حاوره سعيد الهياق // أجرينا مع الدكتور محمد بوستة الباحث الأكاديمي هذا الحوار عن بعد؛ وطرحنا عليه هذه الاسئلة؛ نشكره على الاجابات المفيدة:
ما هي قراءتكم لواقع التعليم في ظل الحجر الصحي…؟
ما مدى نجاعة التدابير التي اتخذتها الجهات المسؤولة عن قطاع التعليم مع اختلاف الوضع السوسيو اجتماعي و الاقتصادي و اختلاف وضع البنيات التحتية و الاقتصادي للشرائح الاجتماعية حسب الموقع الجغرافي؟
ماذا عن مستقبل ميثاق التعليم و الأنظمة التربوية في ظل أزمة كورونا..؟
هل نحن أمام قطيعة بنيوية و ابستمولوجية في قطاع التعليم في ظل أزمة كورونا…؟
ماذا عن الآفاق المستقبلية للتعليم ما بعد كورونا..؟
أجوبة الدكتور محمد بوستة:
” لا يجرؤ أحد على إنكار دور كل من الأستاذ والطبيب في تحقيق التنمية البشرية والصحية في كل المجتمعات الإنسانية إلى جانب فاعلين آخرين من ميادين أخرى. وليس من غريب الصدف أن تسلط أزمة فيروس كوفيد 19 الضوء على كثير من الزوايا المعتمة في المنظومة التربوية والصحية في معظم البلدان العربية وغيرها. بل إن هذه الأزمة بينت بالملموس أن من بين القطاعات التي يجب أن تحظى بالأولوية في السياسات الحكومية للدول قطاع التعليم وقطاع الصحة…
وارتباطا بموضوع هذا المقال نرى أن عملية التربية والتكوين تعد رافدا غنيا يجدد دماء كل أمة وينفخ في شرايين أجيالها الحياة، من أجل بناء الفرد القادر على الإسهام في بناء المجتمع الحداثي الذي ينتصر لقيم العقل والحرية والتفكير النقدي… ويشق بثبات طريقه نحو مدارج التنمية بمختلف تجلياتها…
وإذا كانت أزمة كورونا، من جهة، قد عصفت بكثير من النفوس والأجساد، وأجبرت الناس على القبوع في منازلهم مغيرة بذلك نمط الحياة، فإنها من جهة ثانية قد أثرت بشكل سلبي على حركة كثير من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، ولم تسلم من ذلك أيضا المؤسسات التربوية التي أجبرت على إغلاق أبوابها وتعليق اضطلاعها بوظائفها الحقيقية في الميدان وداخل الفصول الدراسية، ليتم تحويل بوصلتها شطر المؤسسات الأسرية في إطار تبني خيار التعليم عن بعد من أجل ضمان الاستمرارية البيداغوجية… والمتتبع للإجراءات والتدابير العملية التي اتخذتها وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي لمواجهة تفشي جائحة كورونا، ومنها إيقاف “التعليم عن قرب” داخل الفصول الدراسية، واعتماد “التعليم عن بعد”، لضمان “الاستمرارية البيداغوجية”… تستوقفه جملة من الملاحظات والإكراهات نجمل أهمها فيما يأتي:
استمرار مشكل عدم تكافئ الفرص بين المتعلمين والأسر المغربية على مستوى علاقتها بأدوات العمل الرقمية والأجهزة الإلكترونية التي تستثمر في إنتاج وتلقي الموارد الرقمية؛
اتساع الهوة بين العالم القروي والعالم الحضري على مستوى التمكن من الانخراط في عملية التعليم عن بعد لتحقيق الاستمرارية البيداغوجية؛
ارتباك الكثير من الأساتذة والأستاذات في عملية إنتاج الموارد الرقمية والانخراط الفعلي في تصوير الدروس ضمن مجال لم يتلق فيه معظمهم تكوينا تخصصيا؛
ظهور بعض الموارد الرقمية التي تعتريها بعض الثغرات على المستوى البيداغوجي والديداكتيكي والمعرفي؛
ضعف صبيب الإنترنيت عرقل مجموعة من العمليات الرقمية وعملية تتبع المضامين الرقمية وتقويمها من لدن هيئة التأطير والمراقبة التربوية؛
الهشاشة والفقر … ومشاكل أخرى متنوعة حالت دون تمكن كثير من الأسر من توفير بطاقات التعبئة لأبنائهم قصد الاستفادة من الدروس المنشورة في تطبيقات اليوتوب أو الواتساب أوالفايسبوك، أو في المواقع والبوابات والمنصات الإلكترونية المتعددة…
الأقسام الافتراضية التي دعت الوزارة إلى تشكيلها واجهتها صعوبات تقنية جمة سواء لدى المشرفين على تشكيلها وتفعيلها أو لدى الفئات المرصودة للاستفادة منها…
ونخلص من هذا كله إلى أن المنظومة التربوية في زمن “التعليم عن بعد” الذي فرضته الإجراءات الاحترازية ضد تفشي وباء كورونا ليست أفضل حالا من سيرورة ” التعليم عن قرب” بالمعنى الذي أشرنا إليه آنفا. وإذا كانت الكثير من الوثائق التربوية قد دعت إلى إدماج تكنولوجيا المعلومات في العملية التعليمية التعلمية منذ زمن بعيد، فإن أزمة كورونا فضحت عن قرب أن هذه الدعوة بقيت حبرا على ورق ولم تأخذ سبيلها نحو التحقق الفعلي، وأن الأدوات الرقمية لم تجد بعدُ طريقها الفعلي إلى دروس المواد المقررة في نظامنا التعليمي بالشكل الذي يستجيب لحاجات متعلم اليوم وميولاته.
ولا بد أن نشير في هذا المقال إلى التبعات السلبية التي تراكمت وأثرت على كثير من المتعلمين في زمن أزمة كورونا. لقد تسربت جرعات من الاكتئاب والاضطراب النفسي إلى نفوس بعض المتعلمين، وزاد من حدة ذلك عامل الهشاشة والفقر داخل كثير من الأسر المغربية التي ينتسب إليها هؤلاء المتعلمون. فهناك متعلمون من أبناء هذه الأسر متميزون وحريصون على مواكبة دروسهم، لكن عدم التوفر على الأجهزة الرقمية والأدوات اللازمة لتتبع عملية التعليم عن بعد تركت في نفوسهم شرخا عظيما، وجعلتهم يحسون باللامساواة وبضياع أحلامهم. وفي الواجهة الأخرى؛ أي لدى الأسر الميسورة التي لا تجد إشكالات في توفير المستلزمات الرقمية لأبنائها قصد مواكبة عملية التعليم عن بعد، كانت تحدث أمور عكسية؛ ذلك أنه بدل أن ينصرف اهتمام معظم هؤلاء الأبناء إلى تنمية مهاراتهم القرائية والتكوينية من خلال الانكباب على تلقي مضامين الدروس المنشورة، كانوا يستغلون الفرصة، في ظل غياب المراقبة اللازمة، لتنمية مهاراتهم الرقمية في ولوج مواقع إلكترونية مفسدة للذوق ومؤثرة على الشخصية وهادرة لزمن التعلم عن بعد. علاوة على ذلك فَقَدَ كثير من التلاميذ العلاقة التفاعلية والوجدانية والتربوية المباشرة التي تربطهم بمدرِّسيهم عن قرب في الدروس الحضورية، وتُشكل وقودا محفزا يغذي لديهم الفضول المعرفي ويحفزهم على فعل التعلم والإقبال عليه، وهي العلاقة التي لم تستطع المضامين الرقمية التي تم إنتاجها الحفاظ عليها، ولم تتمكن الأقسام الافتراضية من إغنائها لوجود عراقيل تقنية متنوعة حالت دون توفر شروط التفاعل الحقيقي بين أطراف العملية التربوية التكوينية. بل إن استقبال عديد من المتعلمين للمضامين الرقمية المذكورة كان استقبالا تخلله الكثير من الفتور والتراخي، لا سيما في الفترة الثانية من تمديد الطوارئ الصحية، حيث شعر بعض المتعلمين بطول اشتداد الطوق عليهم، وحرمانهم من العالم الخارجي، وهم الكائنات الإنسانية المتعطشة للحرية وفساحة الفضاءات التي تسهم في إكسابهم التنشئة على الاندماج الاجتماعي وتطوير المهارات الحياتية. وتترتب عن هذا الوضع جملة من الأسئلة بخصوص علاقة التعليم بالإجراءات الرقمية والافتراضية: هل فعلا استطاع التعليم عن بعد إنقاذ العملية التربوية التكوينية في مختلف تجلياتها وضمان الاستمرارية البيداغوجية؟
هل ثمة تساوي في تذوق ثمار هذه العملية
– إن كانت هناك ثمار بالفعل – بين فئات المجتمع المتباينة؟
هل ثمة صيغ رقمية أخرى أكثر فعالية مما تم اعتماده في سيرورة التعليم عن بعد ؟
لماذا لا يتم جعل التعليم عن بعد موازيا للتعليم عن قرب؛ أي للتعليم الحضوري في الفصول الدراسية؟ كيف يمكن معالجة الإكراهات المشار إليها أعلاه؟ لماذا لا يتم تمكين المواطنين من صبيب مرتفع في الأنترنيت بوصفه حاجة ملحة في مجتمع المعرفة والتحولات الرقمية، لا تختلف عن حاجة هؤلاء المواطنين إلى الهواء النقي والماء الزلال والمأكل الغني والملبس المناسب؟
من النصفة أن نقول، رغم هذه الإكراهات المتعددة المشار إليها، إن الجسم التعليمي بالبلاد، بكل هيئاته وفئاته وجميع المتدخلين فيه، انخرط انخراطا وطنيا منقطع النظير في عملية “التعليم عن بعد”، وأبلى البلاء الحسن في صيرورة ضمان الاستمرارية البيداغوجية لأبناء الشعب بما أوتي من وسائل وإمكانات محدودة.. وأسهم في ذلك أيضا الآباء والأمهات بروح من المسؤولية والجدية، وشكل زمن كورونا لحظة تاريخية أتاحت فرصة أمام من كانوا بعيدين عن عملية التعليم ليفهموا المشاكل التي تحيط بهذه العملية، ويستوعبوا التضحيات الجسام التي يقوم بها الأساتذة داخل الفصول الدراسية وخارجها رغم الإكراهات الكثيرة التي تعرقل أداء واجباتهم المهنية. كما أتاحت هذه الأزمة التفكير في الشروخ التي تعتري الكيان التعليمي والكيان الصحي على حد سواء، وأدرك الجميع أن الأستاذ والطبيب – وكل من يجري في فلكهما – فاعلان ضروريان لتحقيق التنمية بمختلف تجلياتها، ولمعالجة الأمراض المتنوعة التي تنخر جسم المجتمع وعقله.
وختاما، إذا كان الميثاق الوطني للتربية والتكوين قد دعا إلى جعل المدرسة المغربية الوطنية الجديدة مفتوحة على محيطها بفضل نهج تربوي قوامه استحضار المجتمع في قلب المدرسة, والخروج إليه منها بكل ما يعود بالنفع على الوطن, مما يتطلب نسج علاقات جديدة بين المدرسة وفضائها البيئي والمجتمعي والثقافي والاقتصادي… فإنه قد تبين اليوم في أزمة كورونا بما لا يدع مجالا للشك أنه من اللازم استحضار المدرسة في قلب عالم المعلوميات والرقميات، وبالموازاة مع ذلك استحضار عالم المعلوميات والرقميات في قلب المدرسة، من أجل بناء علاقة جديدة بين التحولات الرقمية والمؤسسات التعليمية، وبلورة تعليم وتعلُّم إلكتروني ناجح تسهم فيه جميع الجهات المعنية دعما وتخطيطا وتنفيذا وتقويما، مع استثمار التراكمات السابقة والاتجاه بها الوجهة الصحيحة لخدمة المواطن وتكوينه، وجعله يسهم في تحريك قاطرة التنمية والابتكار والتقدم المعرفي والعلمي والتقني والقيمي…”
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.