عز الدين بونيت: الاعتراف والتطبيع

أزول بريس –عز الدين بونيت //
لست أعرف بالضبط ما التقدير النهائي الذي علي أن أتبناه في المستجد الذي يشغل المغاربة منذ الأمس. ولكن هذا ليس سببا كافيا كي أؤجل الكلام. لا أكتب كي أعلن موقفا مبدئيا مبرما ينطلق من قناعاتي الراسخة، أو يزعم أنه ينطوي على التقدير الأكثر رجاحة والأشرف والأشد إخلاصا لقضية تحرر الشعب الفلسطيني المضطهد.
قناعتي نحو حقوق الشعب الفلسطيني وقضايا التحرر في منطقتنا تغذت على مدى عقود من التيارات الفكرية التي تقاسمتُ اعتناقها مع جيلين من الديمقراطيين التقدميين والتحرريين المغاربة والعرب والإنسانيين. ترعرعت في جيلين تجرعا مرارة الهزائم والانكسارات والخيبات، ولكنهما ظلا متسلحين إزاءها باليقين والأمل الراسخ في جدوى النضال المستمر، والصمود في وجه الرأسمالية الإمبريالية وأذنابها المحليين المساومين على حقوق شعوبهم من أجل خلاصهم الشخصي. كنت، ولا أزال أرفض تبرير أي تراجع في المواقف ينتهي إلى التفريط في حق الشعب الفلسطيني في التحرر من الاضطهاد الذي يمارسه الكيان الصهيوني على حاضره ومستقبله ووجوده، أو التواطؤ (حتى ولو كان غير مقصود لذاته) لتبرير جرائم هذا الكيان الاستعماري والعنصري الغاشم، عبر الاعتراف بالوضع القائم وتحويله إلى وضع طبيعي موهوم، وتسليم المعتدي صك براءة يغسل به يديه من جرائمه ضد الإنسانية.
لكن، ما الذي حدث بالأمس؟
قرأت المواقف الذي عبر عنها كثير من رفاقي؛ منهم من فوجئ بالتطورات، ومنهم من صدم، ومنهم من شعر بخيبة أمل، ومنهم من كان له تقدير مغاير، يزن عناصر الموقف من كل زواياه. والحق أن الحدث مركّب وغير مسبوق في تجاربنا السياسية، ولا نملك من عناصر لتقويمه سوى رصيدنا السابق من المواقف والمبادئ وشبكات التحليل والقراءة؛ وهي جميعها بنيت في ضوء تجاربنا السابقة التي كانت تصنف ما يحدث في إحدى خانتين: خانة الإيجابي (وقد كنا نضع فيها تلقائيا كل المواقف او الأفعال السياسية التي تتماشى عموما مع رؤانا وانتظاراتنا الإيديولوجية)، وخانة السلبي (التي نضم فيها كل الأفعال والمواقف التي نقدر أنها تنطوي على خيانة أو تخادل أو تواطؤ، دائما من زاوية تقديرنا الإيديولوجي وقناعاتنا السياسية).
الحدث مركب، لأنه يتكون من حدثين في الواقع: حدث تغيير الموقف الأمريكي الرسمي من قضية الوحدة الترابية للمغرب، وحدث تعديل الموقف الديبلوماسي المغربي من صيغة العلاقات الرسمية بين الدولة المغربية والشوكة الإمبريالية العنصرية المسماة إسرائيل. ولست متأكدا لحد الآن من محتوى موقف هذا الكيان إزاء وحدة المغرب الترابية، وإن كان من المفترض أن يتصادى مع الموقف الأمريكي. ولكنني أتوقع أنه موقف سيكون موضوع لَوْك ديبلوماسي قد يطول، يحاول عبره هذا الكيان – كعادته – اعتصار المغرب أطول مدة قبل الإقرار بحقه في صحرائه، تبعا لدرجة انخراطه في تبعات موقفه الديبلوماسي الجديد، وفق ما يتوقعه منه الصهاينة في أجنداتهم السياسية المقبلة. لكن هذا الاحتمال قد يتغير إذا تمكن المغرب من استعمال كل الأوراق التي صارت بين يديه ضمن التوازنات الجديدة: وعلى رأسها التعامل الصريح والنِّدّي مع هذا الكيان، تحت أضواء الشفافية وتحت أعين مختلف المؤسسات الدستورية الوطنية وفي إطار نقاش وطني مسؤول تؤطره الأسس الديمقراطية، عوض التعامل في جنح الظلام وبضغط من المواقف المسروقة التي يستفيد منها دائما الكيان الصهيوني بالابتزاز الذي يتيحه عدم قدرة الطرف الآخر على مواجهة المحاسبة العلنية، وعزلته السياسية تحت طائل وصمة الخيانة.
