زواج “الفاتحة”..ظاهرة إجتماعية أم دعارة مقنعة؟
حسنى أفاينو –
شكلت مدونة الأسرة الصادرة عام 2004 منعطفا هاما في تاريخ التشريع المغربي بما هي مشروع وطني حداثي غايته صيانة الحقوق الإنسانية لجميع أفراد الأسرة المغربية استنادا إلى المقاصد الشرعية للمرجعية الإسلامية، واستحضارا للقيم الكونية لحقوق الإنسان.
زواج “الفاتحة”.. الوضعية القانونية
ومن القضايا الجوهرية التي انكبت عليها المدونة، مسألة توثيق الزواج وذلك تطويقا للإشكالات القانونية والاجتماعية التي أفرزها زواج “الفاتحة” (نسبة إلى قراءة سورة الفاتحة عند عقد القران)، وهو زواج يعتبره البعض شرعيا يتوفر على جميع أركان الزواج (موافقة الطرفين، شهود، صداق…)، فيما يعتبره آخرون زواجا سريا بغرض تحقيق أو الحفاظ على مصالح خاصة، وقد ارتبط تاريخيا بالمجتمع التقليدي والقبلي حيث تغيب ثقافة التوثيق، واستمر إلى يومنا هذا وبشكل خاص في القرى والبوادي والمناطق النائية لاعتبارات اجتماعية واقتصادية وثقافية، لذلك جاءت المادة 16 من المدونة فاشترطت في فقرتها الأولى وجود عقد موثق عند العدول وفي المحاكم المختصة لإثبات الزوجية، من أجل وضع حد للهدر الحقوقي الذي يلحق المرأة /الزوجة والأطفال المنحدرين من هذا الزواج لا سيما في حالات التنازع والشقاق بين الزوجين أو في حالة وفاة الزوج أو الزوجة أو غير ذلك من الحالات.
ولتصفية تركة ما قبل إقرار المدونة، وتوثيق جميع حالات زواج “الفاتحة” بالمغرب، أقرت المادة 16 في البداية فترة انتقالية مدتها 5 سنوات سمحت خلالها، وبصفة استثنائية، بإثبات العلاقة الزوجية عن طريق القضاء من خلال تقديم دعوى سماع الزوجية، وقامت وزارة العدل في هذا الإطار بحملات تحسيسية ونُظمت محاكم متنقلة إلى القرى والمداشر، بل تم تمديد هذه الفترة لمرتين أخريين (أي 10 سنوات أخرى) بشكل استثنائي بغرض استكمال عملية التوثيق لكن دون جدوى، إذ تبين استمرار ظهور حالات جديدة لزواج “الفاتحة” وبشكل لافت، وهو ما يؤكده ارتفاع نسبة دعاوى ثبوت الزوجية، ليتحول بذلك الاستثناء إلى أصل، مما وضع مقتضيات المادة 16 من المدونة أمام مأزق واضح.
وفي غياب إحصاءات دقيقة وشاملة حول زواج “الفاتحة” بالمغرب، لا يسع الباحث في الموضوع سوى التعلق ببعض الأرقام الواردة في بعض التقارير أو الدراسات وإن كانت تركز في معظمها على فئة القاصرات، ومنها الدراسة التشخيصية حول زواج القاصر المنجزة من قبل النيابة العامة والتي أشارت إلى أن عدد الأحكام الصادرة بثبوت الزوجية ذات الصلة بقاصرين بلغت في الفترة الممتدة من 2015 إلى 2019 وحدها، 13 ألف و843، وهو رقم لافت، علما أنه يهم 18 قسما لقضاء الأسرة فقط، فيما يشير تقرير شبكة “أناروز” (الشبكة الوطنية لمراكز الاستماع للنساء ضحايا العنف) لعام 2019 إلى أن 25 بالمائة من حالات الزواج دون توثيق تهم القاصرات الأقل من 15 عاما.
هذا الوضع يجعلنا نتساءل ونحن في العقد الثالث من الألفية الثالثة، وبعد مرور أزيد من 18 سنة على صدور المدونة، عن أسباب “الفشل” في تحقيق هدف توثيق زواج “الفاتحة” رغم تمديد الفترة الانتقالية ثلاث مرات على التوالي وعلى مدى 15 عاما؟ وعن العوامل أو الأبعاد السوسيواقتصادية المنتجة لهذه الظاهرة والمكرسة لاستمرارها؟ وكذا الثغرات الإجرائية التي تحد من فعالية المقاربة القانونية المتعلقة بالقضاء على زواج الفاتحة ببلادنا الذي ما فتئت نسبته تتزايد سواء في الداخل أو لدى مغاربة المهجر؟ وما إذا كانت المقاربة الزجرية كفيلة بوضع حد للزواج غير الموثق بالمغرب؟ ثم أليست المقاربة التنموية الشاملة هي المدخل الرئيس للحد من هذه المعضلة متعددة الأبعاد؟
معلوم أن التشخيص السليم لأي معضلة، يعد نصف العلاج وربما أكثر، فإلى أي حد تحقق العمل بهذه القاعدة الذهبية في التعاطي مع إشكالية زواج “الفاتحة”؟ وهل تم بما يكفي تشريح الواقعة في بعدها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ورصد جذورها وسياقات إنتاجها استنادا إلى دراسات معمقة وشاملة حتى يتسنى على إثر ذلك تحديد مجالات وكيفية التدخل بفعالية أكبر؟
التمثلات الاجتماعية بوابة الفهم ثم التغيير
لا ينفك زواج “الفاتحة” كظاهرة اجتماعية متعددة الأبعاد، أن يكون نتيجة طبيعية للتمثلات المجتمعية للعديد من القضايا ذات العلاقة، وبالتالي فإن الوقوف على التصورات الذهنية الحاكمة للمجتمع، واستكشاف بواعث اللجوء إلى هذا النوع من الزواج، يعد وفق العديد من الخبراء السوسيولوجيين وغيرهم من المهتمين، المدخل الأولي في استراتيجية تطويق هذه الظاهرة وغيرها من أصناف الزواج غير الموثق الأخرى الموجودة في واقعنا الراهن كزواج المتعة (زواج ومساكنة بدون توثيق أو إعلان)، وزواج “الكونترا” (اتفاق على الزواج المؤقت من أحد أفراد الجالية بغرض التمكن من الهجرة إلى الخارج مقابل مبلغ مالي موثق كدين…).
وفي هذا الإطار، أجريت دراسة علمية لرصد التمثلات الاجتماعية لزواج “الفاتحة” في المجتمع المغربي إلى جانب الآثار النفسية التي يخلفها هذا النوع من الزيجات. وقد أنجزت الدراسة من قبل أساتذة وباحثين جامعيين وهم جمال الوافي أستاذ التعليم العالي تخصص علم النفس ورئيس شعبة علم النفس بجامعة محمد الخامس بالرباط، وهشام الدمناتي أستاذ علم النفس بجامعة القاضي عياض بمراكش، وعبد الصمد المعزة طالب باحث في سلك الدكتوراه تخصص علوم الاعلام و الاتصال.
تناول هذه الدراسة من منطلق التمثلات الاجتماعية، يمتح أهميته من كون الحديث عن التغيير في سلوكات محددة داخل المجتمع يفرض في مرحلة أولى، وفق الأستاذ الباحث الدمناتي، دراسة طبيعة التناول السوسيو معرفي المتحكمة في هذا السلوك، إذ لا يمكن أن يتم هذا التناول، حسب المقاربة النفسية الاجتماعية، إلا من منطلق التمثلات الاجتماعية التي تعكس نوع المعرفة المشتركة التي توجه سلوكاتنا في الحياة اليومية تجاه الموضوعات التي تؤثث الحقل الاجتماعي، وبالتالي اذا اردنا ان يقع تغيير في مسألة زواج “الفاتحة”، يقول الأستاذ الدمناتي، لابد لنا من معرفة طبيعة الأفكار والتصورات التي يحملها الناس حول هذا الموضوع من أجل تغيير الذهنية السائدة بشأنه.
