بقلم : الاستاذ الإدريسي مولاي عبد الكريم //
إن السؤال المركزي الذي تردد كثيرا هذه الأيام على لسان الخبراء في الاقتصاد والسياسية هو: كيف سيكون حال النظام العالمي بعد زوال ظاهرة كورونا؟ وهل نحن إزاء ظهور أقطاب سياسية واقتصادية جديدة؟.
يبدو من خلال تصريح أغلب المفكرين والمحللين أن شكل النظام العالمي سيعرف À aèdes مختلفة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وبالتالي تعدد الأقطاب والقوى المهيمنة على الساحة الدولية، مما يدفع المتأمل في مجريات الأحداث الراهنة إلى استنطاق التاريخ من زاوية فلسفية، وذلك استنادا إلى قاعدة ” هل التاريخ يعيد نفسه” من المعلوم أن المجتمعات البشريه عرفت تجارب حضارية متعددة، تشكلت أساسا عبر عوامل عسكرية واقتصادية وسياسية مختلفة، بيد أنه لم يكن في الحسبان أن يظهر “فيروس” معولم وخفي عن الأنظار، يعبر القارات، ويحدث خللا في النظام العالمي رغم قوته الاقتصادية وتقدمه التكنولوجي، وانطلاقا من هذه التطورات المفصلية في عالم “كورونا” فإن “الناس الذين كانوا يهتمون في عهود مختلفة بمسألة سبب الحركة التاريخية فقد اجابوا بأشكال مختلفة على هذا السؤال. لقد كان لكل عهد فلسفته الخاصة في التاريخ”(1).
فمنذ القدم كان الإنسان يبحث عن القوانين التي تتحكم في مجريات الأحداث، ويحاول أن يفهمها، ويجد لها تعليلات منطقية، وظل التفسير الديني (اللاهوتي) في أوروبا إلى غاية العصور الوسطى هو المهيمن في ظل استحواد الكنيسة على دواليب المعرفة، وكان القديس اغيسطين رائد هذه الفكرة، واعتبر ” أن العالم لا يترك نهبا للمصادفات والعلل الخارجية العرضية إنما تحكمه عناية إلهية”(2). هذا التفسير له ما يبرره عند معتنقي الديانات السماوية على المستوى العقدي، غير أن هيجل يرى أن العقل هو الذي يحرك التاريخ (3) في إطار منطقه الديالكتيكي (الجدلي). بينما “وضع فولتير المفهوم اللاهوتي للتاريخ جانبا محاولا تفسير الظواهر بأسبابها الطبيعية” (4). وسلك كارل ماركس اتجاها مختلفا في تفسيره للحركة التاريخية إذ ربطها بالصراع الطبقي حيث خلص إلى “أن السبب الأساسي لمجموع التطور الاجتماعي وبالتالي لكل حركة تاريخية هو الصراع الذي يخوضه الإنسان مع الطبيعة في سبيل وجوده”(5). إن السؤال الذي يستوجب جوابا من فلسفة التاريخ هو: كيف نفسر ما يحدث في النظام العالمي بسبب ظاهرة “كورونا”؟.
لابد أن نقر بداية بأن أحوال العالم في تحول مستمر ولا يمكن أن تسير في نسق واحد ووفق قانون مضطرد وفي هذا الصدد يقول عبد الرحمن ابن خلدون: “إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وثيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والازمنة و انتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والاقطار والازمنة والدول”(6). وعليه فإذا كان التبدل والتحول من سمات المجتمعات البشرية فما الذي يتحكم في هذا التبدل؟ ابن خلدون يرجح العامل الاقتصادي في حين يرى مكيافلي العامل السياسي(7)، لكن أين محل ظاهرة كورونا من هذه العوامل فهي تدفع النظام العالمي إلى وجهة غير محددة المعالم؟.
من خلال إخضاع ظاهرة “كورونا” لنظريات فلسفة التاريخ يمكن أن نستشف منها بعض الملامح الأساسية للإجابة عن هذا الأشكال انطلاقا من نظريتين:
الأولى: نظرية التعاقب الدوري للحضارة (الدورة الحلزونية) فنظرية الدورات أو المراحل “هي إحدى نظريات أصحاب فلسفة التاريخ الذين لم تخل تصوراتهم لحركة التاريخ من محاولة لإيجاد إيقاع منتظم مترابط بين قيام ونمو الدولة وقد أرسى ابن خلدون أساس هذه النظرية وأعقبه المنظر الإيطالي فيكو ثم شبنكلر، و رغم ما بينهم من اختلاف في تفاصيل نظريتهم وابعادها الفلسفية وكذلك التاريخية” (8). إن فلسفة التاريخ عند دعاة التعاقب الدوري تقوم على “الرأي القائل بأن دراسة الماضي دراسة متفحصة قد تساعد على فهم الحاضر والمستقبل، فللحضارات مصائر و مراحل يمكن معرفتها بل ولها أعمار محددة، فمن الطفولة إلى الصبا إلى الكهولة إلى الموت المحتم، فدعاة هذه النظرية حاولوا تشبيه الحضارات بالمخلوقات الحية”(9)، ويرى ابن خلدون وهو من رواد هذه النظرية “أن عامل قيام الحضارة هو نفسه عامل تدهورها”(10)، ومن تمة فإن ظاهرة “كورونا” يمكن فهمها في علاقتها بالنظام العالمي وفق هذا التفسير الخلدوني أي أنها مؤثر أساسي في تبدل الأنظمة الفكرية والسياسية في العالم، فهي إذن “حالة دورية تلحق بالمجتمع بعيدا عن التخطيط البشري المباشر”(11)، وقد لا حظ الفيلسوف الإيطالي فيكو “بأن التطور التاريخي يدور في حلقات ثابتة، و لا بد لكل حضارة أن تمر في أطوار متتابعة”(12).
الثانيه: نظرية التحدي والاستجابة “ترى هذه النظرية أن الطبيعة تتحدى الناس فإن استجابوا للتحدي بنجاح فإنهم سوف يتمكنون من إنشاء حضارة قوية ذات شأن وإن هم فشلوا فإن نمو حضارة متقدمة في تلك البيئة عسير كالصحراء في شبه الجزيرة العربية سوف لن يكلل بالنجاح أبدا؛ لهذا فإن نمو حضارة من الحضارات أمر مرهون بمدى استجابة الناس للتحديات التي تواجههم”(13)، وقد اعتبر الفيلسوف البريطاني ارلوند توينبي وهو من أصحاب هذه النظرية “أن الأحوال الصعبة أكثر من السهولة هي التي تولد هذه الأعمال المجيدة”(14)، والعالم إذ يلاحظ كيف استجابت بعض المجتمعات لهذا التحدي (المجتمع المغربي على سبيل المثال) وقاومت الظاهرة الوبائية بمختلف الوسائل في إطار جماعي، و على الرغم من كون “النظرية القائلة بأن الفرد البطل هو صانع التاربخ، فإن الغالبية من فلاسفة التاريخ المعاصرين يرون إنجازات الشعوب والجماعة البشرية هي صانعة التقدم في التاريخ”(15)، ومن تمة فإن “سير التاريخ يكمن في علاقات الأفراد والمجموعات”(16).
إن السؤال القديم المتجدد الذي يعيد صياغة فلسفة التاريخ وفق الظواهر العالمية الجديدة “كورونا” هل نحن أمام نهاية التاريخ على حد تعبير فلاسفة التاريخ أي هل نحن إزاء انتهاء النظام السياسي والاقتصادي والثقافي العالمي الراهن بعد جائحة “كورونا”؟ نهاية الاشتراكية ثم اللبيرالية كان الفيلسوف هيجل يعتقد في زمنه “أن تاريخ العالم يتجه من الشرق إلى الغرب، لأن أوروبا هي نهاية التاريخ على نحو مطلق كما أن آسيا هي بدايته فتاريخ العالم له شرق، إذ على الرغم من أن الارض تشكل دائرة حولها لكن على العكس شرق محدد هو آسيا. فهاهنا تشرق شمس الوعي الذاتي التي تنبعث منها بريق اسنى”(17)، وهل ستشرق شمس الوعي من جديد من آسيا بعد ظاهرة “كورونا”؟ فهل سيظهر نظام عالمي جديد يتحكم في الاقتصاد والسياسية؟ هذا ما يهدف إليه فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ حيث رامى من وراء هذه الفكرة أن يتشكل “تاريخ كوكبي متجانس،تاريخ عالمي شامل لكل الأمم، وبهذا التاريخ العالمي ستسري الديموقراطية وينتهي أشكال الصراع بخلق مجتمع خال من الطبقات”(18). لكن مسألة نهاية التاريخ ستفضي حتما إلى تعارض مصالح الدول الكبرى، وبالتالي إلى الصدام بين الحضارات على حد تعبير صمويل هانتغتون في كتابه صدام الحضارات، كل شيء وارد في عالم ما بعد “كورونا”.
بقلم: الادريسي مولاي عبد الكريم – باحث في التاريخ
الهوامش :
1) بليخانوف، فلسفة التاريخ المفهوم المادي للتاريخ دون سنة الطبع ص 7
2) هيجل، محاضرات في فلسفة التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير بيروت، ط 2 ستة 2007 ص 82
3) المرجع نفسه، ص 82
4) فلسفة التاريخ المفهوم المادي للتاريخ، ص16
5) المرجع نفسه، ص 46
6) عبد الرحمن ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر… دار الفكر بيروت، ط 1988 ص 37
7) هوركهايمر، بدايات فلسفة التاريخ البرجوازية، ترجمة محمد علي اليوسفي، دار التنوير بيروت، ط 2006 ص 15
8) محسن محمد حسين، طبيعة المعرفة التاريخية وفلسفة التاريخ، أربيل ط 1 سنة 2012 ص 68 – 69
9) المرجع نفسه، ص 66
10) رأفت غنيمي الشيخ، فلسفة التاريخ دار الثقافة القاهرة 1988 ص 45
وينظر : أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، مؤسسة الثقافة الجامعة الإسكندرية ط 1975، ص 141
11) طبيعة المعرفة التاريخية وفلسفة التاريخ، ص 66
12) المرجع نفسه، ص 66
13) مجموعة من الباحثين تحت إشراف علي عبود المحمداوي، فلسفة التاريخ جدل البداية والنهاية والعود والدائم، ابن النديم للنشر الجزائر، ط 1 سنة 2012 ص 352
14) فؤاد محمد شبل، دراسة للتاريخ لارلند توينبي، مكتبة الأسرة، ص16
15) مصطفى النشار، فلسفة التاريخ، وزارة الثقافة المصرية ط 1 سنة 2004، ص 52
16) ريمون آرون،فلسفة التاريخ بحث في النظرية الألمانية للتاريخ، ترجمة حافظ الجمالي، منشورات وزارة الثقافة دمشق، 1999، ص 27
17) محاضرات في فلسفة التاريخ، ص 189
18) فلسفة التاريخ جدل البداية والنهاية، ص 480
التعليقات مغلقة.