه.
ولفك الخيوط المتشابكة لتفاعل الحركة الإفتراضية الأمازيغية مع حملة المقاطعة، لا بد من الإشارة إلى أن هذه الحملة شكل من أشكال إدارة الصراع في مجتمعنا، بأبعاده السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية، بتوظيف أدوات غير تقليدية تنتمي في معظمها إلى العالم الرقمي، فالحملة توظف تقنيات إدارة الصراع الإفتراضي من أجل التموقع في العالم المادي، بما هو مجال للصراع بين من يملك السلطة ومن يسعى إليها ومن تمارس عليه ؛ ولأن الصراعات الإجتماعية قضايا خلافية بامتياز يتصارع بشأنها الفرقاء من المعارضة والموالاة، ارتأينا كمدخل لقرائتنا في تفاعل الحركة الإفتراضية الأمازيغية مع حملة المقاطعة، الإنطلاق من التمييز بين معسكرين أمازيغيين إفتراضيين، أحدهما منخرط وبحماس كبير في حملة المقاطعة، وآخر يتكون من مجموعات غير متجانسة، تتراوح بين الرفض والتشكيك.
- معسكر الأمازيغ المقاطعين:
من خلال تتبعنا لما ينشر على مواقع التواصل الإجتماعي وخصوصا فايسبوك، سواء على الحسابات الشخصية أو على صفحات المجموعات، يتضح بأن شريحة مهمة من النشطاء الإفتراضيين الأمازيغ مساندون لحملة المقاطعة؛ فعشرات من الكائنات الإفتراضية الأمازيغية في حالة تفاعل رقمي آني مع أحداث حملة المقاطعة، تساهم في قراءة مجرياتها والتعليق عليها واقتسامها مع الأصدقاء الإفتراضيين ورواد الشبكة، بغية الرفع من حماس المقاطعين وإقناع المترددين والرد على الرافضين والمشككين. ما ينشره هذا المعسكر من “وسوم” ومعلومات حول المقاطعة، نسخة طبق الأصل لما تنشره صفحات تخصصت في الحملة منذ بدايتها إلى اليوم، نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر : “مول الشكارة”، “فيسبوكي حر”، ” wavo“، “casa bla visa “…
ويبدو أن هذا المعسكر وظف بشكل كبير، التدفق الرهيب للمعلومة وللحوامل الإعلامية “ supports médias“ المساندة لحملة المقاطعة، في كسب معركة التعبئة السياسية وصناعة الرأي العام الأمازيغي المقاطع، والحد من قدرة معسكر الأمازيغ الرافضين والمشككين على المناورة والتمدد. كما أنه يعتمد في جهده التعبوي على ثابت أساسي في الخطاب الأمازيغي، مفاده أن القضية الأمازيغية قضية تحرر فردي وجماعي، ولذلك لا يمكن للحركة الأمازيغية إلا أن تكون بجانب مطالب الشعب في العيش الكريم وضد الإستبداد والإحتكار والليبرالية المتوحشة.
- معسكر الأمازيغ الرافضين أو المشككين :
قلنا بأن معسكر الرافضين للمقاطعة والمشككين في نوايا من ورائها، عبارة عن خليط غير متجانس من الفعاليات الإفتراضية، وهي وإن كانت تتفق على الرفض والتشكيك فهي تختلف حول مبرراتهما. وحتى لا نتيه من كثرة تشعبات هذا المعسكر نقتصر على ذكر أهم مكوناته :
- التجمع العالمي الأمازيغي :
يعتبر التجمع العالمي الأمازيغي، التنظيم الأمازيغي الوحيد الذي أعلن صراحة عن موقفه الرافض للمقاطعة، و تكمن أهمية موقفه في كونه يظم تنظيمات أمازيغية مغربية وأخرى من دول في شمال إفريقيا والشتات الأوروبي. وينطلق التجمع في موقفه من المقاطعة من مفهوم القومية الأمازيغية، حيث أشار رئيسه السيد رشيد رخا، في بث حي على الفضاء الأزرق يوم 28 أبريل، بأنه وإن كان ولابد من المقاطعة فالأحرى أن تستهدف الشركات الأجنبية، وليس التركيز على مصالح رجل أعمال مغربي أمازيغي ناجح، في إشارة إلى السيد عزيز أخنوش. ويعتبر التجمع نموذجا للتنظيمات الأمازيغية الموجودة في الواقع والتي نقلت جزءا من أنشطتها إلى العالم الإفتراضي.