وحول منهجية الدراسة، أوضح الباحث المتخصص في علم النفس، في حديث لمجلة BAB، أنها “اتسمت بالصرامة العلمية” حيث تم في البداية إجراء مقابلات استكشافية على عينة مكونة من 16 شخصا بغرض استكشاف طبيعة التمثلات الاجتماعية والآثار النفسية لهذا النوع من الزواج، تلتها دراسة تأكيدية اعتُمد فيها على استمارة مستوفية للشروط العلمية المتعارف عليها، وُزعت على عينة من 200 شخص مكونة من فئات عمرية مختلفة وغطت الجنسين معا، وهمت جغرافيا مدينة الدار البيضاء وبعض قرى وضواحي مدينة برشيد في الفترة الزمنية الممتدة بين نونبر ودجنبر من سنة 2021.
أما النتائج المستخلصة من تحليل بيانات هذه الدراسة، فقسمت، حسب الباحث، وفق منطلقين أساسيين أولهما منطلق تقديم طبيعة التمثلات الاجتماعية لزواج “الفاتحة”، وثانيهما منطلق توضيح الآثار النفسية لهذا الزواج.
وخلصت الدراسة فيما يخص المنطلق الأول، إلى أن طبيعة التمثلات الاجتماعية لزواج “الفاتحة” تختلف باختلاف المنطقة الجغرافية، حيث كشفت النتائج أن زواج “الفاتحة” في المجال الحضري غالبا ما ينظر إليه على أنه أداة للتحايل على الإجراءات القانونية و المسطرة التي يتطلبها الزواج في شكله العادي، وهذا ما تعكسه نسبة 60 في المائة من عينة البحث، مما يشير إلى أن “هناك وعيا تاما بالمسطرة القانونية لكن يتم اللجوء لزواج “الفاتحة” من أجل تجنبها سواء في حالة الزواج أو الطلاق”.
كما يلجأ له الأفراد في الغالب من أجل التعدد و هذا ما تعكسه نسبة 25 في المائة، فضلا عن أن طبيعة التصورات في المجال الحضري تعتبر هذا الزواج نوعا من الزيجات التقليدية التي تم تجاوزها ونادرا ما يُلجأ إليه وهو ما تعكسه نسبة 15 في المائة.
أما على المستوى القروي، يضيف المتخصص، فيُنظر لزواج “الفاتحة” على أنه فرصة للاستقرار خصوصا بالنسبة للمرأة في ظل وضعية هشة، وهو ما تبرزه نسبة 50 في المائة، مما جعل من هذا النوع من الزيجات ثقافة متدوالة وعادية بنسبة 25 في المائة، حيث يتم تبرير ذلك غالبا برفض الزوج سلك المسطرة العادية للزواج أو بسبب الإكراهات اللوجيستيكية للوصول إلى المنطقة التي يتم فيها الزواج وفق ما هو متعارف عليه، كما أن النتائج المحصل عليها تبين وجود إشكال عميق في هذا المنحى وهو أن أغلب الذين يلجؤون الى زواج “الفاتحة” في المجال القروي، يكون من أجل تزويج القاصر وهو ما تعكسه نسبة 25 في المائة من عينة الدراسة.
