سيمياء الجرح في ديوان (نْڭُولْ كَلمْتِي) للشاعرة وفاء أم حمزة
بقلم : نورالدين حنيف
في ديوان (نْڭُولْ كَلمْتِي)، تقبض نون النسوة في شخص الشاعرة الفاضلة “وفاء أم حمزة” على الزجل كمشروع فني، يتشكل تاريخاً غائرا لأنطولوجيا أشد غورا وهي تمارس كشفاً نوعيّاً في الذات المجروحة، يحرسها الشعر في تجلّيهِ العاميّ الدّارج والمنخرط في سيمياء التكوين، بمباضع زجلية فنّية شديدة الفنّ وراغبة من الألف إلى الياء في تضميد ما هو قابل للضمد، واستلهام ما هو غير قابل …
تسطير منهجي:
إذن، كيف يتأسس فعل الكلام في هذا الديوان الزجلي؟ أجيب دون تردد، وأقول إن العاطفة هي بؤرة التحبير والتعبير والقول وانثيال القول. والعاطفة هنا لا نستحضرها في جانبها العائم والرومانسي الحالم والمتمدد في زئبقية وجدانية غير قابلة للقياس، وإنما نوظفها كمقولة ترتبط أساسا بسيمياء العلامة البانية لأنساق القول عند الشاعرة “وفاء أم حمزة ” .
يتحدث الباحثان السيميائيان غريماس وفونتاني عن العاطفة باعتبارها بيت القصيد في بلورة النص الأدبي داخل نسق سيميائي وَسَماه بـ “سيميائية الأهواء” … والأهواء، يشرحها الناقدان في الثقافة الفرنسية داخل سبع مكونات هي الشعور والانفعال والنزوع والإحساس والمزاج والطبع والجبلّة (1) تجملها ثقافتنا العربية في مكوّن واحد هو مكوّن العاطفة، الذي يحرّك الإنسان في فعل الكتابة المبطّنة بالإحساس العارم بالوجود. من هنا نستطيع موقعة ديوان الفاضلة (وفاء أم حمزة) داخل هذا التأويل السيميائي المبني على قراءة المتون الزجلية داخل بؤر (الأهواء) لا في معناها المرتبط بالهوى الرّابض في مقولات العشق والجوى، ولكن في معناها المرتبط بحالات النفس المتحولة والمتغولة وهي ترسم للذات عالمها الموسوم بـ ( الألم ) والمتجلي داخل جدل ثلاثي الأبعاد تتراوح تفاعلاته بين العاطفة والكلام والفعل .وفيه تتدرج الزجالة “وفاء” تدرجاً ذكيا يرسم معالم الذات المكتوية رسما يتأرجح بين الشعور بالوجود كعلامة هوية ترتبط بالحالة النفسية المركبة، وبين الانفعال كردّ فعل لحظي يقاوم الماحول المتغوّل، وبين النزوع كاستعدادٍ طبيعي يحدد رغبة الذات في الوجود، و بين الميل كنزوع سلبي من الذات في محاولات الهروب من الوجود القاهر، وبين الإحساس كقدرة خفية تستعملها الذات عند الحاجة، وبين المزاج كمركب سيكولوجي يتحكم في الذات، وبين الطبع كمزاج يتحول إلى هيمنة، وبين الجبلّة التي هي شكلٌ من الطبع في حالة ترسخ واستمكان.
يتضخم السؤال في الداخل، ويشعل في الذات بؤرا جديدة من أشكال الإحساس بالقهر المتربص من هذا الزمان بهذا الكائن الموسوم بالجرح الّذي هاج وماج وحوّل الخضرة إلى محلٍ والرّواء إلى عطش … من هنا تتساءل الذات عن إمكان هذا الحرف الساكن فيها وعن قدرته في الخروج كي يرسم في الظلام نقطاً صغيرة لما يشبه وجه القمر، من أجل انفلات ممكن للذات من أسر الموضوع.
تكبر المساءلة وتتعملق في أسئلة أخرى أكثر وجودية تدين الذات لِمَ انخرطت في مادّة البحر والبحر أكبر من كينونتها المتقزّمة العارية من حق التجديف… وفي المساءلة تكتشف الذات حجم حقيقتها الغرّة التي لا تتقن فن العوم وهي ترغب في العوم. تتحجّم المساءلة لتدين الحرف لِمَ اغترب، وترك للوجع مساحات ومسافات يتغوّل فيها بإرادة مطلقة … ولِمَ الخطوُ يتعثّر والصمتُ يكبر، والحب ينطمر و ِمَ الْبوح يتحوّل إلى جمر… ولِمَ ولِمَ ..
يتسيّد الجرح في أزمنة الذات العطشى والمتشبثة بالحلم باعتباره آخر قلاع الذات للاحتماء من هذا القهر الموسوم بالجبروت، وهو الحلم الذي تمجّد فيه الشاعرة فلسفة الحياة المتجددة في نسغ الإحساس بالقهر حتى يخنس هذا القهر ويتراجع القهقرى. لكنّه لا يتراجع، ويصرّ في صلفٍ على إيذاء الذات والنكاية بها في شتى أصناف الابتلاءات …
– عتبة العنوان:
بعيدا عن الإعلان الإشهاري الإغرائي التسويقي، صاغت الشاعرة الزجالة “وفاء أم حمزة” عنوان ديوانها باعتباره علامة سيميائية تشكل الأفق الأول لتلقي الخطاب وبناء القراءة عليه، على اعتبار أن العنوان في (نْڭُولْ كَلمْتِي) ليس مجرد عتبة تلحقُها الشاعرة بأجزاء الديوان لتحفظ هويته، وحسب، وإنما، وأساسا، هو اختيار لوجود ورقي يترجم وجودا فعليا تعي فيه الشاعرة تمام الوعي هذا الاختيار ومقاصده وتداعياته داخل القيمة الاعتبارية البانية لهذه المتون الزجلية بناء مستقلا يضيف ولا يكرر، يغْني ولا يتشابه، يطرح الاختلاف في عقم الشبه ولا ينسخ أو يتناسخ …
وفي أول تحبير تدلف بنا الشاعرة الزجالة الى عالمها الشعري من بوابة العنوان المتلبس في لبوس البساطة والمتغول في المعنى والدلالة (نڭول كلمتي) حيث يبدو التسطير بريئا براءة فنية من أي مكر فني، فيما المكر حاضر ومستفز، خاصةً إذا رجعنا إلى معاني المفردة (كلمتِي) في جذرها اللغوي: الكلمةُ بتكسير اللام، أصلها من الكلام ومن الكلِم بكسر اللام ومنَ الكلْم بتسكينها ارتباطا بمعنى الجرح في تأويل سابق لأوانه يشدّ الكلِمةَ إلى الكلْمِ، حيث تتبدّى الذات متكلِّمةً مكْلُومَةً في الآن ذاتِه.
تدعونا الزجالة (وفاء) باقتدار إلى ممارسة فعل السماع دون إشارة لغوية مباشرة، تدل على فعل الدعوة، إن هي إلا براءة القول في إقحام ذكيٍّ للمتلقي… إذ لا جدوى من أيّ قول في غياب المتلقي وانتفاء الجمهور، وبالتالي في غياب التفاعل والتبادل الواقعي والافتراضي لمجموعة من التداعيات الوجدانية المؤطَّرة بقرار الشاعرة في القول، أي الإبداع… والجملة الزجلية الراقدة في عتبة العنوان (نڭول كلمتي) جملة فعلية يصوغها ضمير الأنا المفرد المؤشر عليه في دارجتنا ب حرف (النون – نڭول) تعويضا لسْنياً لهمزة المُعْرَب (أ – أقول)، وبحرف (الڭاف) المصرية بديلا لسْنياً عن صوت (القاف) كي يكتسب القول شعبيته المتوغلة في وجدان المتلقي المغربي . وهو القول الذي لا يرتبط بالمتن الطويل كالخطبة مثلا أو القصيدة أو الحكاية، وإنما يرتبط بوحَدة لغوية صغرى هي (الكلمة) في تعبير مجازي يطلق الجزء ويريد الكلّ، وفيه تتحول الكلمة من مجرد حيز لغوي معزول ومفرد وقاصر، إلى خطاب نوعي يتمثل ذاته في النوع الأدبي الحامل لفكر المتكلمة وفلسفتها وبتعبير أكثر موضوعية، نقول إنه حامل لرؤاها الخاصة للذات وللوجود وللعلاقة بينهما من منظور فني زجلي.
