أزول بريس – ادريس رابح * //
سنة 2018 كان علي أن أوضب حقائبي، وأحط الرحال في يوم ضبابي في مدينة نابولي الإيطالية، المناسبة: المشاركة في مؤتمر دولي حول أليات تدويل الدراسات اللسانية الأمازيغية والتفكير حول تنسيق أكثر مأسسة بين ثلاثة جامعات أوربية عريقة معروفة باحتضانها للدراسات الأمازيغية منذ عقود، وهي جامعة L’orientale نابولي والمعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية بباريس وجامعة إكس مارسيليا، وذلك من أجل التفكير حول مشروع عمل وتكويني متكامل ومشترك توج بعد ذلك بخلق ماستر دولي يتيح للطلبة الدراسة في الجامعات الثلاثة والحصول على شهادة مشتركة. هو إذن حدث مهم، وليس لقاءا عاديا. غير أن ما زاد من أهميته، هو أن الأساتذة الباحثين المشاركين، والطلبة الآتين من الجامعات الثلاثة، سيلتقون وسيكرمون واحدا من مؤسسي اللسانيات الأمازيغية الحديثة والذي لا تكاد دراسة لسانية تخلو من اسمه في المراجع المعتمدة لكتابتها. يتعلق الأمر هنا بسالم شاكر. كان مواظبا بشكل عجيب على حضور تفاصيل المداخلات لمدة أربعة أيام بدون ملل أو كلل. لا يبرح مكانه طوال مداخلته، جالس في الصف الأمام، ناصت رغم كبر سنه، يقدم ملاحظات ثاقبة وإضافات مهمة، يعقب بطريقة توضح أحيانا مضمون المحاضرة أكثر من المحاضر نفسه.
في اليوم الختامي من المؤتمر، حيث من المقرر أن يتم التكريم، أخذ الكلمة، غير أن شكله وطريقة كلامه قد تغيرت هذه المغرب، لم تكن تلك النبرة التي عهدتها عندما حضرت بعض ندواته في باريس، هناك شيء ما تغير. فالنبرة فيه شيء التعب الممزوج بالدموع، دموع من وصل إلى نهاية المسير: فهذه السنة سيتقاعد وسيفتقد مدرجات الجامعة وطلبته. تحدث عن واقع الأمازيغية، تطورها، رهاناتها الكبرى، تحدث عما تم إنجازه وما لم يتم إنجازه، بخلاصة: رسم صورة واضحة وتوضيحية للبحث للساني الأمازيغي وعلاقاته بالسياسي. لم تكن دموعه التي حاول إخفائها لتثنيه عن الوصف بدقة كبيرة، وبتحليل شامل كما عادته، لكن بدا أن الفارس قد استشعر أن الانسحاب من المعركة في هذا الوقت قد أضحى أمرا واقعيا ولا مفر منه، ولكن ليس انسحاب المنهزمين، وليس بمنطق الغالب والمغلوب، بل بمنطق من أدى واجبه وحان الوقت ليستريح ويسلم المشعل لأخرين. هذا المشعل الذي استلمه فعليا الكثيرون وهو مازال يحارب، فأمامه كريم نايت زراد، وبونفور، وديهيا أبروس وجيل من الطلبة والباحثين من كل بقاع العالم الأمازيغي.
توالت كلمات في حق المحتفى به. مالت المداخلات إلى التوديع أكثر منه إلى الإحتفاء. الكل حاول من موقعه أن يصف سالم شاكر وإسهاماته. تحدث عبد الله بونفور وهو صديقه القديم، عن مناقبه، وقدم ملامح شخصيته ومميزاته وبعض مواقفه معه. لكن، الكلمة التي أثرت في الحضور، هو تدخل الأستاذة الباحثة في الأنثروبولوجية أبروس حيث عرجت على مكانة سالم شاكر واسهاماته وهو الذي كان مؤطرا لها في بحثها من أجل نيل شهادة الدكتورة. أبروس شكرته على ما قدمه للأمازيغية وما يمثله ذلك من تطلعات الملايين من الأمازيغ ووصفته بأنه “اساغ اسم نس” وهو أسلوب عريق ومعبر ينتمي إلى الذاكرة القبايلية ويعني أن الشخص المعني يستحق فعليا اسمه الذي عرف به وآهلا لما يقوم به.
لقد كانت فرصة للتعبير عن الاعتراف العابر للأجيال. فالاعتراف، في آخر المطاف، هو نوع من الالتزام. الالتزام هنا يحيل الى تملك قضية، ومن بعدها البذل في سبيلها. لا شك أن كلمة البذل هي كلمة مفتاح إذا ما ابتغينا توصيفا عادلا ودقيقا لشخصية لسانية وأكاديمية وميدانية وحقوقية كسالم شاكر. ليس من العدل حصر عطاءه في ميدان البحث العلمي الرصين وبناء توجها لسانيا أقل ما يقال عنه أنه مدرسة داخل اللسانيات الأمازيغية، وإن كان ذلك في حد ذاته كافيا وشافيا لرسم ملامح باحث متمكن منهجيا وبحثا وتأطيرا، لكن ومن باب الأمانة العلمية التي تقتضيها اللحظة، يجب الإشارة كذلك إلى اعتباره واحدا من مؤسسي ومجددي الخطاب الأمازيغي على مر السنين. فالخطاب الأمازيغي، وكما هو مستشف من بنياته وملامحه ومبادئه، يتميز بنسبيته وقدرته على التفاعل مع الخطابات الموجودة في الساحة عن طريق التفكيك وبناء اليات متجددة بفضل التصاقه بالبحث الأكاديمي في مجمل تخصصاته، فهو نتاج وليس موجه كما قد يبدو، وكما هو الحال في بعض الخطابات الدغمائية والإطلاقية السائدة في بلدان تمازغا الكبرى.
لقد ظل سالم شاكر كذلك منظرا في بعض مقالاته أو في حوارته الصحافية القليلة، أو من خلال مداخلاته لقضايا الأمازيغية في شموليتها، وفي تقاطعاتها مع السياسات الرسمية في دول شمال افريقيا. التنظير هنا ليس من باب ex nihilo أو عن سبيل الإطلاقية التي لا تعدو الا نوعا من الفونتازيا النضالية، لكن هو نتاج وارتباط متين مع دراسات لسانية على المتن اللغوي الأمازيغي وما يثيره ذلك من أسئلة حول المعيرة والتهيئة اللغوية، والشروط القانونية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي يجب أن تتوفر حتى يضمن لكل بحث علمي على مستوى المتن أن يجب مخرجاته على مستوى الأجرأة وتفعيل وتداول الأمازيغية العامة وتنظيم وتكييفها مع الوظائف السوسيولسانية التي ستناط بها. في هذا الإنتقال، خاصة على مستوى طبيعته وأشكاله، برزت اسهامات سالم شاكر في بناء خطاب أمازيغي في شقه الوظيفي ومحاولة الإجابة عن الأسئلة البرغماتية الملحة: أي لغة أمازيغية لأي وظيفية سوسيولسانية ؟ كيف سيتم تهيئة اللغة الأمازيغية؟ بالاعتماد على مقاربة شمولية pan- amazighe؟ تهيئة عن طريق معيرة المتغيرات الجهوية الكبرى؟ ما هي الأولويات؟
مساهمات سالم شاكر تتسم بالواقعية والموضوعية، وكيف لا وهي نتاج لسيرورة طبيعية تبتدئ بالبحث العلمي الأكاديمي، تتوج بخلاصات داخل الحقل العلمي وفق شروطه ومقاربته المنهجية والتحليلية، ليتم بعد ذلك تصريف هذه الخلاصات على شكل مواقف أو مبادئ لخطاب نسبي يتماشى مع الظروف السوسيو-اجتماعية التي أنتجته. هو إذن بناء في البداية، وتحويلي في المرحلة الثانية ليصبح قابل للاستثمار في مقارعات فكرية وسجالية وأيديولوجية داخل الفضاء العام المنفتح على باقي التيارات، ولكن مع الاحتفاظ دوما بصبغته النسبية والموضوعية. هو كذلك سيرورة ليست حصرية على مساهمات سالم شاكر، ولكن لكل الباحثين والأكاديميين الأمازيغيين كقاضي قدور وبوجمعة الهباز في مجال اللسانيات، وبوكوس في مجال اللسانيات الاجتماعية ، والتاريخ كأزايكو، والقانون العرفي لأبو القاسم وبعض المحامين، والهوية والتاريخ الأنثروبولوجي كمصطفى قادري، وعلاقة اللغات الوطنية فيما بينها والذاكرة المتنوعة للمغاربة كمحمد المدلاوي وغيرهم من المساهمين بطريقة مباشرة كانخراطهم والتزامهم الشخصي في الدفاع عن قناعاتهم، أو من خلال أفكارهم وأبحاثهم التي مكنت من مأسسة خطاب متكامل الملامح.
*باحث في سلك الدكتورة بباريس
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.