أما بالنسبة للمنطلق الثاني والمرتبط بالآثار النفسية لزواج “الفاتحة” فتم ربطه، وفق الأستاذ الدمناتي، بالنتيجة الاخيرة المتعلقة بزواج القاصر. ذلك أن هذا النوع من الزواج غالبا ما يعني حرمانها من مرحلة أساسية وهي مرحلة المراهقة التي يتم فيها بناء ميكانيزمات الهوية الفردية والاجتماعية بالاعتماد على مرجعيات ذاتية تستند على تمثلها لذاتها، بالإضافة إلى الآثار النفسية المرتبطة باضطراب الدور الاجتماعي الذي تعرفه القاصر المتزوجة بين كونها زوجة وأم في بعض الأحيان ثم كونها لازالت طفلة أو في بداية مراهقتها، هذا فضلا عن غياب الاستقرار النفسي في العلاقة الزوجية في ظل غياب ضمانات تحمي هذه المراهقة من مخاطر الزواج غير الموثق.
وبحسب الدراسة التشخيصية حول زواج القاصر المنجزة من قبل النيابة العامة فإن سن أغلب المتزوجات يتراوح بين 16 و17 سنة، بينما يتجاوز سن أزواجهن في العديد من الحالات السن المذكورة بشكل كبير، ويغطي كل الفئات العمرية التي يمكن تصورها، ويتوزع على كل الفئات الاجتماعية بمختلف مشاربها الثقافية، مما يؤكد، وفق التقرير، أهمية استحضار الأسباب المتعلقة بالأعراف والتقاليد والتصورات المجتمعية لدور المرأة في الأسرة، والتفسير الخاطئ للدين.
وفي هذا السياق، أكد الأستاذ الجامعي المتخصص في علم النفس الاجتماعي، محسن بنزاكور، في تصريح مماثل، أن زواج “الفاتحة” الذي يعرف رواجا أكبر في العالم القروي يستند في الموروث الشعبي على قاعدة دينية وعلى ما يسمى النظام القبلي الذي يعتقد بالمفهوم الشرعي للزواج كما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أي بدون كتابة، ويرون أن المهر وإشهار الزواج يكفيان إلى جانب “الكلمة” بالمفهوم الدارج المغربي التي تكتسي قوة وسلطة نافذة في أعراف المجتمع القبلي لاقترانها بشرف القبيلة وسمعة العائلة. فـ “الكلمة” بالنسبة لهم أضمن من وثيقة العقد التي قد تُفقد في أي لحظة، بالإضافة إلى أن العدول لا يأتي إلى الأسواق المغربية إلا مرة في الأسبوع إن توفر الوقت. لكن الإشكال المطروح في ظل هذا الوضع، يقول الخبير السوسيولوجي، أن المغرب لما أراد أن يطور العلاقات خصوصا في المجال الحقوقي بين الزوج والزوجة لاسيما حقوق الأطفال انكشفت معضلات عميقة من بينها تضييع حقوق الطفل من خلال عدم استفادته من التمدرس، وبالتالي لا تجد المندوبية السامية للتخطيط إمكانية للإحصاء الدقيق على مستوى التقييد في الحالة المدنية، وهذا جعل الدولة أمام إشكال ما يسمى ب”الانفلات مما هو رسمي أو تقييد”. بالاضافة الى أن المسألة قد تتطور في بعض الأحيان عند الطلاق إلى أن يتنكر هذا الزوج لزوجته في غياب وثيقة تثبت هذا الزواج، فينعكس ذلك على إمكانية استرجاع الحقوق، ومع ذلك، يضيف الخبير، فإن فكرة الزواج ب”الفاتحة” تطورت إلى أبعاد أخرى ما بين 2010 و2020 لدرجة أنه أصبح يُستغل بنية سيئة من طرف بعض الأشخاص الذين يلجأون إلى الزواج العرفي أو يتحايلون على القانون من أجل تعدد الزوجات، بل أصبح وسيلة للتحايل على القانون حتى بالنسبة لزواج القاصر الذي فرضت المدونة أن يكون باستشارة القاضي !، وبالتالي فزواج “الفاتحة”، يرتبط بشكل قوي من حيث الإحصاء بزواج القاصرات لأنه وسيلة للهروب من ترخيص القاضي، مشيرا إلى أن المعطيات كلها تزكي بأن الدولة في المغرب حاولت تقنين هذا الزواج لكن العقليات لم تصل إلى هذا المستوى من الإدراك للحفاظ على الحقوق، متحججين إما ربما بالسمعة أو بالفقر كما هو الحال في بعض المناطق في المغرب المشتهرة بزواج القاصرات، دون أن يدركوا أنهم بذلك يكرسون هذا الفقر ويعيدون إنتاجه في الواقع.
بواعث سوسيو اقتصادية
إذا كانت الدولة تسعى لتوفير الحماية القانونية للأطفال وتحقيق مصلحتهم الفضلى عبر التشريعات القانونية ذات العلاقة، والمؤسسات المختصة كالمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، فضلا عن مصادقتها على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل، فما هي إذن العوامل العميقة التي تقف سدا منيعا أمام محاولات تسييج هذه المعضلة رغم كل الجهود والمبادرات؟
الأستاذ الجامعي فريد أمار، عزا، في حديث خص به مجلة BAB، هذه العوامل إلى أسباب واقعة وأخرى مفترضة، مستندا، في غياب إحصائيات ودراسات معمقة وشاملة حول الظاهرة مقابل الاهتمام الكبير بزواج القاصرات، إلى ملاحظات مباشرة، وشهادات حية، وإلى دراسة حالات (ما بين 40 إلى 50 حالة) استجمع من خلالها بعض النتائج، إلى جانب بعض الإحصائيات التقريبية حول الظاهرة التي تستلزم، برأيه، الوقوف عندها وإيلائها الاهتمام اللازم دراسة وتشريحا ومعالجة. واستند في مقاربته السوسيواقتصادية إلى نظرية معروفة لدى الاقتصاديين والسوسيولوجيين وهي نظرية الحاجيات التبادلية (التي بدأت مع رواد الاقتصاد الكلاسيكي: آدم سميت ودافيد ريكاردو وجون بابتيست ساي، ومن روادها في الحقل السوسيولوجي بيتر بلاو و برونسيلاف مالينوفسكي وجورج هومانز)، على اعتبار أن زواج “الفاتحة” مرتبط في جزء كبير منه بالمصالح. حيث صنف هذه الأسباب ضمن مستويين، الأول اجتماعي مرتبط على الخصوص بالأعراف المحلية في المناطق النائية، وبالتدين التراثي، وطبيعة تمثل الساكنة للسلطة والإدارة التي تنتهي مركزيتها في ذهنيتهم عند المقدم أو الشيخ خاصة في الجوانب المحلية، وبالتالي فالحاجة إلى الوثيقة والتوثيق لا يكون في الغالب ذا أهمية في مثل هذه المناطق بسبب الهشاشة والثقافات القبلية.
أما في المجال الحضري فقد يرتبط زواج “الفاتحة” بمشكلة تأخر الزواج أو “العنوسة” كأحد الأسباب المحتملة، أو بالقيود الإدارية والمسار المعقد للحصول على رخصة الزواج بالنسبة للوظائف ذات الحساسية كما يحدث في بعض المناطق في الجنوب الشرقي بالنسبة لكثير من الزيجات المرتبطة ببعض الموظفين في الجيش مثلا، أو أيضا ببعض التوجهات الدينية والسلفية التي تبيحه وتسمح به في الأوساط الحضرية وشبه الحضرية، أو في حالة رفض الزوجة الأولى للتعدد، كما يرتبط هذا النوع من الزواج بالزواج المدني بالنسبة لمغاربة المهجر الذين يحتاجون عند عودتهم لوطنهم إلى عقد شرعي مغربي من أجل تصفية بعض الأمور المرتبطة بالإرث مثلا، نفس الشيء بالنسبة للزواج المختلط، هذا فضلا عن المهاجرين المغاربة غير الرسميين، الذين لم يحصلوا بعد على الأوراق الثبوتية، فهؤلاء غالبا ما يلجأون إلى زواج “الفاتحة”، وبالتالي لابد لسفارات المملكة، يقول الأستاذ الباحث، من توفير خدمة تسهيل الحصول على الوثائق المطلوبة لفائدة جاليتنا بالخارج لاسيما بالنسبة للأسر والعائلات المغربية التي تعيش هناك، مشيرا أيضا إلى أن كثيرا من المغاربة المقيمين ببعض الدول الأوروبية التي لا تسمح بالتعدد يلجؤون إلى زواج “الفاتحة”، فتكون لديه زوجة بعقد مدني والثانية بزواج “الفاتحة”.
