حيثيات تراجع هابرماس عن تسلم جائزة الشيخ زايد 2021

عين على ألمانيا الحلقة 1 مع الدكتور محمد الأشهب – متخصص في الفلسفة الألمانية المعاصرة

نالت أسماء عديدة قبل هابرماس جائزة الشيخ زايد المشهورة، والتي تقدر قيمتها ب 225 ألف دولار. وقد مرت الدورات السالفة للجائزة في جو كبير من الاحتفاء بالشخصيات الثقافية للسنة. لكن لجائزة هذه السنة طعم خاص ، لأن هابرماس أفسد الحفلة بعد تراجعه عن تسلم الجائزة. فما هي يا ترى أسباب هذا التراجع عن الجائزة المغرية بعد قبولها في بداية الأمر؟ وهل للتراجع دوافع فكرية؟ أم هو تراجع يعود إلى دخول الرأي العام الألماني على الخط؟ هل هو تراجع مبدئي أم لحفظ ماء الوجه، والانسجام مع الأفكار التنويرية التي ظل هابرماس ينافح عنها لأزيد من سبعين سنة من التأسيس الفلسفي لمفهوم الحداثة، باعتباره مشروعا غير مكتمل؟ وما الذي يميز هابرماس عن العروي وأمين معلوف وآخرين دافعوا هم أيضا عن نفس القيم لكن انتهى بهم المطاف إلى قبول الجائزة من موقع أنها جائزة ثقافية وفكرية تحتفي بالفكر والمثقف، حتى وإن كان فيها شيء من السياسة؟ وإلى أي حد كانت المبررات التي قدمها هابرماس مبررات مقنعة؟
بحكم معايشتي لمشروع الرجل لأزيد من عشرين سنة، ترجمة وتأليفا، لا يمكنني إلا أن أقول إن هابرماس ظل مسكونا بهاجس بلورة الفضاء العمومي النقدي طيلة مساره الفلسفي منذ بداية الستينيات إلى اليوم، منذ كتابه المشهور: تحول بنية الفضاء العمومي إلى آخر كتبه حول الإيمان والمعرفة 2020. ونظرا لعلاقتي الخاصة بهذا الفيلسوف ارتأيت أن أعلق على هذا الحدث المتميز في المجال الثقافي.
ولفهم موقف هابرماس سأعتمد على ما كتبته الصحيفة الألمانية الشهيرة دير شبيغلDer Spiegel التي تساهم بشكل قوي في تشكيل الرأي العام الألماني لما لها من مصداقية و نفود في الفضاء العمومي السياسي.
ومن هذا المنطلق فبمجرد ما توصلت الصحيفة بخبر قبول هابرماس لهذا التتويج بشخصية العام الثقافية لسنة 2021 سارعت لكتابة مقال نقدي قوي بعنوان مثيرهو: يورغن هابرماس والدعاية الإماراتية . حاول الصحفي ديتمر بيبر Dietmar Pieper أن يذكر فيه هابرماس بالتناقض الحاصل بين قبوله بالجائزة بحكم القناعات الفلسفية التي كرس لها حياته والتي تدور حول مشروع التنوير، والفضاء العمومي السياسي النقدي، والحرية، وغير ها من القيم المؤسسة للمجتمع الديمقراطي الحداثي العقلاني. وهي القيم الغائبة في الإمارات العربية المتحدة. وبالتالي سيكون هذا التتويج والقبول به هو توظيف لهابرماس في هذه الدعاية السياسية التي تريدها الإمارات العربية المتحدة. يقول الصحفي في مقاله النقدي ” يريد المفكر الألماني المشهور عالميًا أن ينال جائزة الكتاب التي قيمتها 225 ألف يورو في أبو ظبي. رغم أن القواعد الديمقراطية المقدسة عند هابرماس المتنور، يتم تجاهلها بشكل منهجي هناك”. إن كلاما مثل هذا لن ينزل بردا وسلاما على هابرماس ، وهو أيقونة الفلسفة الألمانية المعاصرة ، الذي خلف كانط و هيغل على عرش الفلسفة الألمانية. وفي معرض بسطه للوضع الحقوقي بالإمارات العربية المتحدة أضاف الصحفي ” ما هو مقدس لدى هابرماس وما يمثله في أعمال حياته لا يكاد أن يكون موضوع حديث الناس في الإمارات. كما أنه لا وجود لفضاء عمومي ليبرالي ونقدي هناك. ولا وجود لتنافس بين الأفكار السياسية بين الأحزاب، ولا انتخابات حرة. وبالتأكيد لا توجد معاملة قائمة على أساس المساواة و حكم القانون” . فهل هذا الكلام النقدي هو الذي أيقظ هابرماس من سباته العميق؟ وهل هابرماس لا يعرف هذا الوضع؟ هذان السؤالان لا نملك جوابا عنهما.
إن انتقاد الصحفي لأوضاع حقوق الإنسان واستناده إلى معطيات المنظمات الدولية فيه توجيه رسالة واضحة لهابرماس وللرأي العام الألماني ليقول لهم ها أنتم ترون هابرماس ضمير المجتمع الألماني قد أغلق عينيه عن كل هذه الانتهاكات مقابل حفنة من الدولارات هو في غنى عنها. و في معرض هذا النقد قال الكاتب: ” في الإمارات يتعرض المعارضون للاضطهاد والسجن، وهو أمر اشتكت منه منظمة حقوق الإنسان هيومن رايت ووتش في تقاريرها لسنوات ، دون أن يحدث أي تغيير . علاوة على ذلك، يعيش هناك ملايين من العمال الأجانب من الدول الأسيوية معتمدين إلى حد كبير على عملائهم أو ما يسمى بنظام الكفالة ويجب أن يكونوا راضين بالعيش في أماكن ضيقة “.
و لكي يضفي الصحفي المصداقية أكثر على ما يقول في كلامه الموجه لهابرماس عبر الجريدة التي يشتغل بها، قدم له استشهادا بالأرقام بالاستناد إلى مؤسسة أمريكية مشهود لها بالمصداقية في مراقبة حقوق الإنسان و التحول الديمقراطي على الصعيد العالمي، و هي مؤسسة فريدوم هاوس، حيث جاء في معرض كلامه ” يرى مركز الأبحاث الأمريكي فريدوم هاوس، الذي يسجل سنويًا حالة التحول الديمقراطي في العالم، أن الإمارات العربية المتحدة تتراجع إلى الوراء بدلاً من إحراز تقدم. فهي حصلت على 17 نقطة فقط من أصل 100 نقطة محتملة على مقياس فريدوم هاوس ، و هذا يبين بشكل لا لبس فيه أن البلاد ليست حرة.”. وكأن الصحفي يقول لهابرماس إن ما أقدَمت عليه مناف لما ظللت تنادي به من قيم طيلة مسارك الفلسفي في ألمانيا وفي العالم الحر.
حجة التهكم:
وبلغة لا تخلو من تهكم موجهة لضمير هابرماس الممثل البارز لضمير الحياة الفكرية والثقافية في ألمانيا، وهذا أمر أعرفه، وأذكر من بين الطرائف التي وقعت لي في ألمانيا، أنني سألت يوما باحثا ألمانيا، وكنا بصد تبادل أطراف الحديث حول الفلسفة الأمريكية، هل قرأت شيئا ما لرولز؟ فأجاب: نعم بعض الأشياء من كتاب نظرية العدالة.ثم استدرك قائلا لست في حاجة كبيرة لذلك . فسألته لماذا؟ فأجاب بشكل سريع ” لدينا هابرماس” و لست في حاجة لرولز. أستحضر هذه الطرفة لأشير إلى أن الصحفي في استحضاره لهذه المقارنة لأوضاع حقوق الإنسان في هذه الدول يهدف إلى استفزاز الضمير الأخلاقي لهابرماس ، و يريد في الآن نفسه أن يتهكم عليه و وعلى قراره. و هو تهكم صاغه في السؤال التالي ” للمقارنة: حصلت إيران على 16 نقطة في فريدوم هاوس ، بينما حصلت روسيا فلاديمير بوتين على 20 نقطة. فماذا ستكون ردود الفعل إذا قبل ممثل بارز للحياة الفكرية الألمانية جائزة تحت رعاية آية الله خامنئي أو الرئيس بوتين؟.
ارتياب هابرماس وقرار الرفض
وبناء على طلب من الجريدة عند توصلها بالخبر، كان هابرماس قد أوضح في رسالة بريد إلكتروني كيف توصل إلى قراره إذ قال في معرض توضيحه “بالطبع كنت مرتابًا وعرفت عن المؤسسة والفائزين بالجائزة قبل قبولها ” ، و أضاف أن معظم معلوماته حول الجائزة توصل بها من يورغن بوس ، مدير معرض الكتاب الدولي الذي يقام بفرانكفورت. وقد أدى ذلك إلى “تبديد المخاوف الواضحة”. بالإضافة إلى ذلك، كان هو نفسه قد “اطلع على آخر أربعة فائزين في فئتي” ويقصد طبعا كل الذين قبلوا الجائزة قبله. وأذكر منهم المغربي وكبير مثقفينا عبد الله العروي الذي ربما لم يطرح أي تساؤل عن الجائزة وعن جهتها، وأمين معلوف، وسلمى خضرا ومعهد العالم العربي. وبناء على هؤلاء لم ير يورغن بوس، على حد تعبير هابرماس في ذلك أي شيء سلبي kein Haar in der Suppe gefunden. وهذا ما أقنعه بقبول الجائزة. لكن على إثر المقال النقدي الذي كتبته الجريدة قرر هابرماس التراجع عنها حفاضا على ماء وجهه في الفضاء الثقافي الألماني بالخصوص الذي تعد دير شبيغل واحدة من المؤسسات الإعلامية الأكثر تأثيرا فيه . ويعد هابرماس واحدا من المتعاملين الكبارمعها.
لماذا لم يرفض هابرماس الجائزة مبدئيا ؟
الكل يتذكر رفض بوب ديلان لجائزة نوبل، وفي السياق المغربي يتذكر رفض الجابري لجائزة القدافي لحقوق الإنسان و جائزة صدام حسين أيضا، و هذا النوع من الرفض يكون رفضا مبدئيا لا يحتاج المعني بالتتويج أن تنشر الصحافة مقالات نقدية لكي يتراجع عنها كما هو الحال بالنسبة لهابرماس. و لهذا ففي رأيي المتواضع أن هابرماس لم يكن رفضه للجائزة رفضا مبدئيا، بل كان له قبول مبدئي لها و تراجعه عنها كان نتيجة النقد القوي الذي قامت به صحيفة دير شبيغل المعروفة بسمعتها و مصداقيتها. وهذا ما نشرته الجريدة في المقال الثاني الذي ورد فيه” لكن هذا الأحد ، بعد قراءته لمقال نُشر في مجلة شبيغل صباح ذلك اليوم ، قرر هابرماس البالغ من العمر 91 عامًا التخلي عن الجائزة في بريد إلكتروني أرسله للجريدة عبر ناشره زوركامب” و الذي قال فيه “لقد أعلنت عن استعدادي لقبول جائزة الشيخ زايد للكتاب لهذا العام. و قد كان قرارًا خاطئًا ، وأنا هنا أصححه “. وفي الرسالة نفسها التوضيحية التي تسلمتها دير شبيغل من ناشره الخاص يضيف هابرماس” إن العلاقة الوثيقة للغاية بين المؤسسة التي تمنح هذه الجوائز في أبو ظبي والنظام السياسي هناك ليست واضحة بما فيه الكفاية بالنسبة لي”. وإذا كان المقال الأول الذي كتبه الصحفي ختمه بهذه الجملة المستفزة: “عادة عندما يلتقي الفكر بالسلطة تنتصر السلطة على الفكر”. فإن هابرماس اختار في رده أن يعلق عليها بقوله ” نعم هذا صحيح على المدى القصير. لكن على المدى الطويل أنا أؤمن بالسلطة التنويرية للكلمة النقدية، إذا ظهرت فقط في الفضاء العمومي السياسي. وكتبي التي ترجمت لحسن الحظ إلى العربية كافية للقيام بذلك الدور النقدي”.
خلاصة القول، بناء على ما تقدمت به الجريدة من نقد للإمارات العربية المتحدة للوضع السياسي في المنطقة الذي لا يتماشى مع أفكار هابرماس يكون هذا الأخير قد أفسد الحفل الكبير لهذه السنة المزمع تنظيمه يوم 23 من شهر ماي الجاري. لكن وخلافا للمواقف التي احتفت بموقف هابرماس الذي انتصر كثيرا للعديد من أطاريحه الفلسفية أجد أن مبرراته غير مقنعة بالطريقة الحجاجية التي يكتب بها نصوصه الفلسفية. وليس في كلامي أي دفاع ولا هجوم على أي طرف من الأطراف. كل ما أردته هو بسط الرواية بالاعتماد على الجريدة الألمانية مع الإشارة إلى رأيي القابل للصواب والخطأ متبعا نهج هابرماس التفكير مع وضد في الآن نفسه.

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading