حسن أوريد يكتب: “هل تحفز جائحة كورونا العالم إلى (نيوديل) جديد؟”
تحيل الخطة الجديدة أو “النيوديل” New Deal إلى السياسة التي انتهجها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، بتبني خطة جديدة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي لمعالجة الاختلالات التي نجمت عن الأزمة المالية والاقتصادية لسنة 1929.
كانت تلك الخطة التي اعتمدت سياسة الورش الكبرى من أجل التخفيف من البطالة ودعم الفئات الضعيفة، بروفة ما سيصبح بالكينيزية، نسبة للاقتصادي الإنجليزي كينز الذي ركز على دور الدولة كضابط للاختلالات ما بين العرض والطلب، والإنتاج والاستهلاك، والادخار والاستثمار، وأصبحت نظريته المرجعية أو “البراديغم” paradigm المعتمد في المنظومة الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية إلى غاية صدمة البترول في سبعينيات القرن الماضي.
كثيرون من المحللين يعقدون المقارنة ما بين أزمة كورونا والأزمة المالية والاقتصادية لسنة 1929، ويرون أن الانكماش الاقتصادي الحاصل والمرتقب يُذكّر بما حدث فيما يعرف بالخميس الأسود جراء انهيار قيم الأسهم في بورصة وول ستريت سنة 1929. إلا أن الأزمة الحالية أبعد مدى من أزمة 1929، لأن هذه الأخيرة كانت اقتصادية بالأساس مع مضاعفات اجتماعية، في حين أن أزمة كورونا متعددة الأبعاد، تكتسي طابعاً صحياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وبيئياً.
ومما يزيد من حدة تداعياتها على العالم بأسره هو أن العالم قد أصبح معولم بشكل غير مسبوق على المناحي كافة وبذلك لا ولا يمكن أن يقارن ألبتة بعالم منتصف القرن الماضي.
النظرة الموضوعية تفيد أن الأزمة كانت قائمة قبل أن تندلع جائحة كورونا، على أصعدة عدة، وأن أزمة كورونا لم تزد سوى أن عرّتها وأججتها. كان يظهر جلياً، على المستوى السياسي، عجز المؤسسات الأممية عن التصدي للقضايا التي تهدد الأمن والسلم والاستقرار في العالم. كما كان يظهر جلياً أن أسلوب إدارة ترمب يتسم بالنأي عن القواعد الناظمة لميثاق الأمم المتحدة، ونفورها من الدبلوماسية متعددة الأطراف.
أما على المستوى الاقتصادي، فقد ألقت الأزمة بثقلها منذ 2008، من خلال الكساد الاقتصادي، وعودة الحمائية، وارتفاع البطالة وانخفاض معدلات النمر، مع المضاعفات الاجتماعية الصارخة، كما بدا في سلسلة احتجاجات الشارع عبر العالم. يضاف إلى كل ذلك الاختلالات البيئية مع الاحتباس الحراري والاضطرابات المناخية، التي تهدد مناطق عدة بالتصحر، وأخرى بالأعاصير بل بالغرق.
طبيعة الأزمة الحالية أنها متداخلة ومتشابكة، ولذلك لا يمكن الخروج منها من دون معالجة الأسباب السياسية والاقتصادية والبيئية التي أدت إليها، إذ لا يمكن أن تختزل في الجانب المرتبط بالصحة فقط، على أهميته بطبيعة الحال.
يظل هاجس الحكومات الأول هو صحة المواطنين، وهو ما حظي بالأولوية أثناء أشكال التدابير الاحترازية. أما الأولوية الثانية بعد رفع الحجر، فستقوم على نوع من الموازنة ما بين صحة المواطنين، وما يستلزم ذلك من تدابير احترازية، مع تغيير كثير من العادات الاجتماعية، وبين ضرورة تحريك الاقتصاد، وهو الأمر الذي بدأ بعد رفع الحجر في كثير من البلدان.
أما الأولوية الثالثة، وهي الأهم، والتي ينبغي أن ينصرف إليها التفكير فتكمن في رؤية شمولية للخروج من الأزمة العالمية، أو بتعبير آخر، السعي إلى وضع خطة عالمية جديدة أو “نيوديل”. وهو أمر لا يهم الحكومات وحدها، ولا القوى الكبرى دون سواها، وإنما البشرية جمعاء، حكومات وهيئات مدنية ومثقفين، وقوى حية. لا بدَّ أن يسود النقاش، من خلال مختلف وسائل التعبير وأدواته، ومنتديات مراكز البحث.
ينبغي أن نقر بأن القواعد الناظمة للعلاقات الدولية هي تلك التي برزت عقب الحرب العالمية الثانية في مؤتمر سان فرانسيسكو سنة 1946، وكانت نواة للأمم المتحدة، وكرست انتصار الحلفاء، وأفرزت إطاراً مؤسساتياً للتحدي القائم ما بين الحربين، والذي اتسم بتهديد الأمن والسلم العالميين.
ولكن العالم تغير، مثلما تغيرت المخاطر التي تتهدد البشرية، إذ لم تعد الدول مصدر الخطورة وحدها، ولكن المجموعات كذلك، إما بداخل دولة ما (إرهابية، أو انفصالية)، أو تنظيمات عابرة للقارات كما الشأن بالنسبة لجماعات إرهابية ذات نزوع فوق وطني، فضلاً عن مخاطر البيئة والأوبئة أو ظاهرة الهجرة التي من المرشح أن تأخذ أبعاداً أكثر مدى في ظل الاختلالات الاقتصادية واستفحال بؤر التوتر.
أما على المستوى الاقتصادي فقد قام عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية على مؤسسات اتفاقية بريتون وودز، أي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكانت هاتان المؤسستان إحدى الأدوات الاقتصادية والمالية التي تستعملها الولايات المتحدة لمنح القروض، أو تدبير التوازنات، أو للضغط على الحكومات. وإذا كان كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من الأدوات الأساسية لضبط التوازنات المالية والاقتصادية، فإنهما تصرفا دوماً كبنكين، وأدت السياسات التقويمية التي كانا يدفعان بهما إلى التضحية بالجوانب الاجتماعية، وكانت السياسات التي تفرضانهما تؤديان إلى استفحال التوتر في الغالب، مما يطرح السؤال عن مدى فعالية هاتين المؤسستين مع الأزمة الراهنة.
إلا أن التحدي الأكبر هو غياب مدرسة اقتصادية يمكن أن تكون مرجعية. لأربعين سنة ونيف، سادت المدرسة الليبرالية التي أرستها رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغاريت تاتشر، والتي تقوم ضمن ما تقوم عليه على القطاع الخاص، وانسحاب الدولة في القطاع العام، وتخفيف الضرائب على الشركات، وسياسة العرض.
لكن الواضح أن هذه المرجعية أبانت عن حدودها مع أزمة 2008، إذ لجأت الولايات المتحدة إلى ضخ أموال من الميزانية الفيدرالية لإنقاذ شركات خاصة كما الحال مع جنرال موترس، أو بعض البنوك الكبرى، أي اتخاذ إجراءات منافية للأرثوذكسية الليبرالية التي تأنف من تدخل الدولة، وعمدت إلى إجراءات حمائية منافية لما كانت تدعو له الولايات المتحدة من حرية المبادلات.
لقد لجأت كثير من الدول في غمرة أزمة كورونا إلى إجراءات حماية وتدابير احترازية من أجل حماية الفئات الهشة، إلا أن تلك الإجراءات لا تندرج في مدرسة اقتصادية ذات مرجعية واضحة المعالم. صحيح أن هناك دعوات من لدن اقتصاديين كبار مثل جوزيف ستغلتز وبول كروغمان الحائزين على جائزة نوبل، وكذا الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي، تصب فيما يسمى بكينيزية جديدة.إن حدة الأزمة الحالية تفترض تفكيراً ملياً من أجل وضع خطة جديدة، لأن التحدي الذي أبانت عنه أزمة جائحة كورنا لا يهم دولة دون أخرى، وإنما العالم بأسره، مما يفترض عقداً جديداً، وقواعد مغايرة، مؤسسات عالمية جديدة.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.