في أمازيغية التيار الموري؟
أزول بريس - عبد الله الفرياضي
لم تشهد الحركة الأمازيغية، منذ نشأتها مطلع تسعينات القرن الماضي، فترة وهن وتضعضع مفجعين كما ترزح تحت وطأتهما اليوم. فقد بتنا نرى رأين العين كيف فقد بعض نشطائها البوصلة فصاروا يخبطون خبط عشواء: لُهاث صاغر وراء سراب أحزاب ظلها ذو ثلاث شعب، إحجام قاتل من مثقفي الحركة عن توجيه الجماهير، خفوت لخطاب العقل أمام زحف الغوغائيات الجوفاء، إقحام للحياة الشخصية في قضايا خلافية مجالها تدافع الآراء لا تصفية الحسابات، تخوين متبادل وتنابز بالألقاب وهلم أعطابا. في ظل هذا السياق المُعْتَل برز تيار ثقافي بخلفية سياسية حرك مياه البركة الثقافية المغربية الآسنة تحت مسمى “التيار المغربي الموري”، فنصب له الغوغاء المشانق وشحذ الطَّغامُ السكاكين، منادين في مناضلي الحركة أن تهارشوا هذا الوافد الذي أتى شيئا نُّكْرًا ويريد بالحركة الأمازيغية سوءا. وهكذا سمعنا من يصف هذا التيار “بالزلايجية” و”التيار الكوري” أو “المخزني”، وسمعنا من أصحاب التيار نعوتا لا تقل تحقيرا من قبيل “متشردي الأوطان”. فانجررنا إلى سفاسف السجال العقيم وأضعنا فرصة ثمينة أتيحت لنا على سبيل تجديد النقاش والحوار حول البنية التنظيمية للحركة الأمازيغية وخطابها.
في رهان الورقة:
لما اعتقدت أنني أوتيت ما يكفي من العلم عن الحركة الأمازيغية، فكرا وممارسة ميدانية، وتأتى لي أن أدرس أساسيات خطاب التيار الموري وألتقي واقعيا بأبرز منظريه وأفحص معهم مذهبهم بندا بندا، تولدت لدي القناعة بأن هذا التيار إنما هو ابن شرعي لخطاب الحركة الأمازيغية وإن لم يكن أعضاءه قد انخرطوا قبلا في أي تنظيم من تنظيماتها. أما ما اعتقده البعض من وجود قضايا خلافية بين الحركة والتيار، فإنما أمر يعزى إلى غياب ثقافة التيارات داخل الحركة، مما كان له الوقع السلبي – تاريخيا – في إعاقة كثير من مبادراتها، ويمكننا في هذا الصدد مراجعة شهادة أحمد عصيد – في كتابه عن سياسات تدبير الشأن الأمازيغي – عن الأثر السلبي الذي خلفه الصراع بين “اليساريين الراديكاليين والمحافظين واليمينيين” على مبادرات أمازيغية مهمة من قبيل “مجلس التنسيق الوطني ومطالب إصلاح الدستور”. يمكننا أن نتفهم أن الحركة في بداياتها التأسيسية وأمام حداثة فعلها التنظيمي كانت مسكونة بهاجس وحدة الصف ولو على سبيل عدم الوضوح الإيديولوجي، لكننا اليوم مدعوون إلى مراجعة هذا النهج من خلال استدماج ثقافة التيارات والتأصيل لها تبعا لمبادئ الاختلاف والتعددية والعقلانية والنسبية التي يقوم عليها الخطاب الأمازيغي. وذلك في أفق التأسيس لمقاربة تنظيمية جديدة قوامها الاصطفاف الإيديولوجي المنبني على مبادئ الحركة والتدبير الديمقراطي لمسألة الاختلافات الداخلية حول الرؤى والمواقف.
في تعريف التيار الموري:
شهد العالم الافتراضي خلال السنوات القليلة الماضية حراكا ثقافيا مغريبا ثريا، انصب بالأساس على قضايا التاريخ والهوية بالمغرب، وذلك عبر إنشاء مجموعة من الصفحات الفايسبوكية التي تراوحت أطاريحها بين مدافعة عن “عروبة” البلاد أو منافحة عن “مزوغتها”. ومن بين هذه الصفحات صفحة “التاريخ المغربي الموري” التي رأت النور سنة 2018 كمنصة متخصصة في إعادة كتابة التاريخ المغربي بالاستعانة بالإمكانات التي تتيحها العلوم الحديثة، لا سيما البيولوجية منها كعلم الوراثة، والإنسانية كالميثولوجيا والأركيولوجيا.. وهي ذات الصفحة التي سيقرر مؤسسوها إنشاء “التيار المغربي الموري” من رحمها.
يعرف هذا التيار نفسه، من خلال بيانه التأسيسي، بكونه مبادرة تعنى “بتعزيز الثقافة والتاريخ والهوية المغربية”، مع تأكيده على “الأسس الأمازيغية المحلية الصلبة” لهذه الهوية، وذلك اعتبارا لكونها “أصيلة في البناء والتشكل منذ آلاف السنين إلى الحاضر”، مع الأخذ بعين الاعتبار كل “مساهمات الحضارات المغربية المورية في التاريخ ]بوصفها [“مصدرا لإغناء هويتنا الأمازيغية وتعزيزها”، وعلى رأس هذه المساهمات مختلف عناصر “التاريخ الموري الإسلامي واليهودي والمسيحي” منظورا إليها بوصفها “أجزاء لا تتجزأ من التاريخ المغربي وامتدادات حضارية تحمل بصمات محلية خالصة”.
وإذ يسجل التيار الموري أن المغرب لم يكن يوما “محط استلاب أو محط تبعية لثقافة خارجية من أي نوع، إلا في فترات ضيقة وطارئة”، فإنه يؤكد في المقابل أن من أهدافه الرئيسية “توعية المغاربة بأضرار الاستلاب الهوياتي ومخاطر الطمس التاريخي”، منوها إلى “اعتباره اللغة الأمازيغية أولوية قصوى، وأنها بمثابة العمود الفقري الذي يقوم عليه التيار الموري بشكل عام”. وهو إذ يتحدث عن اللغة الأمازيغية – كمدخل لإعادة الاعتبار للهويةالأمازيغية الأاصلية للمغرب”، فإنه يشدد على “إيلاء الاعتبار للغة الأمازيغية الأم المركزية بالإضافة إلى تفرعاتها المتعددة والغنية”، وذلك عبر التحسيس بأهمية “خلق آليات للحفاظ على اللغات الامازيغية المناطقية وتثمينها” مع التشديد على أن “اللغة الأمازيغية المعيارية أمر أساسي ومناسب للتحصيل المعرفي العلمي ولتوحيد الصفوف”. بل يضيف التيار الموري، إمعانا في إعلان حداثيته المتناغمة مع الخطاب الأمازيغي، أنه ” يرفض “توظيف الدين والمشتركات الحضارية في الاستغلال السياسي والحسابات الضيقة”.
في أمازيغية التيار الموري:
إن القيام بقراءة سريعة في منطوق البيان التأسيسي للتيار الموري، ستفضي بنا لا محالة إلى تشكيل قناعة مبدئية بأن خطاب هذا التيار إنما هو من جملة الخطاب الأمازيغي. غير أننا لن نكتفي بمجرد سرد أدبيات التيار والركون إلى عملية السرد بوصفها أساس تشكل قناعتنا، بل سنسعى إلى تعميق هذه القناعة بما تيسر لنا من أشكال الاستدلال المنطقي، ولنا في ذلك دفوعات ثلاثة:
الدفع الأول: يقتضي النظر في أمازيغية الخطاب الموري، الفصل أولا في دلالة الحركة الأمازيغية نفسها. فإذا أخذنا بتعريف الحسين وعزي – المضمن بأطروحته عن نشأة الحركة – والقائل بأنها “مجموع الفعاليات التي تساهم اعتمادا على وعي عصري وبكيفية فردية أو جماعية وبشكل مباشر أو غير مباشر في الدفاع عن الأمازيغية أو إنماء إحدى مكوناتها من لغة وثقافة وهوية مع الدفع بكافة مكونات المجتمع لتنخرط بدورها في تلك العملية الإنمائية..”، حق علينا عد التيار من أطياف الحركة اعتبارا لتنصيصه صراحة على “الهوية الأمازيغية الموحدة للمغرب، وضرورة تنميتها ورد الاعتبار إليها”.
الدفع الثاني: ويتعلق بالمبادئ المبلورة لخطاب الحركة الأمازيغية وكيف يمكننا أن نعالج على ضوئها مسألة شرعية انبثاق التيارات من داخل الحركة، ومن ضمنها التيار الموري طبعا. فمعلوم أن أدبيات الحركة الأمازيغية مؤسسة على جملة من المبادئ المستلهمة من المنجز الحضاري الأمازيغي ومن الأصول النظرية لعصر النهضة وعصر الأنوار وفلسفات الحداثة الغربية، وعلى رأسها مبادئ “الاختلاف” و”التعددية” ثم “النسبية” و”العقلانية”. فإذا كنا – نحن نشطاء الحركة الأمازيغية – ننطلق من هذه المبادئ في الدفاع عن الأمازيغية، فالأجدر بنا منطقيا أن نكون في طليعة “العقلانيين” المؤمنين “بنسبية” الحقائق التي نعتقد بها، وأن نقدس حق بعضنا البعض في “الاختلاف” ونشرعن له تحت يافطة “التعددية” و”التنوع”، ما لم يكن في الأمر مروق جلي عن المبادئ المؤسسة للخطاب الأمازيغي.