- مجرة أخنوش الإفتراضية وسط النخبة الأمازيغية ” Galaxie Akhannouch“
نعني بمجرة أخنوش، كل التنظيمات المدنية والفعاليات الأمازيغية الإفتراضية التي تدور في فلك مشروع أخنوش سواء في شقه السياسي أو الثقافي؛ مع التأكيد على أن أغلب مكونات هذه المجرة لا تنتمي للمشروع السياسي لحزب الأحرار، بل لها ارتباطات أو لها طموح الإرتباط بالمشروع الثقافي لأخنوش بسوس( نتحدث عن سوس في بعده الثقافي وليس الجغرافي)، والذي حسب ما يتداول هنا وهناك، رصدت له إمكانيات مادية مهمة تستهدف تنمية الشراكات مع المجتمع المدني.
منذ بداية حملة المقاطعة، ركزت مكونات المجرة على استنكار تركيز الحملة على استهداف السيد عزيز أخنوش، متهمة كتائب حزب العدالة والتنمية بالوقوف ورائها، قبل أن تطرح هشتاغات في الفضاء الأزرق (#كلنا عزيز أخنوش). ويبدو بأن مكونات المجرة مشتتة ولا خيط ناظم يربط بينها، فباستثناء إجماعها على رفض الإنتقائية التي ميزت الحملة وتأكيدها على أدوار “آيت أخنوش” في التنمية الإقتصادية والثقافية لسوس، فلا مشروع واضح يجمع بينها؛ لذلك خسرت أغلب معارك التواجد القوي والتمدد في العالم الرقمي. وقد لوحظ مع استمرار حملة المقاطعة، تحول الكثير من أعضاء هذه المجرة من موقف الرفض إلى حالة القبول المبدئي بالمقاطعة مع التشكيك في نوايا بعض الجهات التي ركبت أمواجها لأهداف سياسية محضة.
- معسكر المشككين :
هؤلاء ينهلون من نظرية المؤامرة، ولو أنهم لا يصرحون بذلك، ويكتفون بطرح أسئلتهم في العالم الإفتراضي حول هوية من دعى للمقاطعة؟ ولماذا استهدفت تلاث شركات فقط؟ ولماذا لم تشمل مواد وشركات أخرى؟ كما ينشرون على صفحاتهم كل ما يؤكد مسؤولية عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة الأسبق، في ما يجري؛ باعتباره وقع كل النصوص القانونية والمراسيم التي رفعت القيود عن الأسعار، وشجعت الإحتكار من خلال ما قدمته حكومته للوبيات من تنازلات.
- على سبيل الختم
من خلال ما ذكر، يمكن القول بأنه سواء تعلق الأمر بالأمازيغ المقاطعين أو الرافضين والمشككين، فهم جميعا إما متفاعلين أومنفعلين؛ فمكونات الحركة الإفتراضية الأمازيغية ليست فاعلة في الأحداث، بل مستهلكة لها؛ تتفاعل معها إيجابا أو سلبا في أحسن الظروف وتصوم عن الكلام في أسوئها.
حال الحركة الإفتراضية الأمازيغية ليس سوى انعكاس لحال مكونات الحركة الأمازيغية في العالم الواقع، والتي يمكن تلخيصها في أزمة المشروع الأمازيغي وحاجته إلى إعادة النظر وتفكيك أسسه من أجل تجديدها وتحيينها، إن هي أرادت أن تكون حركة اجتماعية فاعلة، وليس مجرد مجموعات منفعلة من النشطاء.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.