رمزية الماء في ديوان ” هكذا الماء” للشاعر: مولاي الحسن الحسيني

علي بادون

طالب بماستر: الأدب العربي والمثاقفة، كلية الٱداب والعلوم الانسانيه، جامعة محمد الخامس – الرباط.

علي بادون

مقدمة:

لما كان الحديث عن تجليات الحدثة في الشعر العربي الحديث أمرا شائكا لما يعرفه هذا المصطلح: (الحداثة)، من تعدد في المعاني واختلاف في التوجهات، وكذا الاختلاف الواقع في تعريفه فإننا سنقتصر على التعريف الذي قدمه له أستاذنا: عبد الرحمان نباتة؛ وهو: أن الحداثة في الأدب الكتابة بشكل مخالف للتراث.

ولأن تجليات الحداثة متشعبة، اخترنا في هذا المقال أن نتتبع هذا التجلي في موضوعة محددة؛ وهي “رمزية الماء”؛ في ديوان شعري مغربي معاصر وهو: “هكذا الماء” للشاعر: مولاي الحسن الحسيني الروداني.

والرمز بمفهومه الواسع كما هو معلوم سمة  من سمات الشعر العربي المعاصر؛ لأنه يضفي علامة بارزة على تجربة الشاعر، وهو ما سنتوقف عليه في تجربة الشاعر الحسيني في هذا الديوان الشعري.

  • فما هي تجليات رمزية الماء في ديوان هكذا الماء؟

  • وكيف حاول الشاعر الحسيني أن يستحضرها في تجربته الشعرية من خلال هذا الديوان؟

المحور الأول: الرمزية في الأدب:

 1):مفهوم الرمزية: 

لغة: جاء في لسان العرب: “والرمز في اللغة كل ما أشرت إليه مما يُبان بلفظ، بأي شيء أشرت إليه، بيد أو بعين؛ ورمز يرمُز ويرمِز رمزا. وفي التنزيل العزيز في قصة زكرياء، عليه السلام: {أَلاَّ تُكَلَّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً}.”

  •  فالرمز هو الإشارة، والإشارة تكون باللفظ وبغيره، وهو مرادف للتلميح والإحالة، وهو المعنى نفسه سيتم التركيز عليه في الاصطلاح.

  •  والرمزية: مصدر صناعي.

واصطلاحا: يقول سعيد علوش: “الرمز: 1): مصطلح متعدد السمات، غير مستقر، حيث يستحيل رسم كل مفارقا معناه. 2): علامة تحيل على موضوع، وتسجله طبقا لقانون ما. 3): والرمز وسيط تجريدي للإشارة إلى عالم الأشياء”.

فهو العلامة الموضوعة على دلالة معينة، إلا أن هذه الدلالة تكون مشاعة  وعامة، ويستعمل الرمز قصد التلميح والإشارة لا التعيين والمباشرة.

ولا شك أن مفهوم الرمز مضطرب الاستعمال، خصوصا في الحقل الأدبي، حيث يتم استعماله بمعانيه المتعددة؛ الواسعة والضيقة أحيانا، ولذلك حاول الدكتور محمد فتوح أحمد: أن يتناول هذا المفهوم من مستويات أربعة:

  • المستوى العام: يعتبر الرمز قيمة إشارية؛ تلاحظ في كل شيء حسب -ايدوين بيفان-؛ ويعني هذا: أن الأشياء في الإدراك الإنساني تثير أكثر مما يحمله الظاهر.

  • المستوى اللغوي: ويعتبر الكلمة مجرد رمز للمعنى، أي هي إشارات لفهم ما هو حسي أو تجريدي، ولعل أقدم من قام بهذا التصنيف، وتناول الرمز عللى أساسه هو (أريسطو).

  • المستوى النفسي: قيمة الرمز تتجلى في مدى دلالته على الرغبات المكبوتة في  اللاشعور، نتيجة الرقابة الاجتماعية الأخلاقية، فاعتبره فرويد: نتاج الخيال اللاشعوري.

  • المستوى الأدبي: فقد كانت هناك محاولات وتجارب حاولت أن تتناول هذا الرمز نظريا: كتجربة “كانط”؛ حيث اعتبر الرمز فكرة مجردة بعد اقتطاعه من الواقع، أو تطبيقيا: كتجربة “جوته”؛ حيث اعتبه امتزاج الذات بالموضوع والفنان بالطبيعة.

