الهويات القاتلة
بقلم حسن أوريد* //
حينما صدر كتاب “الهويات القاتلة” لأمين معلوف قبل عشرين سنة، نظرت له آنذاك بارتياب، واعتبرت أنه إجهاز على الخصوصيات الثقافية، والتفاف على دواعي الكرامة، وإقبار لمستلزمات الاعتراف. كنت أحمل ما يسميه الفيلسوف ماكاليت أفيشاي Magalit Avichai بندوب الاحتقار، ولم تكن المسألة مرتبطة بموضة أو باتجاهات ناهضة بل بأشياء تلظيت بها ووقرت في نفسي، ودفعتني إلى أن أتملى كثيرا من الأشياء. وحاولت أن أفهم حالات مشابهة لحالتي، وأكببت على قضايا الهوية، درسا وتفكرا، وأفردت لذلك رسالة الدكتوراه في العلوم السياسية، ووقفت كيف أن الخطاب الاحتجاجي يتغذى من خطابات الهوية حينما تتعثر مسالك العدالة الاجتماعية ويحتقن الوضع السياسي… ولكن كم من المبادئ النبيلة تُستخدم لأغراض دنيئة. كم من كلمة حق يُراد بها باطل… ألا نشهد تمزيق دول وتأليب مجتمعات بعضها البعض تعايشت فيما مضى وتضافرت لما أن تهددتها تحديات خارجية. ولْنلقِ نظرة ولو موجزة على واقع الحال في العالم العربي، حال الأكراد والعرب، والسنة والشيعة في العراق والسعودية واليمن، والمسلمون والموارنة في لبنان، ومسلمو السودان ومسيحيوه ومعتنقو الديانة الإحيائية، وبروز النعرات ما بين العرب والأمازيغ في بلاد المغرب بمعناه العام، والبيضان والسودان في موريتانيا، وهلم جرا… وضع يهدد بالانفجار، ويُرسّخ الإحن، وينتقل بمجتمعات العالم العربي من رمضاء الاستبداد والنظرة الأحادية إلى نار التمزق والحروب الطائفية…
كل هذا يفرض على المثقفين أن يتفكروا في الموضوع تفكرا متأنيا، ويسعوا جهدهم أن يجدوا الحلول لظواهر معقدة، ويقفوا عند أوضاع يمكن أن تتطور سلبا وتأتي على الأخضر واليابس إن لم يتم معالجتها من خلال تشخصيها تشخيصا دقيقا، ولم يتم التعامل معها بموضوعية ولكن بحكمة كذلك. كتب الفيلسوف الفرنسي كي سوزمان
Guy Sorman في جريدة “لومند” مقالا يُحذّر فيه من الهويات ومخاطر توزع المجتمع الفرنسي ما بين فرنسيين “ذوي أرومة أصلية” كما يقال، والآخرين، من جهة، وبين فرنسيين من أصول مسيحية، وآخرين مسلمين من جهة أخرى… وصدر كتاب مر مرور الكرام بعنوان “الهوية أو القنبلة الموقوتة”.
هذا في فرنسا حيث يُحذر مثقفون من خطاب الهوية وقد أضحى دعامة لبعض الاتجاهات وخطابا لشخصيات سياسية، وهي الدولة التي تقوم على مؤسسات راسخة، وقيم، وقواعد القانون، وحقوق الإنسان، على الأقل من الناحية التشريعية، فما بال مجتمعاتنا الهشة إذ يمكن أن تفضي مغازلة الطائفيات والخصوصيات إلى حروب أهلية، وقد أفضت لذلك. خطاب الهوية خطاب جديد لا يزيد على أكثر من جيل، وبرز بالأساس في الدول الأنجلوساكسونية التي تدفع باحترام الخصوصية والتنوع، انطلاقا من واقعها الثقافي كما في حالة بريطانيا، وسبق للشاعر توماس ستيرنز إليوت أن أفرد كتاب للموضوع، ووقف برنارد شو عند هذا الواقع الثقافي المتنوع ، في مسرحيته بيجماليون، كما برز في الولايات المتحدة بالنسبة للمجموعات الثقافية والعرقية، (الإيرلنديين، الإيطاليين، وبعده الأفارقة الأمريكيين)، وتناسل مع مقتضى قانوني هو الذي يسمى Positive action أو الميز الإيجابي… ولكن الطفرة التي دفعت بخطاب الهوية، هي سقوط حائط برلين وبروز القوميات في ما كان الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية، وكانت الحالة اليوغسلافية حالة مدرسية للهويات المتقاتلة، الصرب والكروات والبوسنة والسلوفين والكوسوفو، والمسيحيون والمسلمون…
ما الذي يفضي بجماعة كي تدفع بخصوصيتها؟ أولا مطلب العدالة الاجتماعية، وثانية الاعتراف… بل إن كثير من المحللين، ينطلقون من هيجل الذي يقرن الكرامة بالاعتراف، ويذهبون إلى أن الاعتراف أقوى من مطلب العدالة الاجتماعية، وهو ما يذهب إليه المفكر المغربي، حامل البعث الأمازيغي، محمد شفيق، مستشهدا ببيت المتنبي الشهير :
غير أن الفتى يلاقي المنايا كا // لحات ولا يلاقي الهوانا
مطلب الاعتراف يقوم على بناء تصور، إذ كل خطاب للهوية أو حولها هو بناء جديد انطلاقا من معطيات موضوعية قائمة، لغة، عرق، أو دين..ولكن الأمور ما تلبث أن تتطور إذ لا يستقيم خطاب الهوية من دون شيطنة الآخر ونصبه عدوا. وليس العدو إلا القريب. يبدأ الأمر بالخطاب وينتقل بيسر إلى الفعل…
يصعب من الناحية العلمية تحديد مفهوم “الهوية”، فهو ليس مصطلحا علميا كما يقول ماكس فيبير، والخطاب حينما يظهر، هو عَرَض من الأعراض، لانتفاء العدالة الاجتماعية والكرامة. ومن الضروري معالجة أصل الداء لا أعراضه، وإذا كان لزاما أن نقف على ما يميز أمة ما، فلنتبنَّ مصطلح الشخصية، وهو الثابت عبر الزمن والمكان في تجربة أمة، فمصر غيرت لغتها غير ما مرة، وغيرت دياناتها غير ما مرة، ولكن هناك قواما لا يتغير، هو الشخصية، فهناك شيء ثابت لديها، ويمكن قول ذات الشيء عن الإيطالي الذي لم يعد يتكلم اللاتينية، ولكنه يحمل في وجدانه أثر الشخصية الرومانية… وكذلك الشأن بالنسبة لبلاد المغرب، فيمكن أن يختلف اللسان من منطقة لمنطقة، ومن جماعة دون أخرى، دون أن تتغير البنية العميقة، كما في مصطلح نُعام تشومسكي.
دعوت في مقال، نشر هنا، إلى تجاوز التمايزات الثقافية، في الحالة المغربية، لفائدة الأمة، التي هي من دون شك تقوم على اعتبارات موضوعية، أرض، ثقافة لغة، ولكن الجانب الذاتي مقدم على الاعتبارات الموضوعية، ويقوم بالأساس على العيش المشترك، وقيم المساواة والتضامن. جعلني كاتب عروبي غرضا لانتقادات لاذعة لأني دافعت عن البعد الأمازيغي في الشخصية المغربية، مزج فيها الاعتبارات الذاتية والتوهمات ونزعني من عطفه وتقديره، (كذا)، واعتبر صحافي فيما قلته تراجعا عن “أمازيغيتي”، مثلما أن نشطاء أمازيغ “فضحوا” عدم صفاء عرقي الأمازيغي، وأسفروا عن توجهاتي “العروبية”، وبثوا دفاعي عن القضية الفلسطينية، بالحجة والدليل، وتناقلوه. ولا تستحق تلك الردود أدنى توقف لأنها ردود بافلوفية، لا تصدر عن رَويّة أو تفكر، أو سعة معرفة، ولا مشروع مجتمعي، وتحركها الضغائن والضحالة الفكرية وحب الإثارة والحكم بالظن وماتهوى الأنفس، وقد تكون أصولا تجارية للبعض.
عدت إلى كتاب أمين معلوف، ووقفت حقا أن الهويات يمكن أن تكون مطية للاقتتال، وأن على مَن هم في منزلة بين المنزلتين، أن يضطلعوا بالجسور، ورأب الصدع وتضميد الجراح، حيثما تكون.
*عن حسن أوريد مستشار علمي بهيئة تحرير مجلة زمان
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.