الدفع الثالث: ويتجلى هذا الدفع في التجربة التاريخية للحركة الأمازيغية بالمغرب، إذ يكفي أن نقرأ كتاب الأستاذ عصيد حول “سياسة تدبير الشأن الأمازيغي بالمغرب” المشار إليه آنفا، لنعلم أن الحركة الأمازيغية – وإن تبدت لنا واحدة موحدة شكلا – فإنها في الواقع مفعمة بالاختلافات البالغة حد التقابل في بعض الأحيان، لا سيما في الجوانب المتعلقة بمسالك العمل النضالي الميداني والمقاربات النظرية / الإيديولوجية التي تصدر عنها التقديرات السياسية لمختلف الطيف المشكل لبنيتها التنظيمية. مما يترتب القول معه بكوننا لم نأت شيئا فَرِيًّا حين ذهبنا إلى التصريح بأمازيغية الخطاب الموري.
في العلاقة بين الحركة والتيار:
تقتضي منا عملية التنقيب عن أوجه العلاقة الناظمة بين الحركة الأمازيغية والتيار الموري الوقوف عند مستويين لهذه العلاقة: مستوى العلاقة المتوهمة ومستوى العلاقة الحقيقية. يتجسد المستوى الأول في ما يخاله الطرفان معا، عن نفسيهما وعن الآخر من تباينات وتناقضات. فبعض نشطاء الحركة، كما تقدم، ينظرون إلى التيار كجسم غريب عن الحركة ذي خطاب مناقض لخطابها، ودفعهم في ذلك ما اعتبروه “عداءا ثابتا منه للأمة الأمازيغية ولوحدة أمازيغ شمال إفريقيا، وعدم أخذه بالراية الأمازيغية شعارا، وبالتالي عدم إيمانه بوحدة تامازغا”. أما التيار فحين يعرف نفسه على أنه “مبادرة مستقلة”، فإن الاستقلالية هنا بقدر ما تحيل على رسم حدود علاقته بالدولة والأحزاب والنقابات، فإنها تستغرق الحركة الأمازيغية أيضا. وهو ما يتضح من تصريح بيانه التأسيسي على إيمانه بضرورة “فتح قنوات التواصل الإيجابي مع جميع المهتمين بالهوية الأمازيغية وعلى رأسهم الحركة الأمازيغية”، ففي هذا التصريح يجعل التيار نفسه مبدئيا خارج الحركة، وذلك على الرغم من إقراره باستفادته من تراكماتها المعرفية.
وإذا كان ثلة من نشطاء الحركة الأمازيغية، كما أسلفنا القول، يذهبون في اتجاه نبذ التيار الموري ويقولون بتعارض خطابه مع خطاب الحركة بمبرر “انغلاقيته القطرية” وعدم أخذه بوحدة تمازغا، فإن منظري التيار بدورهم يعتبرون أنفسهم خارج الحركة، ويؤاخذون عليها أخذها ببعض “السرديات التاريخية” غير المنصفة في حق المغرب في نظرهم. والإشارة هنا إلى تعظيم الممالك النوميدية في مقابل تجاهل موريتانيا الطنجية وكذا مسألة تخوين الملك الموري بوكوس الأول بعد تسليمه صهره الملك النوميدي “يوكرتن” للرومان بعد تحالف عسكري ظرفي بينهما. والواضح هنا أن الاختلاف لم ينشأ عن قضايا جوهرية تمس الأمازيغية كهوية واحدة موحدة وضرورة العمل على رد الاعتبار إليها وتنميتها، بقدر ما هي اختلافات ناجمة عن قراءات ممكنة لقضايا تاريخية تحتمل الصواب والخطأ. لبقى النقطة الخلافية الأخيرة مرتبطة بالتسمية ذاتها، حيث يرفض نشطاء الحركة صفة “الموري” للبس دلالاتها وعدم استغراقها الأمازيغ ككل، فيما يدفع التيار بصواب تبنيه لهذه التسمية تبعا لاجتهادات خاصة به في قراءة مساراتها التاريخية من جهة، ومن جهة لتأكيد نزوعه القومي المغربي ذي البعد القطري.
على سبيل الختم:
قصارى القول بأن المسألة إذن ليست مسألة تناقض حدي، بل إن الأمر لا يعدو أن يكون محض اختلافات طفيفة حول جزئيات هامشية لا يصح معها القول أصلا بوجود خلاف بين الحركة والتيار. مما يتعين معه التصريح بأمازيغية خطاب التيار الموري، وبالتعدي القول بعضويته الكاملة في الحركة الأمازيغية. أما قولنا هذا فليس قولا جزافا ألقيناه على عواهنه من غير بينة ولا برهان، بل هو قول مسنود ، كما تقدم بنا آنفا، بغير ما قرينة وتعِلَّة. مما يتعين التصريح معه بعدم شرعية المساجلات المصطنعة بهذا الخصوص، مع التشديد على ضرورة اغتنام الفرصة لاستئناف النظر في ممكنات تجديد الخطاب الأمازيغي.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.