أما المستوى الاقتصادي لهذه الأسباب فيتعلق، حسب الباحث في قضايا الاقتصاد الاجتماعي، بالاختلالات التنموية بشكل عام من جهة أو بالحدود المعاشية من جهة ثانية، بحيث يرتبط بالنسبة لحالات معينة بكونه وسيلة للإنفاق أو للحفاظ على الملكية المحلية، إذ أن هناك مجموعة من أصحاب النفوذ والمال في المجال القروي يعددون الزيجات مقابل قطع أرضية أو مال أو في بعض الأحيان مقابل حصص من الماء أو ما يسمى (العكوك). وعلى صعيد آخر يرتبط زواج “الفاتحة” بالرغبة في عدم إسقاط الدعم المالي المقدم من طرف الدولة عبر صناديق الدعم الاجتماعي المخصص للأرامل والمطلقات، كما يوجد ارتباط جوهري بين زواج “الفاتحة” بالنسبة للمطلقات والأرامل والتعدد في علاقته بمسألة الإنفاق، والأمر ذاته بالنسبة للتعدد السري. وهناك أسباب أخرى مرتبطة بالملكية، حيث إن الأعراف المحلية في بعض المناطق (كالجنوب الشرقي: تادار وتفركانت مثلا) تفرض عدم التزاوج بين القبائل حتى لا تنتقل ملكية قبيلة إلى أخرى، فيحدث أن يخرق بعض أبناءها المقيمين بالخارج من الجيل الثاني والثالث أعراف القبيلة فيلجؤن إلى زواج “الفاتحة” تفاديا لتحدي العائلة ونشوب مشاكل جراء ذلك.
والملاحظ أيضا أن العديد من الزيجات الحاصلة على أذون استصدار عقد الزواج خلال الحملات التي قامت بها الدولة سابقا في القرى والمناطق النائية، لم يستكملوا الإجراءات الإدارية بسبب عدم قدرتهم على أداء تكلفة إنجاز عقد الزواج (500 درهم) فضلا عن تكاليف التنقل وذلك وفق ما باح به العديد منهم، وأوصى الأستاذ أمار، في هذا الصدد، بتقريب المصالح القضائية والعدلية من المناطق القروية على غرار الجماعات القروية وذلك بأن ينتقل القضاة ومعهم العدول إلى القرى والمداشر في الحملات المقبلة ويعملوا على إتمام جميع الإجراءات محليا تنتهي باستصدار عقود الزواج.
نتائج محتملة ذات بعد تنموي
تعكس الرعاية الصحية والاجتماعية والنمو الاقتصادي والديموغرافي مؤشرات دالة على مستوى التنمية البشرية لكل دولة، كما تعبر بشكل خاص على وضع المرأة لا سيما الأم والطفل. ولعل مستويات وفيات الأمهات أثناء الحمل والولادة وخلال فترة النفاس من أبرز هذه المؤشرات المرتبطة بمدى الحصول على الرعاية الصحية، فقد أشار المسح الوطني حول السكان وصحة الأسرة لعام 2018 في هذا الصدد، إلى أن مستويات وفيات الأمهات بلغت في كل من الوسط الحضري والقروي على التوالي 44.6 و111.1 لكل مائة ألف ولادة حية، وأن 25 في المائة من الولادات تتم بدون رعاية صحية، وقد تكون هذه النتائج مرتبطة في جزء منها بزواج “الفاتحة”، ذلك أن الأمهات غير موثق زواجهن، يقول الأستاذ الباحث في التنمية الاجتماعية، يكون لديهن حاجز نفسي يحول دون توجههن للاستفادة من الخدمات الصحية رغم أن ذلك متاح بدون قيد أوشرط، بل وقد يحول ذلك دون استفادة مواليدهن من التلقيح (ما بين 5 و15 في المائة من الأطفال لا يستفيدون من التلقيح وفق المسح الوطني حول السكان الآنف الذكر)، ومن التمدرس، إلى جانب صعوبة استفادة الأرامل والمطلقات المتزوجات “بالفاتحة” من الدعم الاجتماعي الذي توفره الصناديق المخصصة لذلك.
تغيير العقليات.. الرهان الحقيقي
معالجة إشكالية زواج “الفاتحة” في المجتمع المغربي كمعضلة اجتماعية متجذرة، تفرض بالضرورة فقه الواقعة وسياقات إنتاجها، وتفكيك الجذور التي تغذي استمرارها، والمسؤولة عن سلوكات وخيارات الناس في حياتهم الاجتماعية وطرائقهم في “التفاوض مع الواقع” كما عبر عن ذلك الأستاذ والباحث السوسيولوجي عبد الرحيم العطري في إحدى محاضراته، وذلك من أجل الخروج من مآزقهم الاجتماعية أو تحقيق مصالحهم، وليست كل الزيجات “بالفاتحة” تتم بنيات سيئة وبقصد الإخلال باحترام القانون، وبالتالي لا يمكن اختزالها جميعا في “سلة الإجرام”، فعقلية زواج “الفاتحة”، كما أوضح الأستاذ الجامعي المتخصص في علم النفس الاجتماعي، محسن بنزاكور في حديث لـمجلة BAB، ليست مرتبطة فقط بمفهوم اجتماعي قروي أو قبلي محض، بل لها علاقة قوية بالجانبين الاجتماعي والاقتصادي، لأن طبيعة زواج “الفاتحة” إحصائيا غالبا ما يوجد بالمناطق الهشة والمناطق الجبلية والمناطق التي تعرف ارتفاعا في نسبة زواج القاصر، وبالتالي لابد من أخذ هذه الظروف في الاعتبار من خلال بلورة سياسة واستراتيجية تروم بناء علاقات متوازنة لتجاوز مثل هذه “العقليات التي تجد مبررا لها في واقع اقتصادي واجتماعي مزر وبنية تحتية مهترئة، وغياب التعليم وانتشار الجهل؛ كل هذه المعطيات لا يمكن أن نفصلها عن الحل الحقيقي لما نسميه زواج “الفاتحة”.
لهذا لابد، وفق المتخصص، من الاشتغال على العقليات بمحاربة الجهل وإثبات حق هذه المجالات الترابية في التنمية وإعطاءها وزنها في القرارات الاستراتيجية، وأن تنتبه الجهات المنتخبة إلى تطوير المجتمع القروي خصوصا في المناطق الهشة من أجل بناء جيل قادر على المستوى الفكري والاقتصادي من الوصول إلى مستوى تجاوز عقلية زواج “الفاتحة”.
المجتمع المغربي اليوم كباقي المجتمعات، مفتوح على تحولات مستمرة، تستجد معها إشكالات ووقائع وهذا أمر طبيعي، مما يستلزم مواكبة موصولة بل واستباقية في التعاطي مع هذه التحولات من خلال تطوير مقاربات شمولية تستند إلى دراسات وأبحاث دقيقة تسمح ببلورة الحلول المناسبة لجميع الإشكالات بما يحفظ الانسجام بين المؤسسات والقوانين وواقع المجتمع واحتياجاته عبر الإنصات والتفاعل الإيجابي والتنمية وصيانة الحقوق والحريات وكرامة الإنسان، تلكم بوابة الارتقاء الآمن بالسلوك المجتمعي وحماية المصالح الفضلى لأفراد الأسرة المغربية.■
التعليقات مغلقة.