يفيدنا العنوان أيضا وسياقيا عبر التأويل الممكن أن ثَمّة إصراراً نوعيا على ممارسة فعل القول، وهو إصرار يمتح شرعيته من الرغبة الذاتية في ممارسة حق الكلام في سياق ثقافي يفسح المجال للكلام ويُشرع الأبواب لكل من أراد الكلام أن يتكلم حتى ولو كان هذا الكلام غير الكلام. من هنا نستشف وبقرائن سياقية أن الشاعرة الزجالة تلح على ممارسة الكلام لأنها، أولا تريد التميز ببصمة الكلام لديها، وثانيا لأن جوانيتها مفعمة بكثير من القضايا التي لا ينبغي أن تظل حبيسة الصدر ، وثالثا لأن الداخل المثقل بهذه القضايا لا يستطيع صبرا على اللاكلام، ورابعا لأن ما لديها من قضايا يدخل في صميم الرسالة حتى ولو تبدت موغلة في الخصوصية، فهي تريد إشراك المتلقي في هذا العوم خشية أن يغرق هو أيضا في لجاته، من باب الاعتبار والعبرة، وخامسا لأن هذا الداخل مثخن بالجرح ترجو الذات المتكلمة فضح إثخانه والتخلص من ثقله والبوح به في فضفضةٍ تنشر الجرح، تُعرّيهِ وتغتسل منه، وسادسا لأن الشاعرة تستعمل المؤشر اللسني (كلمتي) بمكر فني يقلب المعنى من المتداول لقاموس (الكلمة) إلى طقوس هذه الكلمة المرتبطة بالألم، وبالتالي نستسيغ تأويلنا الآتي بأن (نڭول كلمتي) هي عبارة حمّالة أوجه، ومن أوجهها: (نْخَرّجْ مَا فِيَّا منْ وْجَعْ وألَمْ) … وسابعا وثامنا وهلُمّ أخيرا …
– قراءة سيميائية:
ننتقل الآن إلى مقاربة تحليلية للكشف عن هذا العالم الذي بنته الزجالة “وفاء” عبر قراءة بعض العلامات الدّالّة وتأويلها في حدود تخطيط سيميائي لا ادّعي فيه امتلاكا، ولكن أروم فيه توظيفا قرائيا داخل رؤية نقدية خاصّة.
أولاً: سيمياء الجرح
يتكرر مكوّن الجرح لسْنِياً في الديوان بشكل ملفتٍ لا يسمح لنا بالعبور عليه عبور الكرام، لأنه علامة مؤسِّسة لفعل الإبداع، ومن ثمّةَ يستدعينا المقام إلى دراسته في سياقه حتى لا نقوّل الكلام ما لم يتكلم به. من هنا، قدرة المفردة على أن تتحول إلى نظام من العلامات المتكلّمة بالذي تصمت عنه المعاجم وبالتالي تتحول المفردة في هذا النموذج المغربي للزجل القائم على فكر الاختراق والانحراف (اللغوي) من مؤشر لسني معزول إلى مؤشر دلالي يقول ويمعن في القول… وأول تخريجٍ للجرح كعلامة هو أن الزجالة “وفاء”، وكإجراء اعتباطي منها، نراها قد أخرجت مفهوم الجرح المرتبط بالألم من شرنقة الحتمية العضوية البيولوجية المرتبطة بحالة المرض إلى أفق الفضاء الاجتماعي الثقافي، وبالتالي فهي قد أخرجت الجرح من دائرة الذاتية المستكينة إلى رحابة الموضوعية القابلة للاعتبار واجتناء الدرس الإنساني من تجربة فردية تتحول إلى مرجعية فنية ترسم الطريق لكل المجروحين .
ترسم الزجالة “وفاء” خارطةً للجرح بامتياز مُنكوٍ لا يعوق انسياب دفقها الإبداعي الثرّ والغني من حيث الدلالات، سواء عبر الإشارة المباشرة من قبيل قولها (عز القرحة – من لوان لجرح – حروفو دم – بقيت مصلوبة – ناحت جروحي – هجرني لفرح وهاج بالجراح – ولد فراشي نهجة مجروحة – عشش ف لجوف طويّر مجروح – نشطب الأرض من هاد الدم – نزلت دمعة مجروحة – اتكفّن الدم ف اغرامو – وعرقو مجروح – مذبوح على وصية زيزونة – بيد لقراح ادفْنتْ… هذه الأمثلة أبيات زجلية مختلفة مقتبسة من قصائد متعددة في الديوان و ليست من قصيدة واحدة) أو عبر التلميحات إلى الجرح من قبيل التعابير التي لا تصرح بالجرح ولكنها توحي به عبر تداعياته على الذات المكلومة … وفي هذا السياق الغني بالإشارات والمؤشرات يتحول مكون الجرح إلى سرادق رمزي يفضح هوية المتكلمة المائلة إلى التيه والضياع (لعقل هاج هبالو – تلف الرّيْ و الشوار – غاب رشدي – بقيت بلا راس – زايد ف حيرتي …). إن الجميل الموخز في هذا التدبيج النسوي هو قدرة الزجالة “وفاء” على معايشة الجرح ومساكنته والتلوّن بتلاوينه حتى لا يقضم منها كل رغبتها في الحياة. وفيه يتحول الجرح إلى إمكان فعلي لممارسة الوجود، ولو تلوّن بتلاوين القلق والإحباط والسوداوية… لكنه لا يصل إلى العدمية كهوىً سيميائي يوجّه أشرعة البوح في مصير الذات المتكلمة، ويسم تاريخها الشخصي بميسم الضعف. إن مكوّن الجرح في هذا الديوان مكوّن ماكر، يوهمنا بتداعي الذات في أنطولوجيا الانهيار، فيما هو علامة واضحة على تماسكها واستمراها في العناد الجميل ضدّاً على تغوّل الجرح وتغوّره .
ثانيا: سيمياء الزمان
الزمان حاضر بامتياز في نسغ الكلام وفي نسغ الوجود الإنساني للذات المتكلمة، يفرض ذاته أولا على عتبات أربع قصائد هي (ف ازحام الوقت – على كتاف الوقت – بين نياب الوقت – بين ليلة وليلة) فضلا عن المؤشرات اللسنية الكثيرة المنثالة في غضون القراءة، والفارضة نسقها على المساحات الورقية للديوان، من قبيل قول الشاعرة (صْفَارَتْ تَبْسِيمةْ لْوَقتْ – آه لُو كانْ يِطَاوَعْنِي الزْمَانْ – وعَادْ الوَقتْ قاهَرْ، غلّابْ – مالكْ يَا زْمان غْدَرْتِي؟ – طْلَقْنِي منّكْ، حَرّرْني من قْيُودكْ، من عْهُودكْ، من خْيُوطَكْ، المْشابْكَة فِيَّا، نَوْلَدْنِي صُبْحْ اجدِيدْ، نْمَرْمَدْنِي فْ الْحَاضَر، نَشْهَقْنِي شَمسْ، بَارْقَة ضَاوْيَة، وْ نَبْقَى نْهارْ بْلا غْرُوبْ … – سَوّكْتْ ايَّامِي بْظْلامْ لَمْعَانِي – ذِيكْ لِيَّامْ الْعَاڭْرَة – كَفّي يَا يّامِي عْلَى كَفّي، كُونِي فْ صَفّي – تْغَرّبْتْ فْ لِيلةْ افْيَاقِي، وْ فَاضْ اللِّيلْ عْليَّا – كَتْفَتْنِي لِيّامْ، بِينْ اضْرُوسْ مَخْفِيّة – بِينْ انْيَابْ لُوقَاتْ، نْدَبّبْ زْمَانِي… هذه الأمثلة أبيات زجلية مختلفة مقتبسة من قصائد متعددة في الديوان و ليست من قصيدة واحدة ) حيث لا يسعفنا المقام في تتبع مؤشرات الزمان، مؤشرا مؤشرا على سبيل الحصر، ويسعفنا التمثيل له بما يفيد ويثبت رؤية الشاعرة للزمان ولمفهومه.
تُخرِج الزجالة “وفاء أم حمزة” الزمان من مفهومه المرتبط بالحيز والوحدة الخطيّة القابلة للقياس، إلى إجرائية انزياحية في لغة زجلية تنحرف بالموضوع انحرافا جماليا معبّرا أشد التعبير عن فسيفساء الداخل المعتمل بشتى أشكال التموج الروحي. وما هذا التموّج إلا ردّات فعل قويّة لصدمة أقوى، تأخذ شكل الأهواء السيميائية في تجليات علاماتية تأخذنا إلى التأويل، مثل هذا التوظيف الفني لمقولة الزمان الدّهر القدر … في سلطته القهرية القاضية بتعذيب الذات. وهو تعذيب ساخر تهكميّ تستدعي فيه الزجالة مسكوكا لغويا شعبيا (الضحكة الصفْرا) في مقابل تعبير الشاعرة بقولها (صْفارَتْ تَبْسِيمةْ لْوقتْ) حيث تشخص الشاعرة الزمان تشخيصا ماكرا تبدو فيه أسنانه صفراء منافقة، وهذا لعمري تمثيل فنيّ لنكاية القدر بالذات في إمعان وإصرار شديدين. يؤكّد هذا التوظيف تعابير أخرى يعجّ بها الديوان حيث تصبح للزمان أنياب وضروس تفتك بكينونة الذات.
هكذا ينمو النص الزجلي في قبضة المبدعة “وفاء”، تستقطب رؤيتها الفنية للوجود جمال الحرف، ويندمج جمال الحرف مع هذه الرؤية في جدل زجلي، يقوم على فعل التحويل الدائم للأشياء إلى موجودات رمزية تتناسل فيه العبارات تناسلا استعاريا مفتوحا على إمكانيات واسعة من التأويل بعيدا عن أحادية القراءة. من هنا نفهم سرّ استدعاء الشاعرة تفاصيل الزمن في مؤشراته اللسنية الصغرى من قبيل توظيفها لـ ( سْواد الليل – تْحجْبَت زِينةْ ايّامُو – لِيلِي بْلا عسّاس – نبْقى نْهارْ بْلا غْرُوبْ – تْغَرّبْتْ فْ لِيلةْ افْيَاقِي، وْ فَاضْ اللِّيلْ عْليَّا – وْ انْهَارْ وْلَدْ اللِّيلْ شَمسْ طَافْيَة – زَادْ فْ اللِّيلْ اظْلَامُو – وَقْتاشْ يِبَانْ خَيطْ لَفْجَرْ – وْ الظْلَامْ يتْسَدْ بَابُو – وَقْتاشْ يطْلَعْ النْهارْ – واللّيلْ يمُوتْ غْرَابُو – ؤُ فْ عَينْ اللّيلْ، اتّرْدَمْ شْبَابِي – بِينْ لِيلَة وْ لِيلَة ، فْقَصْ لْكُون نْهَارِي – كِيفْ مَا اهْرَبْ مَنّي، خْيَالِي فْ اللّيلْ – مَنْ جِهَة بْلا قَفّالْ، ضْرَبْنِي رِيحَ اللِّيلْ … هذه الأمثلة أبيات زجلية مختلفة مقتبسة من قصائد متعددة في الديوان وليست من قصيدة واحدة ) فليس عبثا ولا صدفة أن يأتي مكون الليل جاثما على صدر المعجم في هذه المسيرة الزجلية الجديرة بالوقوف والتأمل واستخلاص الدروس والعبر.
في مقولة الليل ترسم العبارة ذاتها داخل رؤية فنية لا تقنع بالشكوى التقليدية من كابوس الليل وتداعياته في مشتركنا الثقافي وخاصة الشعبي منه حيث يتساكن الليل والخوف معا. والشاعرة في هذا المقام وبالذات، تحوّل الليل داخل أفق المفاجأة وتكسير التوقع، لدى المتلقي الذي تستحضره في غير قصد، على اعتبار أنّ الجمالية الإبداعية هي التي تستدعي المتلقي باعتباره المبدع الثاني القادر على إدراك دينامية المقول والملفوظ، وبالتالي التوغل في قراءة المتون انطلاقا من إدراكه، أيضا لبؤر الخطاب الفاعلة ولمساهمة في خلق حركيته.
يساهم مكوّن الليل وهو يتواطأ مع مقولة الزمان المرتبط بالقهر، في تشكيل الذات حضورا قويّا مخبوءا ثاوياً يقدم بوحا في شكل طقوسٍ اعترافية لتلطيف تغوّل الزمان كوحَدة نفسية كبرى والليل كوحَدة نفسية صغرى، خارجين معاً من دوائر التحقيب والتزمين الفيزيائي… الليل هنا معادل موضوعي للمعاناة المخيّمة على مسيرة الفرح الوجيزة والعابرة والمؤقّتة، بدليل حضور مكوّن النهار باحتشام واضح وكذا مكوّن الصباح والفجر وما شابه هذه الإشراقات الخابية وراء ستار الليل المتغوّل.
ثالثا: سيمياء المكان
في علاقته بمكوّنات الفضاء الشعري، يواجه القارئ في أول تمثله للمتون الزجلية في هذا الديوان، أفقاً سطحيا لنصوصه، ويتمثل في تراكم مجموعة من المفردات الدالّة على المكان في معناه اللغوي المباشر، من قبيل (وَاشْ مَازَالْ يْتْقَطَّرْ الزْهَرْ، مَنْ شْقُوقْ السْمَا – وْ تَنْبَتْ لْفَرْحَة، دَالْيَة فْ جْنَانُو – مُوجَة بْلا عنْوانْ – وَ لْحَالْ مْخَبّلْ فْ حَجْبَان اطْرِيقي – ابْحَرْ صَارطْ مْكَانِي – وْ لْمَحْرَكْ مْقَامْ بْلا نْهَايَة – بِينْ مُوجَة مِيْتَة وْ مُوجَة حَيّة – وبْقِيتْ بْلا مَسْرحْ – مَصْلُوبَة وَسطْ ڭَارَة منْ موَاجْ – مَنْقُوشْ فْ لُوحْ السْمَا – وَانَا فِي بْحُورِي نْقَامَرْ – اشْ دّاني لهادْ لبحَر – بِين مْوَاجْ الظْلَامْ نْسَاعَفْ – مْواجْ بلا بْحَر – ونْشَطّبْ الأرضْ، منْ هَادْ الدّمْ – ؤ فْ دِيكْ لخَيْمَة يلَعبُو لوْتادْ – لْڭَمْرَة اطْرِيقْ – حَفْرَتْ عَلْ لَخْدُودْ وَدْيَانْ – فِينْ نْكُبْها؟ فْ لَبْحَرْ، وْ لَّا فْ الشّطْ – فْ دْرُوبْ السْمَا، تبْكِي وتنْحُطْ، أَرْضِي لْبَسْها لْكَحطْ – زْرَعْتِي مَنّا فْدادَنْ جْرَاحْ – بْنِيتِي مْدِينَة بْلا سُكّان – وَلْغَابَة صُرّةْ لَغْرِيبْ – وتَرْمِيني تَنْهِيدة بْلا عُنْوان – وْنَجْمَة فَ احْضَانْ لَبْحَرْ – نَظْفَرْ امْواجُو ملحْ، ونَبْنِي بِيتْ قْصِيدِي، نْشَطّبْ من تْرابِي لْحَرَجْ – وتْغنّي نَحْلَةْ الرْبِيع حْلاوةْ لْمَرْڭدْ – زْرَعْنِي نَخْلَة بِينْ لَقْبُورْ – كَانْ لَبْحَرْ هَايجْ ؤُ فَ ظْلَامُو ادّانِي – رْمَانِي فْ بِيرْ بْلا ڭَاعْ … هذه الأمثلة أبيات زجلية مختلفة مقتبسة من قصائد متعددة في الديوان و ليست من قصيدة واحدة)
و هو الأفق نفسه الذي يفضي بالقارئ إلى أبعد من هذه الأمداء ارتباطاً بالبصيرة الكاشفة عن خلفيات متعددة يزخر بها توظيف الزجالة “وفاء” لتيمة المكان حيث تومض المعاني في كفّها مشحونةً (سيميائياً) بهواجس كبرى خفية لا ندري مداها، لأنها تريد البوح لا في ثقافة الإمتاع والمؤانسة أو في ثقافة البذخ الأدبي، وإنما في اعتمال واشتعال وجودي حقيقي يتناقض مع المكان في ما هو منسجم معه، بحيث لا تُفهم هذه المفارقة إلا في الخروج من حدود العلامة الشيء إلى العلامة الهوى ، والتي يجلّيها إحساس الذات المكلومة بالمكان حضورا وغيابا.