ليخلص الدكتور محمد فتوح أحمد إلى أن: الرمز لابد أن تراعى فيه العلاقة بين المستويين: الحسي والمعنوي.

وهذا يعطى للرمز كما قلنا: دلالة شاملة؛ وهي التي تسبب له هذا الاضطراب الذي لازمه منذ استعماله لفظا ثم مفهوما ثم مصطلحا.

2:المذهب الرمزي الأدبي: 

 يصرح انطون غطاس كرم: أن ظهور الأدب الرمزي الأدبي في فرنسا كان ردا على سيطرة المدرسة الرومانتيكية الواقعية الحسية، فجاء الشاعر الفرنسي “بودلير” ليقاوم السهولة في التفكير التي وجدها عند الرومانتيكيين، ليغوص في العمق بنوعية من الغموض الرمزي.

ومع احتكاك الثقافات، والانفتاح الواقع بين الحضارات في القرن الماضي، تأثر الأدب هو الآخر بهذا الانفتاح على الثقافة الغربية، وتأثر الأدباء والشعراء بالمدارس الأوربية الأدبية فساروا على نهجهم، ومن بين ما انتشر بين أدباء العرب أن ذاك “الأدب الرمزي” فبدأ في لبنان ومصر، إلى أن عم جميع البلدان العربية.

ولا بد أن نشير هنا؛ أننا في هذا العرض ونحن نعنونه ب: “رمزية الماء في ديوان –هكذا الماء-،” أن الرمزية التي سنشتغل عليه: هي الرمزية بمعناها الضيق؛ “أي باعتبارها طريقة في الأداء الأدبي، تعتمد على الإيحاء بالأفكار والمشاعر وإثارتها، بدلا من تقريرها أو تسميتها أو وصفها”، وبهذا نكون قد نفينا عنا تصنيف الشاعر مولاي الحسن الحسيني ضمن الشعراء الرمزيين، وإنما أثارنا في ديوانه هذا عبارات ومعاني رمزية للماء، سنحاول الوقوف عند بعضها في هذا العرض الوجيز.

المحور الثاني: رمزية الماء في ديوان: “هكذا الماء”:  

1): قراءة في غلاف الديوان: 

 الغلاف الأمامي: عبارة عن مجموعة من الألوان المتداخلة فيما بينها كألوان الطيف، فبدأ بالأزرق الغامق من الأعلى كزرقة البحر، وانتهى بالأصفر المفتوح في الأسفل؛ لون الرمل والصحراء.

 فكان اسم الشاعر أول ما يتاح للقراءة في أعلى  اليمين في صورة الغلاف؛ (مولاي الحسن الحسيني)، ثم يليه بخط كبير في الوسط: عنوان الديوان: “هكذا الماء”؛ كتب بخط متموج انسيابي؛ كأنه ضرب بسطح الماء، فأحدث موجة صغيرة تعلوها قطرات من الماء المتجهة نحو الأعلى، وهو جملة إسمية مكونة من مبتدأ خبره محذوف، ثم تليه عبارة (شعر) لتعيين الجنس الأدبي الذي يحتويه الكتاب، وفي أسفل الصفحة اسم المؤسسة المكلفة بنشر الديوان: (منتدى الأدب لمبدعي الجنوب).

أما الغلاف الخلفي: يبدو أنه مكون من ثلاثة أشياء: صورة للشاعر بابتسامة عريضة من اليمين، ومقتطف شعري من القصيدة الأولى من الديوان: “لون وريدك بالليمون” أمام صورة في اليسار، وذلك بخلفية غائمة مكونة من سحاب أبيض وأسود الموحي بمجيء المطر.

2): تجليات الماء في الديوان: 

يمكن القول: إن بروز هذا الحقل –حقل الماء- بجميع مرادفاته ومعانيه،  في ديوان الشاعر لم يكن أمر عاديا، باعتبار الماء مكونا طبيعيا فقط، ولكنه دلالي رمزي قصد توظيفه لدلالات تحوي خلفها معاني عميقة يستدعيها الموضوع والمقام.

فأول قصيدة تستوقفنا في الديوان، هي القصيدة الثانية؛ والتي عنوانها: هو عنوان الديوان: “هكذا الماء”؛ وهذه العبارة أخذت من بيت شعري في القصيدة:

“هكذا الماء قلت، فافهم قصيدي…”

وهي هي قصيدة طافحة بالمعنى الرمزي للماء من الشطر الأول إلى الشطر الأخير، ففي البداية أمر أن يعلى شأن المياه أينما وجد؛

“عَلِّ شأن المياه يا صاح عل…”

حيث أن المياه لا يناسبه أن يحط من قدره أو ينقص من قيمته، فالمياه متحرر أصيل لم يكن يستسيغ أن يستعبد أو أن يحد من حريته، فيكون الشاعر بذلك قد دافع عن ذاته التواقة للتحرر،  ورمز لها بالماء المنساب، بالماء الذي يشق الأرض شقا ليحدث وديانا وأنهارا ليسيل فيها ويجري بكل حرية.

كيف لا، وهو الموجود في كل مكان حتى في عمق الرمال في الصحراء متواريا فيها:

“إننا في الرمال ماء توارى،

فاحفروا الأرض ماؤنا تحت رمل”.

فواصل حديثه عن قدرة هذا الماء الذي يمثل ذاتيته المتحدية، والتي تصمد أمام كل التغيرات، في كونه:

 ثلجا فوق الجبال الذي انسكب للسهل قسرا،

 وماؤه الذي كان عذبا قد خالطه الجلنار والآس:

“خَالَطَ الجُلَّنَارُ والآسُ مائي،

فتغنى المسيلُ يَا لاَلَلَلِّي”.

وتذكر حريته المائية حيث يسيل أينما سالت مياهه، وبالرغم من كل هذا فسيله لم يكن يرعب الناس أو يفزعهم، لأنه سيلان مدروس، وكان يتمتع به بكل هدوء وبدون طغيان.

وبذلك يصل إلى بيت القصيد؛ “هكذا الماء”:  وكأنا به يصرح أن كل ما قاله هو حال الماء المتمثل في ذاتي المائية، وإذا سألنا الشاعر: كيف تريد هذا الماء أن يكون؟ أو كيف تتصوره في ذاتك؟ أجابنا قائلا:

“لم يعش في سُحْبٍ أسيراً لِطَلِّ”.

ثم طلب مرة أخرى “كوكب الماء” ليأخذه إليه، إلى المعالي إلى السماء؛ حيث لا جفاف، لا صخور وصحاري التي تحد من سيلانه، وهو الذي بصم أثره في كل مكان كما الماء، ليخلص إلى القول: أن من رغب في شيء، يقصده حيث يوجد وبوفر، فمن يرغب في اصطحاب الماء يقصد لبحر لا الجداول أو الوديان:

” قاصد الماء صاحب البحر صدقا”.

والصدق: أن تتمثل البحر في كل تموجاته وتغيراته مدا وجزرا، وفي شساعته  وكرمه وعطائه، وفي شموخه وكبريائه، ولهذا وذاك تستحق أن يعلى شأنك ويرفع اسمك بين ألأسامي:

“عل شأن البحار يا صاح عل”.

وفي القصيدة الثانية: “يعود بعد فراق النخل”: يستوقفني الشطر الثاني من البيت الأول:

“ويمسك المزن وجه غير منشرح”؛

 شبه الوجه العبوس بالمزن الذي يمسك المطر، بخلا منه على الناس، بسبب موقف أغضبه منهم، فكان تشخيصا رمزيا للمزن الذي يحمل ماء، ويبدي ذلك للناس، لكنه يتمنع عن إجادته به.

وافتتحت قصيدة “على المشارف”: بصورة رمزية قائلا:

“ظمآن والماء لا يُروي بضمضمة”.

فصور حاله وهو يطل بلا روح ولا جسد، بالظمآن الذي يمضمض الماء، فلا يروي عطشه، ولا ترك الماء نقيا صافيا يسير إلى حال سبيله. والماء يستعمل لهذا وذاك، لكن طريقة الاستعمال والكمية تختلف.

وفي قصيدة “سلام على الشمس” يقول:

“سأسقط ثلجا على جبل،

وأَنسِلُ حبا على ساحله”.

حيث صور الشاعر نفسه ثلجا يسقط على جبل شامخ، وبفعل الزمن وارتفاع الحرارة وتغير المناخ ينسل إلى سواحله، لأن النجاة والسلامة في الحياة مقترن بانسحابات نحو الساحل، لأن البقاء في الواجهة أو المركز أو القمة يعرضك للمهالك، وبذلك يكون الثلج رمزا لذوبان الشاعر وانسحابه.

وفي قصيدة ” من وقدة الشمس…”: يحكي عن حالة من القلق والحيرة التي يعيشها وهو على ضفاف الستين من عمره، موظفا رمزية البعد والعمق والشساعة للبحر:

” في صفرة الشط أو في زرقة البحر”.

 فقارن بين صفرة الشط وزرقة البحر؛ اللتان تبدوان في أمد بعيد، فالمحنة قائمة وواردة في كلا الخيارين، فهما رمزان للمسافة الطويلة التي قطعها من عمره، والتي يعود إلى تلاوتها وقراءة أهم المحطات التي مر عليها.

كما صور نفسه نهرا يعيب المحيط لكنه سائر نحوه ولا مفر منه:

“أستقبح القبح بالأشياء منجذبا،

كالنهر صوب المحيط الهادئ المغري”.

فالغرابة في المقارنة الرمزية بين الشاعر والنهر، فالنهر ينفر من المحيط، لكنه لا مصب له سواه، فهو سائر نحوه وباستمرارية دون انقطاع، ومثله الشاعر نحو الأشياء.

وهو يسرد مراحل الطفولة وذكرياته الجميلة؛ يأمر المطر أن يصير حبرا يخط به ذكرياته على نهر جار:

“يا أيها المطر الميمون كن قلما،

واختط أحرفنا ذكرى على نهر”.

فكأنه يريد  من هذه الذكريات  أن تصير نهرا يجري وتصب في بحر الحياة، تحتفل باسمه مدى الأزمان، لأن الماء رمز للحياة وديمومة الحركة.

كما عقد الشاعر مقارنة في قصيدة: “يوم أموت حرا”؛ بين سيف الحرب وسيف البحر إذ يقول:

أسيف البحر دعني لن أبوحا،

فسيف الحرب لم يشْف القروحا”.

وهذه المقارنة  تستدعي منا بما فيها من الغرابة أن نحدد أوجه المفارقة بناء على عبارات هذا البيت؛ هل سيف الحرب يشفي الجروح والقروح أم يحدثها ويعمقها؟ أما سيف البحر المجازي الذي يباغت الشاعر ويستقصي أخباره، وهو يجيبه  بتمنع، آمرا إياه أن يدعه وشأنه، لأنه يكفيه من الأسى ما يحدثه في حياته سيوف حرب الحياة هذه، وبطبيعة الحال “سيف البحر” : يمكن أن يكون رمزا لبعض الحواجز الخفيفة التي قد تعترض الشخص، لكنه لا يبالي لأنه منشغل بالمعترضات والحواجز الكبرى الحادة كالسيف.

خاتمة: 

في هذه القراءة الطفيفة، حاولنا تسليط الضوء على هذا الموضوع الذي خصصنا دراستنا لهذا الديوان من خلاله، ولا محالة أنه في حاجة إلى دراسات تشمله وتتناول  جميع موضوعاته باعتبارها نماذج من تجليات الحداثة الشعرية لدى شاعرنا مولاي الحسن الحسيني.

وما الرمزية الشعرية ل “رمزية الماء” في هذا الديوان سوى نموذج واحد على نذرته، لرسوخ التجربة الحداثية في شعر الحسيني، تُرى  كيف أبدع في صياغة الرموز للماء فيما قدمناه في العرض، وشخصنتها بل وأنسنتها؛ في صور طافحة بالشعرية.

لنقول في الختام: إن الشاعر وهو ينقش تجربته الشعرية في صخر القصيد، اتخذ له آلات حادة تحاكي النقوش الشعرية الأصيلة، وتبرزها في حالة وفي مظهر يليق بالناظر المتفحص، ويليق بعصر الحداثة وحداثة العصر.

لذا كان واجبا علينا  في ختام هذا أن نتساءل سؤالا نأمله أن يكون مشروعا في هذا الصدد، وهو: ما مدى استطاعة القصيدة العمودية (نظام الشطرين)،  أن تواكب الحداثة  في الشعر العربي؟

المصادر والمراجع:

  • القرآن الكريم برواية الامام ورش عن نافع.

  • التطبيق الصرفي، عبده الراجحي.

  • انطون غطاس كرم، الرمزية والأدب العربي الحديث.

  • سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة.

  • ابن منظور، لسان العرب.

  • محمد فتوح أحمد، الرمز والرمزية في الشعر المعاصر.

  •  مولاي الحسن الحسيني، هكذا الماء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد