سوريا: الناقد محمد حسين في قراءة نقدية لرواية “طوفان من الحلوى في معبد الجماجم”
أزول بريس- محمد مجيد حسين
النزوح خارج اللغة في رواية ” طوفان من الحلوى في معبد الجماجم” لأمّ الزين بن شيخة المسكيني.
(لم يعد في مقدورنا في هذا العصر إنتاج قيمنا الأخلاقية وصقلها بسبب غياب التربية الإنسانية وتغول العلم بتجريده وعمومياته، أصبحنا مجرد مستهلكين للرصيد الأخلاقي الذي كونه أسلافنا، فالفضيلة الآن كلمة بلا معنى يضحك المرء منها، وويل لمن لا يضحك). فريديك نيتشه
استهلال
لننحت بحواسنا الهاربة من دلالة النار
لنُفكك ماهية اللغة عبر صدى صرخات الجياع
ولنرسم بدموعنا الساهرة خلف متاريس الضباب
ولنبكي خلسة ولنبتسم حتى تحت أعواد مشانق الفيروسات.
ولنسمع الموسيقا بأرواحنا المُتعبة
ولنسترسل بعمق لنُعانق حبيباتنا خارج منظومة الملموس
ولنسكب ماء الورد على مُحيا الأيقونة أمّ الزين بن شيخة
ولنذوب في طوفان من الحلوى
ولندرس جماليات العبثية في معبد الجماجم.
الخلاصة
استدعاء مركزية اللوغوس عبر التشارك ما بين جذور المنطوق والمكتوب من خلال مونولوج كثيف الدلالة رغم حيز الإشكالية في نواته الضامنة للعبور الآمن لرؤى الروح والمُتمثلة بالكائن التاريخي من جهة والكائن الحداثي المُنتمي لقيم العصر عبر العقل القادر على تفكيك رمزية الحروف وماهية اللقاءات فيما بينها والمنبثقة من مزج عالي التركيب ما بين الإيقاع وجمالية الشكل. هذه الوجبة النادرة تنجح في تحقيقه الروائية أم الزين بن شيخة عبر روايتها طوفان من الحلوى في معبد الجماجم وبمهنية رفيعة خاضعة لجُل مفاهيم علم الكتابة وفقاً (لجاك دريدا).
إرهاصات
أطفال اليوم في العالم الإسلامي عندما يكبرون هم مشاريع للموت إما قتلة أو ضحايا أو سيتباعدون خوفاً من الفيروسات أو سيُقمعون من حكامهم.
والفتيات انحسرت مساحة الجمال في مُخيلتهن, حتى ذاك الحلم العميق والمُتمثل بارتداء الفستان الأبيض وهو الحلم المتفق عليه بين معظم الفتيات في العالم وتحديداً في العالم الإسلامي بات صعب المنال.
هذه الويلات أدخلت الضبابية إلى عالم معظم الشرائح الاجتماعية ..
عودة الأصولية , انتشار فيروس كورونا، ظلم الحكام، الظلم الاجتماعي المُتأصل والمُتوارث وأزمة العقل هذه المنظومة الفظيعة غيرت الموازين وبشكل مُدمر ..
رسائل إلى القتلة:
( نخيل تدمر لا ينحني ) قالها بشموخ عالم الآثار السوري خالد الأسعد وهو مُحاصر برشاشات القتلة فرحل بشموخ.
لهؤلاء المستوطنين في جبلي مغيلة والشعانبي أشجار الزيتون لا ولن تركع للقتلة.
هذه أنفاس أمّ الزين بن شيخة الناطقة باسم الحياة والعقل هناك في بلاد قرطاج.
وصوت الكلمة سيعلو على صوت الرصاص، المجد للإنسانية.
وهناك في كوباني وقفت آرين ميركان الكردية بعزيمة الجبال وتحدت القتلة والموت واستشهدت مُنتصرة.
الرواية والروائية
الروائية التونسية أم الزين بن شيخة نموذجاً:
من خلال روايتها طوفان من الحلوى في معبد الجماجم، قال جبران خليل جبران:
(المرأة التي يتحسن مزاجها من كتاب، قصيدة، أغنية أو فنجان قهوة.. لن ينتصر عليها أحد؛ حتى الحياة تخسر أمامها)
سأمنح نفسي تذكرة سفر في العوالم النفسية للروائية أمّ الزين فهي كتبت هذه الرواية من منظور عقلاني يرتكز على منظومة من الطمأنينة والتصالح الداخلي، أي أنها نظمت علاقتها مع ذاتها ومع الحياة من خلال التوافق الانسيابي ما بين المشاعر والعقل، وهو بدوره يعمل عبر المشاعر.
هنا يُمكننا أن نستنتج بأن التفاعل ما بين العواطف والعقل قد يمنح الكائن البشري بوابة لفضاءات قد تؤسس لكينونة حقيقية.
العقل في ضيافة العاطفة، والعاطفة في حضرة العقل من أجل خلق الأجواء الأكثر ملاءمة للإنسان المُعاصر.
ميّارى
هل تنتهي الهجرة باللغة أم تُساق إليه بغفلة من السماء
وهل تحرير الأنوثة من التوحش الذكوري بحاجة إلى النزوح خارج اللغة.
وهل التربص هناك بمحاذاة زبدة الذكريات الممكنة في عالم يخوض معارك من الافتراس بدوافع وجودية، في خضم هذا العويل هل يُمكننا رصد جغرافية آمنة للجمال؟
ميّارى هي روح أمّ الزين ورمز الحياة التي تعاملنا بلطف وعفوية, وأحياناً بأنانية بيضاء في ظل تعطل ولو مؤقت للعقول، وهي تُمثل عالم المرأة الداخلي أيضاً في ظل تضخم حجم الأنا في اللاوعي في عالم شاسع تم اختزاله في قرية صغيرة.
مُغامرة في عمق الطوفان:
حلوى حياتنا تُغرق سيوف القتلة، وماء الزهور النابعة من قلوبنا العاشقة للحياة تُنعّم حتى أشواك الكراهية في قلوب القتلة، حيث ستسود ثقافة انتصار البياض على السواد.
فجماليات المساحة تختلف من خلال الأشكال الهندسية، وكينونة الطيور في السماء تختلف من زمنٍ إلى آخر، وأحمر الشفاه يتباين على شفاه الروائيات بحسب انسجام الملامح.
ومشاهد القتل تختلف من مكان إلى آخر وفقاً لمنسوب التماهي مع الموروث الثقافي وضعف الانتماء لقيم العصر وعجرفة القائمين على إدارة الآخر.
ثمة اشتغال تحفيزي في اللاشعور على مواجهة منطق العقل عبر منظومة التخويف والترهيب وباستراتيجية مؤلمة تستهلك طاقاتنا وتشغل تفكرينا أي أنها تُحجّم مساحة البياض في أعمارنا.
ثنائية الموت والحياة تم التطرق إليها منذ القِدم كما هو شائع في النص الأقدم تاريخياً ملحمة جلجامش فما كانت رحلة جلجامش وأنكيدو إلى غابة الأرز حيث الخلود المزعوم إلا محاولة للهروب من جبروت الموت ومن ثم عودتهم بخُفّي حنين, وفي السياق التاريخي تناولت شريحة واسعة من الكتاب هذا الصراع ما بين الحياة والموت. وهنا تتناول المُبدعة أم الزين بن شيخة المسكيني أبعاد الصراع عبر مزج الدوافع الذاتية المُنبثقة من الموروث الثقافي والتربية المنزلية وكذلك المجتمعية من جهة، وكذلك مصالح الدول العظمى التي تُساهم في خلق الأجواء العدائية ذات البُعد الوجودي.
هنا لنقبض على شهد الكلمات من رابية التاريخ ومن خلال عفاف ذاكرتنا العميقة التي تمنحنا جملة من السرديات في فضاء العزف المُنفرد وفي أصداء المواعيد التي تتظلّل في غياب شبه تام للظل الموضوعي في عالم يتغذى على العدائية الخالدة.
رواية طوفان من الحلوى والتي تجري أحداثها في تونس تطرح إشكالية الحياة المُعاصرة وتحديداً منذ 2011 وما يسمى بالربيع العربي وما تلا ذلك المُنعرج من تحولات مؤلمة كظهور الجماعات الأصولية كداعش والتي كانت أكثر الجماعات انتشاراً وسفكاً للدماء والتي نشطت في سوريا، والعراق، وليبيا، وتونس، وجماعة الحوثين في اليمن وجبهة النصرة في سوريا ولبنان…
هذه المنظومة التي تتشارك في اتخاذ القتل وترهيب الناس كمنهج لعملها اللاإنساني واكتمل المشهد الظلامي بانتشار فيروس كورونا وباتت الحياة كمنظومة قاتمة وانحسرت الحياة الاجتماعية، هنا أعلن الموت تفوقه العميق على الحياة.
وبالعودة إلى ينابيع الرواية التي تطرحها أمّ الزين بن شيخة في روايتها طوفان من الحلوى في معبد الجماجم، عندما تقول: ( وأشجار احمرت أوراقها من شدّة كرهها للون الأخضر .. ) هنا نستطيع أن نستشفي جملة من الأفكار من هذه الكلمات: فأوراق الأشجار تم تشبيهها بشكل مُعاكس, فهي خضراء وباتت تُعادي ذاتها، هنا ثمة انزلاق مؤلم في النظرة إلى ماهية الحياة، الأخضر وهو رمز الحياة يتحول إلى الأحمر وهو رمز الموت. ثمة انتقال من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. فتخلخل المجتمع نتيجة ظهور هذا التيار الدموي، واستقطابهِ المُهمّشين والبسطاء و تجنيدهم لقتل الرعاة والأبرياء حيث بات القتل مصدر عيشهم.
لنقطف زهرة أخرى من حديقة الإيقونة أمّ الزين بن شيخة
(الصيف على الأبواب.. وكل البيوت مُقفلة تواجه الفيروس وحيدة.. والمدينة تسقط ببطء شديد وتتظاهر أحيانا بالنعاس.. بين الموت والنوم لا فرق يُذكر)
هنا ثمة تسليط للضوء على العتمة التي خلقتها كورونا فلا يُمكننا عبور الصيف من وراء الأبواب والنوافذ، تتضاءل الفوارق ما بين موتنا وراء الأبواب المغلقة والموت التام، فالمكوث الإجباري يُمكننا مقارنته بالموت السريري، فأجواء الحظر أنتجت مساحات مُخيفة في اللاوعي من الخوف. وسلطت الضوء على جغرافية الهزيمة الداخلية.
هنا ومن خلال النموذجين السابقين من هذا النص المُذهل نستطيع أن نستسيغ جملة من حديقة الفيلسوفة أمّ الزين بن شيخة وهي قدرتها المُتشعبة في رصد فائق الدقة لمنغصات الحياة وجمالياتها، أي أنها تختزل المنحى الظلامي في مشاهد تكعيبية صارمة التأثير، فهي تستهل برفع الستار عن كامل مكامن الجمود والجبن في عقولنا مروراً بالضياع نتيجة إيماننا الهش بالعلم ووصولاً إلى المساحات الضائعة والضبابية في ذواتنا كانعكاس للجانب المظلم للحداثة.
وفي سياق الرواية التي تأتينا ملفوفة بحنان ورُقي لغوي مُنقطع النظير،
الروائية تُجيد الحنكة اللغوية من خلال الربط ما بين إيقاع الكلمات ومدلولاتها المؤثرة والمُتبرعمة، ثمة طرح يكشف للقارئ الحصيف أهمية دراسة تاريخ الأفكار عبر تقسيمات موسيقية, أي أن عملية الانتقال تُحدث ارتباكاً يترافق بمسحة من نبيذ الكينونة التي تمنح الكائن البشري نشاطاً وطاقة لمواجهة تخبطات الحياة.