أنتظر أن تكون الواقعية السياسية التي انطلقت منها الدولة في تفاوضها من أجل الحصول على اعتراف القوة العظمى الأولى في العالم بالسيادة المغربية الكاملة على الأقاليم الصحراوية حاضرة أيضا في استثمار طبيعة العلاقات الجديدة مع الكيان الصهيوني على قاعدة الشرعية الديمقراطية داخل المغرب، وبين فرقائه السياسيين، وليس فقط باعتبارها ثمنا لمقايضة محدودة الأثر، قد تتحول بمرور الوقت إلى هدية مسمومة كما توقع بعض المحللين. الآليات الدستورية المغربية تسند للبرلمان الاختصاص الحصري للمصادقة بقانون على المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تبرمها الدولة المغربية مع الدول والمنظمات الدولية المختلفة. ولا شيء يمنعنا فوق ذلك، من أن نجعل موضوع العلاقة مع الكيان الصهيوني موضوعا سياسيا خاضعا للنقاش الديمقراطي والمواجهة المسؤولة بين كل القوى السياسية في البلد، خاصة وأنه ربط على نحو لا فكاك منه مع قضية الوحدة الترابية، التي نربطها في أدبياتنا السياسية باستكمال البناء الديمقراطي لدولتنا وبلدنا.
أستعيد هنا ما قام به الراحل الحسن الثاني ذات مساء من صيف 1986، حين دعا على عجل إلى عقد ندوة صحفية مفاجئة، مباشرة بعد تسريب خبر لقاء في إفران كان يفترض أن يظل سريا بينه وبين شمعون بيريز رئيس وزراء الكيان الصهيوني آنذاك، في الصحافة الإسرائيلية؛ حيث فضل الملك التصدي للإعلان عن اللقاء وفحواه وإعادة رسم إطاره، تفويتا لفرصة الابتزاز المعهودة والاستثمار السياسي داخل الكيان الصهيوني. وكانت الندوة الصحفية الوحيدة التي قبل فيها الملك أن يجيب عن سؤال طرحه صحفي مغربي هو الزعيم السياسي الراحل علي يعته في سابقة لم يكن الملك نفسه يتوقعها. كان ذلك التبادل العلني على مرأى ومسمع من الصحافة الدولية بين الملك وزعيم حزب سياسي معارض، ينطوي على بذرة لم يتم استثمارها – مع الأسف – لترسيخ البعد الديمقراطي لطبيعة العلاقات التي كان ينبغي أن تربط بين المسؤولين العرب وممثلي الكيان الصهيوني، مهما كان محتوى هذه العلاقات.
لقد عرف هذا الكيان طيلة أزيد من سبعين سنة، كيف يستثمر بمهارة موقف المقاطعة العربية الذي يحظى بشعبية أسطورية (لم تقبل قط الخضوع لأي اختبار ديمقراطي مسؤول وعقلاني، لا من حيث محتواها ولا من حيث سبل تفعيلها والرفع من كفاءتها ومردودها السياسي المباشر، أو مردودها في فعل المقاومة؛ مما حولها إلى قوقعة جوفاء لا وظيفة لها سوى الابتزاز الداخلي والخارجي، ولا يستفيد منها في صيغتها الحالية سوى الكيان الصهيوني نفسه)، لفائدة فرض مزيد من العزلة على المسؤولين العرب الذين يتورطون في ما يسمى بالهرولة نحو التطبيع، وابتزاز عدم شرعيتهم أكثر فأكثر.
أستحضر أيضا النقاشات التي انطلقت في بداية السبعينيات في وسط الحركة الطلابية المغربية، في زخم المد اليساري الجديد، بشقيه القومي والأممي، والمفاهيم التي أطرت الربط بين القضية الفلسطينية والدينامية الثورية المأمولة، والتي جعلت من الثورة الفلسطينية بؤرة ثورية بالمعنى الذي كان سائدا في حركات مناهضة الإمبريالية عبر العالم في كل من أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا. وتحت تأثير الطلبة الفلسطينيين في الجامعة المغربية، المنتمين إلى فصيلي الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بدأ النقاش يتبلور عن فكرة بؤرة ثورية مغربية تنطلق من الأقاليم الجنوبية، وهو النقاش الذي شكل بذرة أولى لظهور الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (المعروفة اختصارا ب: بوليساريو. ولا بأس هنا من ملاحظة التطابق في التسمية، مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مما يشير إلى وحدة الحلم وتطابق الهدف الثوري)، كحركة تحررية ثورية حلمت بأن تكون جبهة للإجهاز على النظام الرجعي القائم في المغرب، دون أي أفق انفصالي، وترتبط ارتباطا عضويا ومصيريا مع البؤر الثورية الأخرى المأمولة في المنطقة العربية لاستكمال مهام التحرر من هيمنة الإمبريالية وأذنابها المحليين من الأنظمة الرجعية، وتحقيق حلم الوحدة العربية.
حدثت هذه التطورات ضمن سلسلة أحداث طبعت المنطقة العربية، منذ 1963، على الأقل، مع سلسلة من الانقلابات العسكرية التي سميت ثورات (على شاكلة ثورة 1952 في مصر) في كل من سوريا والعراق ثم الجزائر وليبيا، وما يعرف في تاريخ الثورة الفلسطينية بأيلول الأسود سنة 1970 بالأردن والمحاولتين الانقلابيتين في المغرب سنتي 1971 و72، …
كلنا يعرف مآل هذه الأحلام النبيلة، وكل الأحلام الشبيهة بها، حين تم اقتناصها من طرف أجندات دولية وإقليمية واستعمالها (ضد أهدافها الأصلية) لكبح أي أفق للتحرر الفعلي لشعوب المنطقة. لقد تحولت بوليساريو إلى مجرد شوكة في قدم المغرب تزعج وتعرقل خطاه، تستعملها الإمبريالية نفسها التي كانت تلك الحركة في منشأها تحلم بمناهضتها، لابتزاز المغرب، وتعطيل مسار التحرر في الجزائر وإفراغ الإرث الثوري للشعب الجزائري من محتواه من خلال تسليط عصابة لا وجه لها عليه تحكمه قسرا وتستنزفه عن طريق السطو المستمر على الدولة عبر الانقلاب والاغتيال والتسميم المؤدي إلى العجز المزمن. وتستمر في تأبيد العداوة بين الجارين معتمدة على هذا الكيان الشبحي الذي لم يبق من أهدافه الأولى إلا الاسم وقد أفرغ من محتواه منذ أن باعت تلك الثورة نفسها للأجندات الإقليمية الرعناء.
في خضم تلك الأحلام والإخفاقات، تشكلت مفاهيم المقاطعة والتطبيع ورفض التطبيع، ثم الهرولة إلى التطبيع، و”الشعب الصحراوي”، وحق تقرير المصير، والأراضي المتنازع عليها في الجنوب المغربي… هذه تعابير، أضفي عليها بالتدريج مضمون سياسي وديبلوماسي حتى أضحت حقائق ذات تأثير في السرديات المشتركة لشعوب المنطقة.
هل ما زالت هذه السرديات تؤدي الوظائف التي كانت تؤديها عند نشأتها؟ أم أننا اليوم نحتاج إلى سرديات أكثر ملاءمة للوقائع المقبلة في عالم ما بعد الجائحة ونظامه الدولي المرتقب؟ ما الذي يجعلنا نتمسك بمضامين هذه السرديات كما صيغت قبل خمسين سنة أو نتخلى عنها بدعوى الواقعية السياسية؟
لم أكتب لأقرر جوابا حاسما عن هذا السؤال؛ وإنما كتبت لأسهم في التفكير والتحليل المشترك مع بقية المتدخلين قصد الوصول إلى تقويم أشمل لما جرى بالأمس من إعلان متبادل للمواقف الديبلوماسية بين المغرب والولايات المتحدة. بعيدا عن الاصطفاف الحاسم والمغلق الذي تعودنا عليه في مواقفنا السابقة.
بقيت لدي إشارة واحدة أدرجها هنا تمهيدا لأي تطوير لنقاش ابعاد الوضع الناشئ عن هذين الحدثين: وضع الرئيس الأمريكي توقيعه على المرسوم الرئاسي الذي يعترف بسيادة المغرب على الصحراء يوم الرابع من دجنبر، أي قبل ستة أيام على إعلانه الفعلي. فما دلالة تأخير الإعلان إلى العاشر من دجنبر الذي يصادف اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ويصادف في الآن نفسه بدء الاحتفال بعيد حانوكا اليهودي (عيد الأنوار) الذي يستمر ثمانية أيام ويرمز إلى معجزة نصر غير منتظر على القوات الإغريقية الأشورية بعد تدشين هيكل إسرائيل. ويتميز بإيقاد شمعة كل يوم في الشمعدان الثماني الذي يعتبر رمزا من الرموز المشكلة للسرديات الإسرائيلية القديمة. وعلى صفحات الجالية اليهودية من أصول مغربية في إسرائيل، في مواقع التواصل، يتم الربط بين الحدثين (الاعتراف بمغربية الصحراء، وتجديد العلاقات الرسمية بين المغرب وإسرائيل) وبين رمزية حانوكا، على أنه انتصار مزدوج للجالية اليهودية من أصل مغربي وللوطن المغربي الأم. وهذا في نظري، يضفي بعدا آخر لما جرى، لا بد من أخذه في الحسبان في كل تحليل: العمق الديموغرافي للمغرب داخل الكيان الصهيوني، وثقله الانتخابي، لا سيما وأن هذه الجالية تصر على طرح هويتها المغربية في قلب انتمائها هناك

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading