كان مما رفعه المتظاهرون، حينما زمجر الشارع في ما عُرف بالربيع العربي، شعارات الحرية والعدالة والكرامة، أو ما يمكن أن نُسميَّه بالثالوث المقدس، تحويرا لمصطلح برز في الستينيات من القرن الماضي، يحيل إلى الموانع الكبرى أو التابوهات في العالم العربي، الدين والجنس والسياسة. الأقانيم الثلاثة لشعار»حرية، عدالة، كرامة» جيل جديد من الشعارات يأتي بعد سلسلة من الشعارات، منها تلك التي نادت بـ»الوحدة والاستقلال»، مما ظهر بالشام أساسا، مع «ثورة» الأمير فيصل بن الحسين بعد الحرب العالمية الأولى، أو شعار «العزة والكرامة» مع الناصرية، أو دعوة الاتجاهات الماركسية بالعدالة، وهو ما أخذته عنها الحركات الإسلامية، بعدها، من خلال الكتاب المرجعي للسيد قطب، «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، أو بروز الشعارات المنادية بالحرية عقب سقوط حائط برلين، مقترنة بخطابات الدمقرطة وحقوق الإنسان.
نحن هنا، مع شعار «الحرية، العدالة، الكرامة»، أمام شيء جديد من موجة الشعارات أو المطالب، مع تلازمها وتداخلها، أي لا يمكن تحقيق واحد منها بمعزل عن الآخر. لم نعد في ذلك التقاطب الذي عرفته أوروبا منذ القرن الثامن عشر، وتوزُّعها ما بين قيمتي الحرية والعدالة، مما غذى اتجاهين متضاربين. ولعل من التحاليل العميقة حول تمايز الحرية عن العدالة، ما كتبه الليبرالي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا» من أن الشعوب تهوى الحرية مع العدالة، ولكنها إن خُيرت ما بين العدالة والحرية، اختارت العدالة في ظل الاستبداد. بمعنى أن الحاجة إلى العدالة عند الشعوب أقوى منها إلى الحرية.
حينما نفكر في مطالب الحرية أو العدالة، نحن نحتاج إلى أن نفكر فيها في القوالب الغربية. القوالب التراثية لا تفيد، وقد تفضي إلى خلط. فالحرية في التراث العربي الإسلامي، مفهوم حقوقي وليس سياسيا، أي أن يكون الشخص «مالكا» لذاته، غير مملوك، في حين أن الحرية في القوالب الغربية، ذات مفهوم فلسفي وسياسي، أي أن يكون الشخص، أو الجماعة، حرة في الفكر والاعتقاد والتصرف، وكذا الحرية في الامتناع عن شيء، في مواجهة أي سلطة، دينية أو سياسية، وفق ضوابط القانون الناظم للمصلحة العامة وليس شيء سواه.
تذهب أغلب الاتجاهات الفكرية حاليا إلى تلازم الحرية والعدالة، أي أنه لا يمكن تحقيق حرية الأفراد والمجتمعات من دون عدالة، وإلاّ صارت «الحرية» شِرْعة غاب يفرض فيها القوي نظرته على الضعيف، ويلتهم الحوت الكبير الحوت الأصغر. وقد نحَتَ العالم السياسي الأمريكي جون راولس في كتابه المرجعي «نظرية العدالة» مفهوم العدالة التشاركية، التي من دونها لن تتحقق الحرية بتمتيع فئات المجتمع جميعها، بما يضمن حاجاتها الضرورية.
إلا أن الذي يهمنا هنا هو رفع شعار الكرامة، في سياق «الربيع العربي»، واقترانه بمطلبي الحرية والعدالة. هل الكرامة تابعة لمطلبي الحرية أو العدالة أم سابقة؟ كيف يمكن الزعم بتحقيق العدالة والحرية مع عدم ضمان كرامة الإنسان، أو تعريضه للامتهان؟ أليست إنسانية الإنسان سابقة على العدالة وعلى الحرية، بل هي الأس الذي ينبيان عليه؟
ننطلق من الواقع، ونرى أن ما يستحث الأفراد والجماعات هو توقها للكرامة، بل استرخاص حيواتها من أجلها، ونُفورها مما يُسمى في الجزائر والمغرب بـ»الحكرة».
هل أفرز الفكر عندنا اجتهادات تحيط بهذه المطالب؟ هل الممارسة السياسية السارية مطابقة لمطالب الكرامة؟ هناك شروط إيجابية أو مادية من شأنها تحقيق الكرامة، مرتبطة بالحاجات الضرورية للمواطنين، من سكن لائق وصحة وتعليم، ومنها شروط سلبية أو نفسية، أي عدم تعريض الشخص أو جماعة للامتهان أو الاحتقار.
من الاجتهادات الفكرية في الغرب تلك التي اعتبرت أن «المجتمع اللائق» أسبق من «العدالة التوزيعية». العدالة التوزيعية مثال وأفق، في حين أن مطلب المجتمع اللائق الذي من شأنه صيانة الكرامة شرط سابق. تنطلق تلك الاجتهادات من ضرورة صيانة كرامة الإنسان أولاّ، للانتقال به إلى العدالة والحرية. لا يمكن طبعها تجزيء هذه المطالب، ولكن الكرامة تعتبر الأس أو القاعدة التي تنبني عليها القيميتان الأُخريان.
إنسانية الإنسان، أو كرامته، تتحقق بعدم التعامل معه، فردا أو جماعة، بصفته شيئا، أو عبدا (وأشكال العبودية تطورت)، أو آلة، أو مجرد مستهلك، أو سوقا، أو إنسانا من الدرجة الثانية. إنسانية الإنسان تستلزم عدم استغباء «الرعاع»، أو الزعم التفكير محلها، مما من شأنه أن يحقق مصلحتها، مما تزعمه الأوليغارشيات. إنسانية الإنسان، أو كرامته، تستلزم احترام ما يشكل ذاتيته، ويقترن به، وعدم الإزدراء به، سواء من حيث ثقافته، أو عرقه، أو لسانه، أو لونه، أو عقيدته، فردا أو جماعة.
وبقدر ما تتحدث الاتجاهات التي تنطلق من العدالة عن التوزيع العادل للثروات، ينطلق الاتجاه المنادي بالمجتمع اللائق من التوزيع العادل للرموز، أي أن تجد كل فئة ذاتها في الرموز المُحتفى بها ولا تشعر بالإقصاء. غلّبت النخبة التكنوقراطية في العالم العربي، تحت تأثير النيوليبرالية الجديدة، الفعالية على العدالة الاجتماعية، وأزرت بالحرية من خلالها تواطئها مع أنظمة بوليسية وتوجهات أمنية، واعتبرت «الخبز» أول الحريات، مثلما قال الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك مدافعا عن نظام بن علي. ومع ترنح موجة النيوليبرالية، لم تجد النخبة التكنوقراطية بُدّا من المقاربات الأمنية، للالتفاف على مطالب الحرية والعدالة والكرامة، وكان حريّا بها أن تراجع ذاتها وتصيخ إلى تموجات مجتمعاتها وتحسن الإصغاء وتجنح إلى الحوار عوض أن تركب رأسها. وتعتبر قضية منطقة الريف بالمغرب، وتعامل السلطات معها، تعبيرا عن صمم النخبة الحاكمة، بجنوحها للمقاربة التكنوقراطية وتغليبها للخيار الأمني، وعدم إدراكها لمطلب «المجتمع اللائق»، وعدم خروجها من مقاربات العد والأرقام والبيانات وجفاف النصوص القانونية.
حينما يُنزع شخص ما (أو جماعة) من كرامته، وحينما لا يؤخذ بعين الاعتبار خصوصيته ولا يعتني برموزه، مهما بُذل لها من «أفضال» مادية، لا شيء يمنع أن تثور العناصر الحية من تلك الجماعات، لأن مطلب الكرامة سابق على الحرية والعدالة، وهو الأمر الذي يُجلّيه المتنبي في هذه الحكمة المأثورة: غير أن الفتى يُلاقي المنايا كالحاتٍ ولا يُلاقي الهوانا.
*كاتب مغربي
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.