أ – المكان الحنين: إن مثال الحضور في المكان تُجلّيه رغبة الشاعرة في معانقة الذاكرة التي تستدعي تعويضا نفسيا لغياب المكان المتواطئ مع الذات في جرحها الغائر، فتنصرف آلية التوحد إلى البحث عن بديل ماضوي هو “الْمَرْڭدْ “: (نَبْنِي بِيتْ قْصِيدِي، نْشَطّبْ من تْرابِي لْحَرَجْ، وتْغنّي نَحْلَةْ الرْبِيع حْلاوةْ لْمَرْڭدْ – ؤ فْ دِيكْ لخَيْمَة يلَعبُو لوْتادْ – لْڭَمْرَة اطْرِيقْ … وفيه تكبر الرغبة الوجودية في ممارسة الوجود الكامل (الماضي) حيث اللاجرح، ضدّاً في الوجود الناقص (الحاضر) حيث الجرح، وحيث يتبدى للقارئ ذاك المربع السيميائي واضحا كاشفا لعبة اللغة في مساءلة الوجود : الماضي الحاضر … اللاجرح الجرح . وهو المربع المشحون بالقدرة على التناسل في علامات أخرى دالة ومختلفة أشد الاختلاف من قارئ لآخر. هذا الضرب من المكان تستحضره الذات بسيطا مليئا بالخير والجمال والاستقرار عامراً بالألفة والألّاف.
ب – المكان القاهِر: يمثله البحر في تجليّاته الغاضبة، وهو القمين بتهويل الجرح وتغويله. من هنا قدرة الشاعرة الزجالة على رسم التجانس الدلالي بين الفضاء والمعنى والمعاناة، من خلال توظيف مكوّن البحر كمعادل موضوعي لفكرة القهر والجبروت القاضي بوضع الذات في مآزق الجرح (اشْ دّاني لهادْ لبحَر) حيث ينتفي حضور البحر الطبيعي المرتبط في تمثلاتنا بالفضاء المائي بحيتانه وقيعانه وأمواجه، ولكن يحضر باعتباره علامة سيميائية تدل على الإحساس الدائم بالضعف والهشاشة والتشظي والتقزم في مقابل القوة والصلابة والتماسك والتعملق. ويشي بذلك حضور هذا المكون في غير ما مرة، بتلاوين مختلفة تجتمع على مقولة الجبروت. إن هذا المكون الطبيعي، خارجَ الخلفية المكانية، يحضر بلبوس القوة القاهرة. ويفضح تاريخ الذات الشخصي ويكشف عن طبيعة معاناتها، انطلاقا من اعتباره معادلا موضوعيا للذات في جدل ظاهرها وخفيّها جدلٍ ممتد بين أقانيم الذاكرة والواقع والحلم، موصولٍ بالحياة ومشكلاتها: (ابْحَرْ صَارطْ مْكَانِي – بِينْ مُوجَة مِيْتَة وْ مُوجَة حَيّة – مَصْلُوبَة وَسطْ ڭَارَة منْ موَاجْ – وَانَا فِي بْحُورِي نْقَامَرْ – اشْ دّاني لهادْ لبحَر – بِين مْوَاجْ الظْلَامْ نْسَاعَفْ – مْواجْ بلا بْحَر – فِينْ نْكُبْها ؟ فْ لَبْحَرْ، وْ لَّا فْ الشّطْ؟ – – وْنَجْمَة فَ احْضَانْ لَبْحَرْ – نَظْفَرْ امْواجُو ملحْ – كَانْ لَبْحَرْ هَايجْ ؤُ فَ ظْلَامُو ادّانِي – رْمَانِي فْ بِيرْ بْلا ڭَاعْ … هذه الأمثلة أبيات زجلية مختلفة مقتبسة من قصائد متعددة في الديوان وليست من قصيدة واحدة) هذا فيضٌ من غيضٍ ينمّ عن توظيف فنّي متعدد الأبعاد:
× هو بعدٌ بلاغي يتقن فن الانزياح وفن التشغيل لآلة البيان من منظور حداثي لا يتنكر للموروث الفنّي المفعم بمظاهر التصوير، مثل قولها: (بْحر صارط مْكانِي)، فعلى ما في هذا التصوير من بلاغة تُزِيحُ المعنى من دائرة المعجم المباشر إلى أفق القراءة المفتوحة على كثير من الإدهاش، فيه من الإحساس الأهوائي المخلص لمقدمتنا في سيمياء الأهواء، ما فيه. وهنا تبدو الشاعرة قادرة على تخطيط العلامة داخل الجوانية الخاصة بالذات المتكلمة تخطيطا يدفعنا إلى التأويل الممكن والمفتوح. فأن يبتلع البحر أمكنة الذات، فذاك لعمري تجاوز للطقس الكلامي المحتفل بجمالية الصورة إلى طقس آخر يدعو إلى التوغل مع هذه الذات في عمق المعاناة حتى تتشيّأ للمتلقي واضحة فاضحة لحجم الجرح وحجم الصبر على هذا الجرح. البحر لا يبتلع المكان الشخصي الدال على التاريخ الشخصي للذات فقط، وإنما يتوحد معها في اتجاه التحويل السيميائي لمقولة البحر الخارج من جغرافيته البسيطة إلى قوة الحضور المؤسس لفعل الحياة ولفعل الكتابة عند الشاعرة.
× هو بعدٌ واقعي، لا يبني البيان داخل رومانسية المذهب الحالم الهارب بإشكالية الجرح إلى فضاءات الطبيعة كما نجد عند جبران خليل جبران ومن ساير ركبه في التحبير … ولكنه يمعن في وصف الجرح والذات داخل هذا الجرح في أفق المكان البحري، في غير جلْدٍ أو مازوشية. يمعن في الوصف حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود في مساحة هذه المعاناة، عبر تعابير تعبرنا نحن القراء داخل المساءلة الواخزة في مرارة (فِينْ نْكُبْها؟ فْ لَبْحَرْ، وْ لَّا فْ الشّطْ؟) وهي مساءلة تنتهي بانتزاع البحر لفعل الحضور، وكأن الذات وهي تصور البحر معادلا موضوعيا غاشما، تصوره في الآن ذاته حالّا ومحلولاً فيها يقبل جرحها الذي عجزت فضاءاتٌ أخرى عن تمثله واحتضانه.
× هو بعدٌ أسطوري، بالمعنى الأدبي الموظف للمقول الديني خارج الارتماء الرومانسي. ونمثل لهذا البعد بقولها (رْمَانِي فْ بِيرْ بْلا ڭَاعْ) والضمير يعود على البحر، الذي يتحول إلى فاعل سيميائي يمارس القرار ويرمي بالذات في أتون التاريخ، المعبر عنه بالبئر، إحالةً على النبي “يوسف عليه السلام” … حيث تتماهي الذات المتكلمة مع شخص “يوسف عليه السلام” في مقولة المعاناة، وفيها نستجلي بعدَ الربّانية في التماهي، وبعد المعاناة المتوّجة بالنهايات العادلة، أملاً كبيرا في الخلاص من هذا الجرح، والشفاء المبرم، وبعد الاختيار العلوي للذات وقرار الله بابتلائها تعويضا عن تاريخٍ ماضوي مكلُوم بتاريخٍ استقبالي عامر بالخير والجمال، وبُعد الإمعان في الابتلاء من خلال غياب القاع في مقولة البئر، وبُعدَ الصبر عن النزول التاريخي الذي لا يشي ببارقة أمل في الاقتراب من القاع تهوينا لفعل السقوط والارتطام … كل هذا قد يؤدّي بالذات إلى نوع من السخط، لكنه داخل هذا التوظيف الديني المرتبط بالعلامة السيميائية القرآنية “يوسف” يتحول الوجدان الملتهب إلى حالات أهوائية مفعمة بالصبر والتحمل والجلَد المدثر في مسوح الرضى بقرار الله وقدره.
من ميزات هذا الديوان الموسوم بـ “نْڭُولْ كَلمْتِي” أنه متاهة بمفهوم الثراء لا بمفهوم الاستشكال، بحيث يتحول القارئ لمتونه، سواء أكان ناقدا أم متتبعا عاديا، إلى بؤرٍ من التأويلات الغنية المضيئة والمضيفة نظرا لما يتيح من فضاءات واسعة تستبطن قدرةً صادقة على تحويل الملفوظات اللسانية إلى مشاهد حركية تتأرجح بين حركية الأشياء وحركية الأهواء، لتخلق بذلك إيقاعاً نفسيا يوظف الزمان والمكان والألوان وليقدم لنا في آخر المطاف لوحة إنسانية عميقة الغور النفسي البعيد للمتكلمة في ذات الشاعرة “وفاء أم حمزة ” … وهي لوحة جنّدت لها الشاعرة كل طاقاتها الإبداعية ولم تأل جهداً في أن يكون هذا التجنيد فيضاً غارفا من اللسان والبيان والعرفان.
(1) – غريماس و فونتاني، سيميائيات الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النفس ص 139
(2) – غريماس وفونتاني، سيميائيات الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النفس ص 141
التعليقات مغلقة.