هنا سنتطرق إلى مفهوم الجمال والفن في مواجهة القتلة، وسنبدأ بتشريح معبد الجماجم، ثمة تشفير لماهية الدلالة، فالمعبد هو مكان للعبادة كيف بات مأوى للجماجم، هنا تُحفزنا الروائية على تعميق منبع التساؤلات للوصول إلى الضوء الكافي لرؤية التفاصيل التي تُساهم في بلورة مفاهيم مُختلفة قد تنسجم مع آلية الحياة الحديثة المُتداخلة ومن مسافات مُتباينة من خلال جملة من التساؤلات المؤثرة ما بين المرء وذاته. فالأطفال حائرون وقلقون فهم في المستقبل وفي ظل الظلامية السائدة هم مشاريع للقتل إما أن يُقتلوا أو يَقتلوا، أي أنهمُ محكومون بالانزلاق صوب منظومة القتلة لطالما نواة الخطاب السائد تُغذي هذه المنظومة.
لنضع أسس المعادلة من خلال الرسام كوشيمار وحبيبته ميّارى رمزي الحياة في عالم أمّ الزين, حيث تُسلّمهما مشعل الحياة في مواجهة القتلة في جبل مغيلة، أي الفن في مواجهة الكراهية المقدسة وفقاً لمحمّد أركون. هنا يتبرعم الصراع ما بين طوفان الحلوى ومعبد الجماجم, وفي نهاية المطاف يقتحم طوفان الحلوى أركان المعبد، هنا ارتكزت أمّ الزين على المدلول التاريخي لمفردة الطوفان الذي يعني القوة المُتفوقة وفقاً للأسطورة الغيبية ميلاد البشرية الثاني الذي جاء نتيجة طوفان النبي نوح الذي جاء بتعاليم جديدة، هنا تسعى الروائية أن تصل بنا إلى منعطف الحلوى التي تُغرق معبد الجماجم, لن نغوص في تفاصيل الأحداث فقد نالت مُبتغاها في هذا الرواق لكثرة القراءات التي تناولت النص ومن مختلف الزوايا. لكننا هنا نسعى أن نتطرق لبعض الجوانب الفكرية العميقة التي نجحت أمّ الزين بن شيخة في تقديمها لنا على شكل موائد مُتلاحقة مُتناغمة عبر التفاعل الصارخ ما بين خصوصية اللغة وتفكيك بنى الأفكار.
والجانب الآخر الذي يحضر في أجندات الرواية وبدفء ممزوج عبر منظومة الجمال، فالروائية من أنصار الانتماء للعالم جمالياً ونبذ الانتماءات الضيقة التي لا تنسجم مع قيم العصر.
طوفان من الحلوى في معبد الجماجم رواية ذات بصمة منفلتة لا يُمكننا اختزالها إلا عبر وضعها في مواجهة حقيقية مع لب المرايا المقعرة والمحدبة التي تعكس ما وراء نبضات القلوب الباحثة عن الحياة الدافئة.
هذا العمل الروائي الشاهق أنجز جُل مهامه بانسيابية وسيميائية وأستيقية، تتصارع في متنها أريج الزهور المتهافتة لمعانقة بذور المحبة والقيم في أعماقنا, هذه صرخات أمّ الزين وقد اجتازت الحدود واخترقت التابوهات وأتتنا حاملة ثورةً من القناديل وبقايا مرسم كوشيمار بصحبة زقزقات العصافير التي أسهبت في بث السكينة في السكون، وعزفت ألحان العبور رغم وعورة الدروب المؤدية لكسر العجرفة الذكورية على الفضاءات الإبداعية، فطوفان من الحلوى تجاوز معبد الجماجم وانتشر في معظم الجهات يُناشد عشاق المعرفة والحياة الآمنة.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.